عناصر الخطبة
1/ أعظم الأعمال في حياة المجتمعات والشعوب 2/ فوائد وجود حاكم عادل في المجتمع 3/ فتنة الحكم والسلطان 4/ تأملات في قصة ذي القرنين وكيفية إدارته لمملكته 5/ من صور فتنة الحكم والملك والسلطان 6/ لمحات يسيرة من سيرة وعدل العُمَرَيْن 7/ مصائب الاقتتال على الحكم في بلاد المسلمين 8/ سبل النجاة من فتنة الحكم والسلطاناهداف الخطبة
اقتباس
لماذا يعيش العالم من حولنا شرقاً وغرباً حياة آمنة مستقرة مزدهرة، ونحن أمة الإسلام وأمة القرآن ساءت علاقاتنا مع بعضنا البعض، وساءت العلاقات بين الحاكم والمحكوم وبين الراعي والرعية، فسُفكت الدماء، وأُزهقت الأرواح، ودُمرت المدن والقرى، وضجَّ منا المكان والزمان، والسهل والجبل، والأرض والسماء، وحُكمت كثير من الشعوب بالحديد والنار، والقتل والاغتيالات، والسجون والمعتقلات، وقامت الثورات والانقلابات والتحالفات بين الفترة والأخرى فزادت حياتنا سوءاً .. إننا يجب أن نراجع حياتنا وسلوكياتنا، ونبنى أوطاننا بالحب والتعاون، والأخوة عن طريق نظام وقانون ومؤسسات تنظّم علاقات الفرد والحاكم والمحكوم وطرق التداول السلمي للسلطة، ثم بعد ذلك القيام بواجب الحكم والمنصب خير القيام؛ عند ذلك تسعد أمتنا وتتبدل أحولنا، وتنهض أوطاننا...
الخطبة الأولى:
الحمدُ لله القويِّ المتين، القاهرِ الظاهرِ الملكِ الحقِّ المبين، لا يخفى على سمعِه خفيُّ الأنينِ، ولا يعزُب عن بصرِه حركاتُ الجنِين، ذلَّ لكبريائِه جبابرةُ السلاطين، وَقدر وقضى بحكمتِه وهو أحْكَمُ الحاكمين، أحمده حمْدَ الشاكِرين، وأسْألُه مَعُونَةَ الصابِرين، وأشهد أنْ لا إِله إلاَّ الله وحده لا شريكَ له إِلهُ الأوَّلين والآخرين، وأشَهد أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه المصطَفَى على جميع المرسلين، المؤيد بالروح الأمين وبالملائِكةِ المنزَلين، صلَّى الله عليه وعلى آلِهِ وأصحابه والتابِعين لهم بإحْسانٍ إلى يومِ الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد: عباد الله: سياسة الناس وإدارة شؤونهم وتنظيم علاقاتهم وتوجيه سلوكياتهم من أعظم الأعمال في حياة المجتمعات والشعوب والحضارات والأمم؛ فقد اقتضت سُنة الله في خلقه أنه لا يصلح حالهم ولا تستقيم حياتهم إلا ظل وجود حاكم أو ملك، أو أمير أو رئيس، أو خليفة أو والٍ؛ فيقيم فيهم العدل ويدفع الظلم، وينظّم الحياة ويمنع الفوضى، ويحافظ على الحقوق، وينصح لأمته وشعبه، يأمن في وجوده الخائف ويقوى الضعيف، ويرتدع الظالم، وتُصان الأعراض، وتُعصم الدماء، وتُقام الحدود، ويُحفَظ الدين، فإذا لم يكن في حياة الشعوب والمجتمعات والدول من يتولى إدارة حياتهم تحولت إلى فوضى وصراعات واختلافات لا تنتهي ولا تقوم بعدها حياة ..
والحكم والسلطان وإدارة شؤون الأمم والشعوب والدول مسئولية عظيمة وأمانة كبيرة وواجب لا يُستهان به، جعل الإسلام من يقوم بهذه المسئولية حق القيام من الذين تشملهم رحمة الله وتُرفع درجتهم يوم القيامة، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله"، وذكر منهم "الإمام العادل .." (رواه مسلم)..
