عناصر الخطبة
1/وقفة تأمل مع قوله "من أصبح منكم آمنا في سربه" تزامنا مع زلزال تركيا وسوريا 2/مشاهد من مآلات زلزال تركيا وسوريا 3/واجبنا نحو أهلنا في سوريا؛ العظة والمواساةاقتباس
في لَحظةِ عَينٍ تَغَيَّرَ الحَالُ، ذَهبَتْ النَّفسُ والأهلُ والمَالُ؛ فَهَل عَلِمنا الآنَ مَعنى الحديثِ؟، وهَل استَشعَرنا نِعمةَ الأمنِ في البِلادِ، والعَافيةِ في الأجسادِ؟، هَل تَدَبَّرنا قَولَنا كُلَّ صَباحٍ ومَساءٍ: "وأعوذُ بِعَظَمتِكَ أَن أُغتالَ من تَحتي"...
الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ العَظيمِ في قَدرِهِ العَزيزِ في قَهرِهِ، العَليمِ بِحالِ العَبدِ في سِرِّهِ وَجَهرِهِ، أَحمدُهُ عَلى القَدَرِ خَيرِهِ وَشَرِّهِ، وأَشكرُهُ عَلى القَضاءِ حُلوهِ ومُرِّهِ، وأَشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وَحدَهُ لا شَريكَ لَهُ، لَهُ الآياتُ البَاهرةُ، ومن آياتِهِ أن تَقومَ السَّماءُ والأرضُ بأمرِهِ، وأَشهدُ أن نبيَّنا وسَيدَنا مُحمداً عَبدُهُ ورَسولُهُ، صَلَّى اللهُ عَليهِ وعَلى آلِهِ وأَصحابِهِ وسَلمَ تَسليماً كَثيراً، أَمَّا بَعدُ:
فيا أيُّها المسلمونَ: اتقوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ، وسَارعوا إلى مَغفرتِه ومَرضاتِهِ، وسَابقوا إلى رَحمتِهِ وجَنتِهِ، وحَاذِروا سَخطَهُ وأَليمَ نِقمتِهِ، (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ).
تَعالوا لِنَستَمِعَ إلى شَرحٍ لِحَديثِ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- عِندَما قَالَ: "مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا"؛ ولَكنْ الذي سَيَشرحُ هَذا الحَديثَ، لَيسَ عَالِماً جَليلاً يَستَنبِطُ الحِكمَ، وَلَيسَ خَطيباً بَليغَاً يَستَخرجُ الفَوائدَ، وَلَنْ نَقرأَ كِتاباً أَصيلاً يَشرَحُ المَعانيَ، وإنَّما نَستمِعُ إلى شَرحِ هَذا الحَديثِ مِن أَقدارِ العَزيزِ الحَميدِ؛ فَفِيهِ واللهِ الذِّكرى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ.
بَعدَ هُدوءِ لَيلةٍ بَاردةٍ مِن لَيالي الشِّتاءِ، والنَّاسُ قَد نَاموا فِي دِفءٍ وهُدوءٍ وصَفَاءٍ، وإذا بالأرضِ تَرجُّ رَجَّاً، وإذا بالمَكانِ يَضُجُّ ضَجَّاً، صُراخٌ، صِياحٌ، بُكاءٌ، دُعاءٌ، استِغاثاتٌ هَاتِفةٌ، وقُلوبٌ وَاجِفةٌ، بُيوتٌ تَتَهاوى؛ فَأَصبحَ أعلَاها أسفَلَها، وشَوارعُ تَتصدَّعُ، فَابتَلَعَتْ مَنْ كَـانَ عَلى ظَهرِها في بَطنِها، ثَوانٍ مَعدودةٌ، وفي أَرضٍ مَحدودةٍ، وإذا بالآثارِ التي خَلَّفَها الزِلزالُ، فَاجِعةٌ يَشيبُ مِن هَولِها الأطفالُ، آلافُ القَتلى والمُصابينَ، وآلافٌ تَحتَ الأنقاضِ مُحتَجَزينَ، كِبَارٌ وصِغارٌ، رِجالٌ ونِساءٌ، مِنهم مَن يَستَغيثُ ومِنهُم من لا تَسمعُ لَهُ هَمساً.
هَل رَأيتُم ذلكَ الرَّجلَ وهو يَنظرُ إلى بَيتِهِ وقَد أصبَحَ قَبراً لأفرادِ أُسرَتِهِ، نَظرةً لا يَسٍتطيعُ الكلامُ لَها وَصفاً؟
هَل سَمعتُم ذلكَ الأبَّ الذي لَم يَستَطِعْ أن يُنقِذَ ابنَهُ مِن تَحتَ الأنقاضِ، فَأصبَحَ يُلَقِنَّهُ الشَّهادةَ؟
هَل لاحظتُم تِلكَ الأمَّ وهِي تُعَانقُ ابنتَها العِناقَ الأخيرَ، فَتخرجُ الأرواحُ مَتعَانِقةً كَما كَانتْ في الدُّنيا؟
هل تأملتُم في تِلكَ الأختِ الصَّغيرةِ وهي تَحمي أخَاها الصَغيرَ بِجِسمِها تَحتَ الأنقاضِ؟
هَل أَبكَاكُم ذَلكَ الجَنينَ الذي وَلدَتْهُ أمُّهُ تَحتَ الحُطامِ؟، وكأنَّنا نَرى صُورةً مُصغرةً لأهوالِ الآخرةِ، في قَولِه -تَعالى-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا)، وعِندَما تَأكَدَتْ أَنَّهُ استَقبلَ الحياةَ وَدَعَتْهُ وهو لا يَعلمُ مَعنى الوَداعِ.
