عناصر الخطبة
1/ فتنةُ تطاولِ بعض الصحفيين على العلماء 2/ فضل العلماء ومكانتهم 3/ النتائج السيئة للجرأة على العلماء 4/ شهادة التاريخ والحاضر على ذلك 5/ أسباب تأثر الناس بتلك المقالاتاهداف الخطبة
اقتباس
إنَّ في الجرأةِ على العلماءِ هلاكاً للعباد، وقُرباً لعظيم الفساد، وانحلالاً للعقد، وشقّاً للرتق، واستعجالاً للفتن؛ ففي ذَهابهم يلتبِسُ على العباد الحقُّ بالباطل، فيصير المعروف منكرا، والمنكر معروفاً، وتلك مصيبة كبرى! قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: توشك القرى أن تخرب وهي عامرة. قيل: وكيف تخرب وهي عامرة؟ قال: إذا علا فُجَّارُها أبرارَها، وساد منافقُها.
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أ ن محمداً عبدُه ورسولُه.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله: أمرٌ غريبٌ، وشأنٌ عجيبٌ، ما نراه في زمانِنا هذا مِنْ اختلافِ الأحوالِ، واضطرابِ الأمورِ، وكثرةِ الإشاعاتِ، وما نرى من بُعدٍ عن كتابِ اللهِ تعالى، وسنةِ رسولِه -صلى الله عليه وسلم-، حبلِ النجاة، وعروةِ الهدى الوثيقة.
ألا وإنَّ من أوجعِ ما دُهينا به، وأقربِ ما فجعنا به، استطالةُ الأقزامِ، سفهاءِ الأحلامِ، منتحلي الأقلامِ، على العلماءِ الأعلامِ، والصالحين الأخيارِ، عبر وسائل الإعلامِ، من صُحُفٍ، وقنواتٍ قد اتُخِذَت مرصداً لملاحقةِ المؤمنين، ومحاربةِ الصالحين، وتشويهِ دينِ ربِ العالمين، وتحريفِ سنةِ سيدِ المرسلين؛ إضلالاً للعبادِ، وإيعاداً بالفساد، وصداً عن الهدى والرشاد.
ما أعظم فتنتها! وما أعمق رزءها! ولولا أني رأيتُ من عامة الأمة مَن سحَره سِحرها، وفتَنَه مكرها، ووقع في حبائلها؛ فأخذ يقع في العلماء بما قالت فيهم، لأعرضتُ عنها تجاهلاً لشأنها، واحتقاراً لأمرها.
فأقول، بالله مستعيناً: لا يخفى على أحدٍ ما أضرمته أحقادُ المنافقين في مقالاتهم على علماء هذا البلد المبارك، من تحريفٍ لكلامهم، وقذفٍ بالبهتانـ وتسليطِ اللسان بقبيحِ الكلام، ومحاولة إسقاطهم عند عامة أهل الإسلام؛ ولا ننكر أنه كان في عامة الناس سمَّاعون لهم، يسارعون فيهم، يطيرون بما يقرؤون أو يسمعون كُلَّ مَطار، فقد أوجب البيان من كتاب الله القرآن، وسنة رسول الله عليه السلام، ونهجِ السلف الأخيار، لهم من الله الرضوان، (هَـذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ) [آل عمران:138]، (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) [النحل:89]، (إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) [الإسراء:9].
أيها المسلمون: إنَّ هذه الهجمة الشرسة، وهذا المكر الكُبَّار الذي يقوم و يهدف إلى إسقاط العلماء، وإذهاب مكانتهم، وإضاعة قدرهم في توجيه الأمة، وحماية بيضتها حتى ينفض عنهم الناس، ويقولوا ولا يسمع لقولهم، وتلك وربي طامة!.
أيها السلمون: ألا تعجبون من هذه الجرأة على العلماء في هذا البلد بعد أن كانوا من قبل في عزٍ منيع، ومكانٍ رفيع، لا يستطال عليهم، ولا تقضى الأمور دونهم، ولا يصدر إلاَّ عن رأيهم، منذ أن قامت هذه الدولة المباركة؟! فما بالنا اليوم نرى الأمر على النقيض والضد من ذلك، ينال منهم السفهاء بأقذع الكلام وأسوئه بما لا يطيب لهم أن يصفوا به الكافرين، وبات أهل العلم يتوجسون من كل قولٍ خشية الإثارة، وإشاعة القالة، فإنا لله وإنا إليه راجعون!.