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "أهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مقسط متصدق موفق، ورجلٌ رحيمٌ رقيق القلب لكل ذي قربى، ومسلم عفيف متعفف ذو عيال" (مسلم: 2865).
وحذر الإسلام من الانحراف عن هذه المسئولية من قِبَل الحاكم المسلم ومن ولي من أمر المسلمين شيئاَ .. فقال -صلى الله عليه وسلم-: "إن أحب الناس إلى الله يوم القيامة وأقربهم منه مجلسًا إمام عادل، وإن أبغض الناس إلى الله يوم القيامة وأشدهم عذابًا إمام جائر". (الترمذي 1329، والبغوي في شرح السنة (ج10 ص65)، وقال: حسن غريب).
والحكم والسلطان والجاه فتنة من الفتن التي تستهوي النفوس ونوع من الابتلاء وطريق للصراع والحروب والمشاكل والاختلافات؛ عندما ينحرف عن هدفه ويفرّغ من محتواه، وعندما يكون وسيلة لإشباع النفوس وحب التسلط والاستئثار، ولذلك حذّر النبي -صلى الله عليه وسلم- من هذه الفتنة وبيَّن خطورتها، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ، لَا تَسْأَلِ الْإِمَارَةَ، فَإِنَّكَ إِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إِلَيْهَا، وَإِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا..." (البخاري 7146)..
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّكُمْ سَتَحْرِصُونَ عَلَى الإِمَارَةِ، وَسَتَكُونُ نَدَامَةً يَوْمَ القِيَامَةِ، فَنِعْمَ المُرْضِعَةُ وَبِئْسَتِ الفَاطِمَةُ" (البخاري 7148) ..
وفي سورة الكهف نجد سياسة الناس وتدبير أمورهم ورعاية شؤونهم من خلال قصة ذي القرنين في لمحة بسيطة لكنها تحمل دروس عظيمة.. قال تعالى: (وَيَسأَلونَكَ عَن ذِي القَرنَينِ قُل سَأَتلو عَلَيكُم مِنهُ ذِكرًا * إِنّا مَكَّنّا لَهُ فِي الأَرضِ وَآتَيناهُ مِن كُلِّ شَيءٍ سَبَبًا *فَأَتبَعَ سَبَبًا) [الكهف83-85]، وذو القرنين قيل: إنه ملك صالح آمن بالله وبالبعث وبالحساب، فمكّن الله له في الأرض، وقوّى ملكه، ويسر له فتوحاته.
بدأ ذو القرنين التجوال بجيشه في الأرض، داعيا إلى الله. فاتجه إلى غرب الكرة الأرض وأوحى الله إليه أنه ملك عليهم؛ فإما أن يعذبهم أو أن يحسن إليهم. فما كان من الملك الصالح، إلا أن وضّح منهجه في الحكم. فأعلن أنه سيعاقب المعتدين الظالمين في الدنيا، ثم حسابهم على الله يوم القيامة، وأما من آمن، فسيكرمه ويحسن إليه، وبعد أن انتهى ذو القرنين من أمر الغرب، توجه للشرق.
فوصل لأول منطقة تطلع عليها الشمس. وكانت أرضًا مكشوفة لا أشجار فيها ولا مرتفعات تحجب الشمس عن أهلها. فحكم ذو القرنين في المشرق بنفس حكمه في المغرب، ثم انطلق حتى وصل ذو القرنين في رحلته، إلى قوم يعيشون بين جبلين أو سدّين بينهما فجوة. وكانوا يتحدثون بلغتهم التي يصعب فهمها. وعندما وجدوه ملكًا قويًّا طلبوا منه أن يساعدهم في صدّ يأجوج ومأجوج بأن يبني لهم سدًّا لهذه الفجوة، مقابل خراج من المال يدفعونه له.
فوافق الملك الصالح على بناء السد، لكنه زهد في مالهم، واكتفى بطلب مساعدتهم في العمل على بناء السد وردم الفجوة بين الجبلين .. (قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا * آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا * فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا) [الكهف 95-97].
