عناصر الخطبة
1/ الأمر الإلهي بالاستقامة 2/ مفهوم الاستقامة المأمور بها 3/ تعلُّق الاستقامة الحقة بالله إخلاصًا ونهجًا 4/ عدم الركون للطاعات والإعجاب بها 5/ ملازمة الاستقامة وعدم قصرها على المواسم الفاضلة 6/ ثبات سالكي الصراط المستقيم على صراط الآخرةاهداف الخطبة
اقتباس
الأعمالُ نفسُها والاستقامة عليها منحةٌ إلهية، وهِبَةٌ ربانية، وعطيةٌ من المولى -جل في علاه-، والفضل بيده يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم؛ فلا يركَن عبدٌ إلى أعماله، ولا يُعجَب بطاعاته مهما كثُرت وتعدَّدت؛ بل عليه أن يرى نفسه دائمًا وأبدًا رؤية المقصِّر المفرِّط، ليكون دومًا محاسِبًا لنفسه على تفريطها وتقصيرها، وليكون دومًا مستعينًا بالله -تبارك وتعالى- على المزيد من الطاعات والاستكثار من العبادات ..
الحمد لله؛ أحمده -جلَّ في علاه- بمحامده التي هو لها أهل، وأثني عليه الخير كله، لا أحصي ثناءً عليه، هو كما أثنى على نفسه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
أيها المؤمنون عباد الله: اتقوا الله -تعالى- وراقبوه -سبحانه- مراقبة مَن يعلم أنَّ ربه يسمعه ويراه. وتقوى الله -جلّ وعلا-: عملٌ بطاعة الله، على نورٍ من الله؛ رجاء ثواب الله، وتركٌ لمعصية الله، على نورٍ من الله؛ خيفة عذاب الله.
عباد الله: يقول الله -تبارك وتعالى- آمرًا نبيَّهُ ومصطفاه وعباده المؤمنين: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [هود:112]؛ أمَرَ -جل وعلا- بالاستقامة، والثبات عليها، ولزومها؛ وحذَّر من ضدِّها وهو الطغيان، وأخبر -جل وعلا- أنه بصيرٌ بأعمال العباد، مطَّلعٌ عليهم، لا تخفى عليه من أعمالهم خافية.
أيها المؤمنون عباد الله: والاستقامة المأمور بها هي كلمةٌ آخذةٌ بجماع الدين وجوامع الشريعة كلها؛ لزومًا لطاعة الله -جل وعلا-، ووفاءً معه بالعهد، وامتثالاً لأوامره، واجتنابًا لنواهيه، وسعْيًا حثيثًا في طلب مرضاته -جلَّ في علاه-، وهي -أيها المؤمنون- تتعلق بالأقوال والأفعال والأحوال والنيات؛ وذلك بوقوعها لله، وبالله، وعلى أمر الله -تبارك وتعالى-.
فهذه ثلاثة أمور عظام لابد منها في الاستقامة:
الأمر الأول: أن تكون لله -تبارك وتعالى-؛ أي: خالصة لا يُبتغي بها إلا وجه الله -سبحانه وتعالى- ونيْل رضاه، كما قال الله -تعالى-: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) [البينة:5]، وكما قال -جل وعلا-: (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ) [الزمر:3].
والأمر الثاني: أن تكون بالله؛ أي: أن يستعين بالله على تحقيقها، فإنه لا حصول للاستقامة ولا ثبات عليها إلا بالله -تبارك وتعالى-، فهو المعِين وحده والهادي إلى سواء السبيل.
والأمر الثالث: أن تكون على أمر الله؛ أي على النهج الذي أمر به، والشرع الذي دعا إليه، والذي بلَّغه رسوله ومصطفاه -صلوات الله وسلامه عليه-، فالاستقامة لا تكون إلا على الأمر؛ لا بالأهواء والبدع والآراء والتخرصات.
أيها المؤمنون عباد الله: ومَن وُفِّقَ للاستقامة، وأُعين على لزومها، ويُسِّرت له الأعمال، وذُلِّلت له الطاعات، فلا يركن إلى شيءٍ منها، ولا يُعجَب بشيءٍ من عمله؛ مهما كثُر وتعدَّد وتنوَّع، روى مسلم في صحيحه، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "قَارِبُوا، وَسَدِّدُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَنْ يَنْجُوَ أَحَدٌ مِنْكُمْ بِعَمَلِهِ". قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ: وَلا أَنْتَ؟! قَالَ: "وَلا أَنَا، إِلا أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللهُ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ".
أيها المؤمنون عباد الله: الأعمالُ نفسُها والاستقامة عليها منحةٌ إلهية، وهِبَةٌ ربانية، وعطيةٌ من المولى -جل في علاه-، والفضل بيده يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم؛ فلا يركَن عبدٌ إلى أعماله، ولا يُعجَب بطاعاته مهما كثُرت وتعدَّدت؛ بل عليه أن يرى نفسه دائمًا وأبدًا رؤية المقصِّر المفرِّط، ليكون دومًا محاسِبًا لنفسه على تفريطها وتقصيرها، وليكون دومًا مستعينًا بالله -تبارك وتعالى- على المزيد من الطاعات والاستكثار من العبادات.