ولقد صدق عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- إذ قال: لكل شيء دولة تصيبه؛ فللأشراف على الصعاليك دولة، ثم للصعاليك وسفلةِ الناس في آخر الزمان دولة، حتى يدال لهم من أشراف الناس؛ فإذا كان ذلك؛ فرويدك الدجال، ثم الساعة، والساعة، والساعة أدهى وأمرّ. وجاء في الأثر: "إن لكل شيء إقبالًا وإدبارًا، وإن من إدبار هذا الدين أن تجفو القبيلة بأسرها، حتى لا يرى فيها إلا الفقيه والفقيهان؛ فهما مقهوران ذليلان، إن تكلما فأمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر؛ قُمعا وقهرا واضطهدا؛ فهما مقهوران ذليلان، لا يجدان على ذلك أعوانًا ولا أنصارًا".
عباد الله: إن هذا يوجب التذكير ببيان فضل العلماء وعلو مكانتهم، أما نقرأ في كتاب الله تعالى وجوب طاعتهم، ورَدِّ الأمر إليهم؟ وذلك في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) [النساء:59]، (وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً) [النساء:83].
فهل أطاع هؤلاء الصحفيون، ومن اغتر بمقالهم، اللهَ تعالى حين أرادوا أن يسقطوا مَن أمَر الله تعالى بطاعتهم، وجعَل ذلك إيماناً؟! هل ردوا الأمر إلى أولي الأمر من العلماء، أم ردوه إلى أهوائهم وشهواتهم وواقعهم الفاسد؟! أين يذهبون عن هذه الآية؟! كيف يطيع الناسُ العلماءَ وهؤلاء الصحفيون يشنون عليهم غارتهم، ويعلنون عن مساوئهم، ويحرفون الكلم عن مواضعه؟!.
أما نقرأ في كتاب الله تعالى: (فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) [النحل:43]؟ فأين الصحفيون والمفتونون بقولهم عن هذا الأمر الرباني؟ لا يسألون، بل يعارضون ويشتمون؟!.
أما نقرأ قوله تعالى: (هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ) [آل عمران:7]، الله أكبر! ما أعظم َ مقام العلماء في هذا الثناء من الله تعالى!.
أما نقرأ قوله تعالى: (شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [آل عمران:18]؟ فيا عباد الله! كيف يطيب لمسلم أن يحتقر أهل العلم ويتسمع لكلام المنافقين فيهم وهو يعلم أن الله تعالى قرن شهادتهم بشهادته وشهادة ملائكته في أعظم أمرٍ وهو التوحيد؟! والله لا يكون هذا من مسلم حقٍ!.
أما نقرأ قوله تعالى: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) [المجادلة:11] أرأيتم كيف رفع الله تعالى شأن العلماء فوق أهل الإيمان درجاتٍ؟! وهؤلاء الصحفيون يريدون أن يضعوهم ويذلوهم. كفانا الله شرهم.
وبهذا يتبين لنا أنّه من لم يرفع لأهل العلم مقاماً، ولم يحفظ لهم مكانةً، أنه غير مستجيب لله تعالى في أمره، كما بان لذي عينين أن الصحفيين يعارضون الله تعالى، ويسعون في وضْع مَن رفَعَهُ اللهُ تعالى، وخفْض من أعلاه الله تعالى؛ وويلٌ لمن يريد محادَّة الله تعالى!.
ها هو عمر بن الخطاب يخطب فيقول، معلناً مِنة الله تعالى على العباد بأهل العلم: الحمد لله الذي امتنَّ على العباد بأن يجعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم، يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، ويحيون بكتاب الله أهل العمى؛ كم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وضال تائه قد هدوه، بذلوا دماءهم وأموالهم دون هلكة العباد، فما أحسن أثرهم على الناس! وأقبح أثر الناس عليهم! يقتلونهم في سالف الدهر، فما نسيهم ربك، وما كان ربك نَسِيَّا، جعَل قصصهم هدى، وأخبر عن حسن مقالتهم، فلا تقصر عنهم؛ فإنهم في منزلة رفيعة، وإن أصابتهم الوضيعة.
أيها المسلمون: لقد تواردت آثار بأن من علامات الساعة وأشراطها أن يستعلي السفهاء على العلماء، وأن يظهر أهل المنكر، ويُخَوَّن الأمناء ويؤتمن الخوَنة، ويُصدَّق الكاذب ويكذب الصادق، حتى يصبح المؤمن في ذلة أليمة! يقول الإمام علي -رضي الله عنه - عن ذلة أهل الحق في آخر الزمان: يأتي على الناس زمان المؤمن فيه أذل من الأَمَة.