أيها المؤمنون/ عباد الله: والحكم ورئاسة الناس وسياسة أمورهم فتنة من الفتن، وله صور من ذلك أنه يؤدي في كثير من الأحيان إلى الكبر والطغيان والظلم، واتباع الهوى، فيأتي الشيطان لهذا الإنسان يزين له الأمور على غير حقيقتها، وتأتي بطانة السوء من حوله أصحاب المصالح منهم فيقدرون الأمور على غير حقيقتها إلى جانب غرور القوة والمال والأتباع، فيحدث الانحراف والتقصير عن هذه المسئولية ..
عَنْ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَا بَعَثَ اللهُ مِنْ نَبِيٍّ، وَلا اسْتَخْلَفَ مِنْ خَلِيفَةٍ، إِلا كَانَتْ لَهُ بِطَانَتَانِ: بِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالمَعْرُوفِ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ، وَبِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالشَّرِّ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ، فَالمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَ اللهُ تَعَالَى». (البخاري) ..
يقول سيّد قطب -رحمه الله- عن ذي القرنين: "إنه النموذج الطيب للحاكم الصالح.. يمكنه الله في الأرض, وييسر له الأسباب; فيجتاح الأرض شرقًا وغربًا; ولكنه لا يتجبر ولا يتكبر, ولا يطغى ولا يتبطر, ولا يتخذ من الفتوح وسيلة للغنم المادي، واستغلال الأفراد والجماعات والأوطان, ولا يعامل البلاد المفتوحة معاملة الرقيق; ولا يسخر أهلها في أغراضه وأطماعه..
إنما ينشر العدل في كل مكان يحل به, ويساعد المتخلفين, ويدرأ عنهم العدوان دون مقابل; ويستخدم القوة التي يسرها الله له في التعمير والإصلاح, ودفع العدوان وإحقاق الحق. ثم يُرجِع كل خير يحققه الله على يديه إلى رحمة الله، وفضل الله, ولا ينسى وهو في إبان سطوته قدرة الله وجبروته, وأنه راجع إلى الله" (في ظلال القرآن)..
والله تعالى يقول: (يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى) [ص 26].. قال الإمام الماورديّ -رحمه الله-: "إنّ ممّا تصلح به حال الدّنيا قاعدة العدل الشّامل، الّذي يدعو إلى الألفة، ويبعث على الطّاعة، وتعمر به البلاد، وتنمو به الأموال، ويكبر معه النّسل، ويأمن به السّلطان، وليس شيء أسرع في خراب الأرض، ولا أفسد لضمائر الخلق من الجور؛ لأنّه ليس يقف على حدّ، ولا ينتهي إلى غاية، ولكلّ جزء منه قسط من الفساد حتّى يستكمل .. "(أدب الدنيا والدين للماوردي: 141)..
قال -صلى الله عليه وسلم- "أهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مقسط متصدق موفق، ورجلٌ رحيمٌ رقيق القلب لكل ذي قربى، ومسلم عفيف متعفف ذو عيال" (مسلم: 2865)، وعن معقل بن يسار أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «مَا مِنْ عَبْدٍ اسْتَرْعَاهُ اللَّهُ رَعِيَّةً، فَلَمْ يَحُطْهَا بِنَصِيحَةٍ، إِلَّا لَمْ يَجِدْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ» (البخاري: 7150) .. وفي لفظ قَالَ: «مَا مِنْ وَالٍ يَلِي رَعِيَّةً مِنَ المُسْلِمِينَ، فَيَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لَهُمْ، إِلَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ» (البخاري/7151)..
ومن صور فتنة الحكم والملك والسلطان وتولي المناصب: استغلالها لمصالح شخصية أو حزبية أو قبلية، فينتج عن ذلك فساد مالي وإداري، وتضيع حقوق وتهدر واجبات، وتغّيب كفاءات، ويتم وضع الرجل غير المناسب في المكان المناسب، فيحدث خلل في أجهزة الدول الإدارية، وتتخلخل مؤسساتها فتضعف عن القيام بواجباتها تجاه الناس، وتأمين حياتهم وغذائهم وعلاجهم ومساكنهم وسائر حياتهم، ويتحول المجتمع إلى طبقات مترفة وطبقات منسية قد أنهكها الجوع والمرض والخوف والظلم والإسلام إنما جاء بالعدل والحق للناس جميعاً ..