نعم أيها المؤمنون؛ لا تكون حال المستقيم على طاعة الله كحال بعض الناس الذين إنما ينشطون للاستقامة في مواسمَ معيَّنةٍ أو شهرٍ معيَّن أو وقتٍ فاضلٍ، ثم إذا انقضى فرَّطوا وضيَّعوا وأهملوا، فهذه -عباد الله- حالٌ مزرية مؤسفة، وشأنها كشأن من قال الله عنهم: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا) [النحل:92].
نعم -أيها المؤمنون عباد الله-؛ المواسم الفاضلة هي عونٌ للعبد على مزيد العطاء، والاستمرار على الطاعة، ومداومة العبادة، وليست مواسم يُقتَصَر على الطاعة فيها ثم إذا انقضت مالَ العبد إلى الإهمال والتفريط. وقد ذُكِر لبعض السلف حال أقوام إذا دخل رمضان نشطوا للعبادة، وإذا خرج فرَّطوا وضيَّعوا! قال: "بئس القوم! لا يعرفون الله إلا في رمضان".
أيها المؤمنون عباد الله: إن ربَّ رمضان الذي نشِط الناس لعبادته فيه هو رب الشهور كلها والسنوات جميعها، والمطلوب من المؤمن أن يكون عبدًا لله، مستقيمًا على طاعة الله، إلى أن يتوفاه الله -تبارك وتعالى- وهو على هذه الحال الكريمة، كما قال الله -تعالى-: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [الحجر:99]، وكما قال -جل وعلا-: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) [فصلت:30].
رزقنا الله أجمعين الاستقامة على طاعته، ووفقنا أجمعين للزوم سبيل الهداية، وأعاذنا أجمعين من الضلال والغواية؛ إنه سميع الدعاء، وهو أهل الرجاء، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلَّم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
ثم أما بعد:
عباد الله: اتقوا الله -تعالى-، واعلموا -رعاكم الله- أن الجزاء من جنس العمل؛ فمن استقام على طاعة الله ولزِم في هذه الحياة صراط الله المستقيم وفَّقه الله -جل وعلا- يوم القيامة للثبات على الصراط المستقيم الذي يُنصب على متن جهنم، والمشار إليه في قول الله -تبارك وتعالى-: (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا) [مريم:71-72].
أيها المؤمنون عباد الله: ومن تخطَّفته الشبهات والشهوات فصرَفَته في هذه الدنيا عن صراط الله المستقيم خطفَتْه الكلاليب التي على جَنْبَي الصراط المنصوب على متن جهنم يوم القيامة؛ فلْنستعِذ بالله، ولنستعن بالله، ولنسأله -جل في علاه- التوفيق لرضاه، فهو المُعِين وحده، ولْنُجَاهِدْ أنفسنا على طاعة الله -تبارك وتعالى-، والله -جل وعلا- يقول: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) [العنكبوت:69].
واعلموا -رعاكم الله- أنَّ أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بالجماعة، فإن يد الله على الجماعة.
وصلُّوا وسلِّموا -رعاكم الله- على محمد بن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى الله عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا".
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد.
وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين، الأئمة المهديين: أبي بكرٍ وعمر وعثمان وعلي، وارضَ اللهم عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بمَنِّك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم انصر مَن نصر دينك وكتابك وسنَّة نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم-.
اللهم انصر عبادك المؤمنين المستضعفين في كل مكان، اللهم انصرهم في أرض سوريا وفي بورما وفي كل مكان يا ذا الجلال والإكرام، اللهم كن لهم ناصرًا ومُعِينًا وحافظًا ومؤيِّدًا، اللهم آمِنْ روعاتهم، واستر عوراتهم، واحقن دماءهم، واحفظهم مِن بين أيديهم ومِن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم، اللهم واحفظهم بما تحفظ به عبادك الصالحين.
اللهم وعليك بأعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، اللهم إنا نجعلك في نحورهم، ونعوذ بك اللهم من شرورهم، اللهم مَن أرادنا أو أراد ديارنا أو أراد أحدًا من إخواننا المسلمين في كل مكان بسوء فأشغله في نفسه، واجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميره إله الحق.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك.
اللهم وفِّق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه من سديد الأقوال، وصالح الأعمال، اللهم وفِّق جميع ولاة أمر المسلمين للعمل بكتابك، وتحكيم شرعك، واتباع سنة نبيك محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، اللهم واجعلهم رحمةً ورأفةً على رعاياهم يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم آتِ نفوسنا تقواها، وزكِّها أنت خير من زكاها، أنت وليُّها ومولاها.
اللهم لك أسلمنا، وبك آمنَّا، وعليك توكلنا، وإليك أنبنا، وبك خاصمنا، نعوذ بعزتك لا إله إلا أنت أن تضلنا، فأنت الحي الذي لا يموت، والجن والإنس يموتون.
اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفة والغنى. اللهم إنا نسألك الهدى والسداد. اللهم يا مقلِّب القلوب ثبِّت قلوبنا على دينك يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، والموت راحةً لنا من كل شر.
اللهم اغفر لنا، ولوالدِينا، وللمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات. ربنا إنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله: اذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) [العنكبوت: 45].
التعليقات