وإذا أردت أن تتبين حال هؤلاء المفتونين وجدتهم كما جاء في الأثر: "اللهم لا يدركني زمان، ولا تدركوا زمانًا لا يُتبع فيه العليم، ولا يُستحيا فيه من الحليم، قلوبهم قلوب الأعاجم، وألسنتهم ألسنة العرب".
وإذا تأملت هذا الحديث وجدته يصفهم وصفاً دقيقاً، فإنهم لا يتَّبعون العليم، ولا يستحيون من الحليم، قلوبهم قلوب الأعاجم؛ لقلة فقههم في الدين، وانحرافهم عن المروءات والشيم العربية، وتخلقهم بأخلاق الأعاجم من طوائف الإفرنج وغيرهم من أعداء الله تعالى، وشدة ميلهم إلى مشابهتهم في الزي الظاهر وجميع الأحوال، واتباع سننهم حذو القذة بالقذة. والمشابهة في الظاهر إنما تنشأ من تقارب القلوب وتشابهها؛ كما قال الله تعالى: (كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ) [البقرة:118].
الخطبة الثانية:
أيها المسلمون: إنَّ في الجرأةِ على العلماءِ هلاكاً للعباد، وقُرباً لعظيم الفساد، وانحلالاً للعقد، وشقّاً للرتق، واستعجالاً للفتن؛ ففي ذَهابهم يلتبِسُ على العباد الحقُّ بالباطل، فيصير المعروف منكرا، والمنكر معروفاً، وتلك مصيبة كبرى! قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: توشك القرى أن تخرب وهي عامرة. قيل: وكيف تخرب وهي عامرة؟ قال: إذا علا فُجَّارُها أبرارَها، وساد منافقُها.
ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم، ويثبت الجهل، ويشرب الخمر، ويظهر الزنا، وتظهر الفتن، ويلقى الشح، ويكثر الهرج". قيل: يا رسول الله! أيما هو؟ قال: "القتل، القتل".
أرأيتم كيف جعل النبي -صلى الله عليه وسلم- ذهاب العلم وظهور الجهل مقدمة لفساد الناس وظهور المنكرات؟! وأي شيء أذهب للعلم من احتقار حمَلَته والطعن فيهم على مرأى ومسمع من آلاف الناس؟!.
وعن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالمًا؛ اتخذ الناس رؤساء جُهَّالًا، فسُئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلُّوا وأَضَلُّوا".
وعن ابن مسعود -رضي الله عنه- أنه قال: لا يزال الناس مشتملين بخير ما أتاهم العلم من أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- ومن أكابرهم، فإذا أتاهم العلم من قِبَل أصاغرهم وسفهائهم، وتفرقت أهواؤهم؛ هلكوا.
وهذا -والله- هو الحق! أنَّ أحوال الناس لا تضطرب إلا حين يفقدون العلماء أو يعصونهم، ولا يردون الأمر إليهم كما أمر الله تعالى، فها هي شواهد التاريخ ناطقة، وحاضر الواقع بيِّن؛ أما أنبأنا التاريخُ عن جرأة غوغاء الناس على الخليفة الثالث عثمان حتى قتلوه ولم يسمعوا له أمراً، ولا لأحدٍ من صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قولاً، فماجت الفتن، واضطربت الأمة، وسفكت الدماء، ثم خرجت الخوارج على عليِّ –رضي الله عنه- ولم يطيعوا له أمراً؟ وهكذا نبأ التاريخ ناطق أن من أسباب هلاك الناس عصيان العلماء والاستئثار بالأمر دونهم.
وأما نبأ الحاضر فإنا نحن في هذا البلد المبارك رأينا كيف كان علماؤنا يسبقون الناس في التحذير من الفتن؟! ويمنعونهم من أسبابها؟! فما موقفهم من حادثة الحرم، وأيام حرب الخليج، وحوادث الاعتداء القريبة، إلاَّ برهانٌ على أنَّ العلماء أمَنةٌ للأمة حين تطيعهم الأمة وتسمع نصحهم، بينما نرى هؤلاء الصحفيين يؤججون نيران الفتن بما ينتهكون من حرمات صريحة، ويشيعون من تُهَمٍ باطلة، كحال المنافقين من قبل.
ألا وإنّ من أعظم أسباب تأثر الناس بهذه المقالات هو بعدهم عن كتاب الله تعالى، وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، مصدر العلم الحق والهدى البيِّن، وإيثارهم للجهل.
فاحذروا -عبادَ الله تعالى- أن ينطوي قلب أحدكم على بغضاء لأهل العلم الأخيار، أو يحتمل لسان أحدٍ منكم طعناً على أهل العلم؛ بسبب هذه الجرائد والصحف والقنوات المسخ.
التعليقات