هذا ابن لعمرو بن العاص والي مصر يضرب ابن القبطي بالسوط، وقال له: "أنا ابن الأكرمين" يفتخر بحسبه ونسبه .. فما كان من القبطي إلا أن ذهب إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في المدينة وشكا إليه، فاستدعى عمرو بن العاص وابنه، وأعطى السوط لابن القبطي، وقال عمر له: "اضرب ابن الأكرمين" فلما انتهى من ضربه التفت إليه عمر وقال له: "أدرها على صلعة عمرو؛ فإنما ضربك بسلطانه"، فقال القبطي: "إنما ضربتُ مَن ضربني". ثم التفت أمير المؤمنين إلى عمرو وقال كلمته الشهيرة: التي تكتب في محاكم أوربا والعالم: "يا عمرو، متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا"؟!
عباد الله: ومن صور فتنة الحكم.. إدارة شؤون الناس دون الاحتكام إلى الشرع أو القوانين أو الضوابط التي تصدر في تلك الدول والشعوب والمجتمعات وتدون في دساتيرها ..
فإذا لم بكن هناك دولة مؤسسات وإذا لم يكن هناك قانون يخضع له الناس جميعاً؛ فإن الفتن والمصائب والمشاكل والفوضى تكون سمات تلك الدول والمجتمعات، وعندها يذهب العدل ويختفي الحق ويظهر الظلم وينتشر العنف وتكثر الجرائم، ولذلك اتجه العالم من حولنا إلى بناء المؤسسات، وحدد السلطات، وشُرعت القوانين، وتعلمت الأمم والشعوب ثقافة احترام القانون وتنفيذه، وعدم مخالفته؛ فتطورت وازدهرت واختفت ثقافة العنف والقوة في كثير من جوانب حياتهم، سواء كان هذا العنف من حكام هذه الدول وولاتها أو من الأفراد، وهذا ما كانت عليه أمتنا قروناً من الزمان ..
كتب الجراح بن عبد الله إلى عمر بن عبد العزيز يشتكي من أهل خراسان فقال: "إن أهل خراسان قومٌ ساءت رعيتهم، وإنه لا يُصلِحهم إلا السيف والسوط، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأذن في ذلك.. فكتب إليه عمر: أما بعد، فقد بلغني كتابك تذكر أن أهل خراسان قد ساءت رعيتهم، وأنه لا يصلحهم إلا السيف والسوط، فقد كذبت، بل يصلحهم العدل والحق، فابسط ذلك فيهم.. والسلام". (تاريخ الخلفاء)..
وقد حذر الخليفة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في رسالة لولاته وأمرائه في جميع الأمصار وخاطب بذلك الراعي والرعية حتى لا يكون العنف والظلم والجشع والتكبر والاستعلاء هو أساس العلاقة بينهم فقال -رضي الله تعالى عنه-: "إني والله! ما أُرسل عمالي إليكم ليضربوا أبشاركم، ولا ليأخذوا أموالكم، ولكن أرسلهم إليكم ليعلِّموكم دينكم وسنتكم؛ فمن فُعِلَ به شيء سوى ذلك فليرفعه إليَّ؛ فوالذي نفسي بيده إذًا لأقصَّنه منه، فوثب عمرو بن العاص، فقال: يا أمير المؤمنين! أوَ رأيت أن كان رجل من المسلمين على رعية فأدَّب بعض رعيته أئنك لمقتصه منه؟ قال: إي والذي نفس عمر بيده إذاً لأقصّنه منه، .." (أخرجه أحمد / 273) ..
وأنا أخاطبك يا عمر .. أحدثك يا ابن الخطاب .. لم يعد الولاة والحكام في زماننا هذا يؤدبون الرعية أو يضربونهم وحسب.. بل يعتقلونهم في سجون مظلمة لا ينقذهم إلا الموت.. لا يضربونهم .. بل يسفكون دمائهم، ويهدمون بيوتهم، ويحرقون مدنهم وقراهم، ويقضون على الحرث والنسل؛ لا يفرقون بين طفل صغير وشيخ كبير، ورجل كان أو امرأة، وهذا ليس من الدين أو الإنسانية في شيء فالحق والعدل دستور الحياة وعنوان الكرامة..
ومن صور فتنة الحكم.. التنافس عليه والصراع من أجله وقيام الحروب والمشاكل والأزمات بين الأفراد والأحزاب والجماعات، وتظهر هذه الفتنة عندما يكون هناك استبداد سياسي وظلم اجتماعي، أو عندما تختفي الطرق التي يتداول الناس من خلالها السلطة والحكم.. في الوقت الذي نجد أن كثير من دول العالم أصبح يتنافس أبناؤها ببرامج تخدم الأوطان وتبني الإنسان، وتحفظ للفرد قيمته في وطنه وأمام العالم دون أن تُرَاق قطرة دم، والشعوب هي من تقرر ذلك، ويسلم بذلك الجميع..
فلماذا يعيش العالم من حولنا شرقاً وغرباً حياة آمنة مستقرة مزدهرة، ونحن أمة الإسلام وأمة القرآن ساءت علاقاتنا مع بعضنا البعض، وساءت العلاقات بين الحاكم والمحكوم وبين الراعي والرعية، فسُفكت الدماء، وأُزهقت الأرواح، ودُمرت المدن والقرى، وضجَّ منا المكان والزمان، والسهل والجبل، والأرض والسماء، وحُكمت كثير من الشعوب بالحديد والنار، والقتل والاغتيالات، والسجون والمعتقلات، وقامت الثورات والانقلابات والتحالفات بين الفترة والأخرى فزادت حياتنا سوءاً ..
إننا يجب أن نراجع حياتنا وسلوكياتنا، ونبنى أوطاننا بالحب والتعاون، والأخوة عن طريق نظام وقانون ومؤسسات تنظّم علاقات الفرد والحاكم والمحكوم وطرق التداول السلمي للسلطة، ثم بعد ذلك القيام بواجب الحكم والمنصب خير القيام؛ عند ذلك تسعد أمتنا وتتبدل أحولنا، وتنهض أوطاننا، وهذا ليس ببعيد، ولن يكون أمره عسيرًا إذا صدقت النوايا، وتذكرنا الله والدار الآخرة، وتمسكنا بكتاب ربنا وسنة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-..
اللهم ردنا إلى دينك ردّاً جميلاً.. قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
الخطبة الثانية:
عباد الله: إن كهف النجاة من فتنة الحكم والسلطان والمنصب أن نستشعر أن هذه مسئولية عظيمة أمام الله، وأمام الشعوب والأوطان والتاريخ، ويوم القيامة تكون حسرة وندامة إلا من قام بحقها..
وأن الأوطان تتسع للجميع، ولا بد أن يشترك الجميع في بناء أوطانهم، وأن احتكار السلطة واستخدام الظلم والعنف لا يدوم، ولا نستطيع من خلاله أن نبني أوطانًا أو نؤسس حضارات، وأن الشعوب الحية هي من تختار حكامهم وتراقبهم وتعينهم وتوقف ظلمهم إن وجد ..
وأن القيادات العظيمة للدول من الحكام هم من يسطرون التاريخ بعدلهم وأمانتهم وحسن رعايتهم لشؤون أوطانهم.. وإن العصمة والنجاة من هذه الفتنة كما جاء في سورة الكهف هي الإخلاص لله في الأعمال وتذكر الآخرة، قال تعالى: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا) [الكهف: 103 و104]..
فاللهم أصلح لنا شأننا كله ودبر أمورنا؛ فإنا لا نجسن التدبير، وألّف بين قلوبنا، وأصلح ما فسد من أحوالنا، واحقن دمائنا، وولِّ علينا خيارنا، وتب علينا؛ إنك أنت التواب الرحيم.. هذا وصلوا وسلموا على سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والحمد لله رب العالمين.
التعليقات