هَل تَعَاطَفتُم مَعَ ذَلكَ الطِّفلِ النَّاجي الوَحيدِ مِن عَائلتِهِ، ولا يَدري عمَّا جَرى وإنَّما هو فَرِحٌ بمَوزتِهِ؟
يا أرحمَ الرَّحمينَ ارحمْ عِبادَكَ مِنْ *** هَذي الزَّلازلِ فَهيَ الهَلاكُ والعَطَبُ
مَاجَتْ بهم أَرضُهم حَتى كَأنَّهمُ *** رُكابُ بَحرٍ مَعَ الأَنفاسِ تَضطربُ
كَأنَّها سُفُنٌ قَدْ أُقلِبتْ وَهمُ *** فِيها فَلا مَلجأٌ مِنهَا ولا هَرَبُ
في لَحظةِ عَينٍ تَغَيَّرَ الحَالُ، ذَهبَتْ النَّفسُ والأهلُ والمَالُ؛ فَهَل عَلِمنا الآنَ مَعنى الحديثِ؟، وهَل استَشعَرنا نِعمةَ الأمنِ في البِلادِ، والعَافيةِ في الأجسادِ؟، هَل تَدَبَّرنا قَولَنا كُلَّ صَباحٍ ومَساءٍ: "وأعوذُ بِعَظَمتِكَ أَن أُغتالَ من تَحتي".
هَل رأينا بأعيِنِنا كَيفَ هُوَ ضَعفُ الإنسانِ أمامَ أَقدارِ الرَّحمنِ؟، هَل ظَهرَ لَنا نِعمةَ قَرارِ الأرضِ وسُكونِها؟، (أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَءِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ)، نِعَمٌ أحياناً لا نَنتَبِهُ لَها إلا في مِثلِ هَذهِ السُّننِ الكَونيةِ، فاللهمَّ أحيي قُلوبَنا.
بَاركَ اللهُ لَنا بالقُرآنِ العَظيمِ، ونَفعَنا بما فِيهِ من الآياتِ والذِّكرِ الحَكيمِ، وأَستغفرُ اللهَ لي ولكم؛ إنَّهُ هو الغَفورُ الرَّحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحَمْدُ لِلَّـهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، أَمَّا بَعْدُ:
أيُّها المُسلمونَ: ما حَدَثَ لإخوانِنا في تُركيا وسُوريا مما يَحزَنُ لهُ القَلبُ، وتَدمعُ لَهُ العينُ، ولا نَقولُ إلا ما يُرضي اللهَ -تَعالى-، هي الأسرارُ في الأقدارِ، هُناكَ مَن كَتبَ اللهُ -تَعالى- لَه الشَّهادةَ تَحتَ الهَدمِ، وهُناكَ مَن أرادَ اللهُ لَهُ رَفعَ الدَّرجاتِ في عَظيمِ البَلايا، وهُناكَ من أرادَ اللهُ لَهُ الرُّجوعَ وتَركَ الخَطايا، هُو القَضاءُ والقَدَرُ ومَا فيهِ مِنَ الحِكمِ والخَفايا.
تُزَلْزَلُ الأرضُ، هَذي قُدْرَةُ البَاري *** فَكلُّ نَازلةٍ فِيها بمِقْدارِ
يُقَدِّرُ اللهُ فِيها وَهوَ خَالقُها *** مَا شَاءُ، فَهيَ عَلى أَكتافِ أَقدارِ
لحكمةٍ خَفِيَتْ تَجري نَوازلُها *** واللهُ أَدرَى بَأسبابٍ وأَسرارِ
مَا هَذهِ الأرضُ إلا دَارُ مُرتحَلٍ *** يا قُرْبَ رِحلتِه عَنْ هَذهِ الدَّارِ
وأما نَحنُ فَلنا في هذه الزَّلازلِ عِبرةٌ، وتَأملوا هَذا الحَديثَ، قَالَ عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: "لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حتَّى يُقْبَضَ العِلْمُ، وتَكْثُرَ الزَّلَازِلُ، ويَتَقَارَبَ الزَّمَانُ، وتَظْهَرَ الفِتَنُ، ويَكْثُرَ الهَرْجُ، قالوا: وما الهَرْجُ يا رَسولَ اللهِ؟، قالَ: القَتْلُ القَتْلُ"؛ فَعَلينا بالرُّجوعِ إلى اللهِ -تَعالى-، وإذا كَانَ هَذهِ زِلزالُ الدُّنيا، فَكيفَ بزلزالِ الآخرةِ؟، يَقولُ اللهُ تَعالى: (إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا)، فَفي ذَلكَ اليومَ تَتكَلمُ الأرضُ مَع الزَّلزلةِ، فَكيفَ سَيكونُ الحَالُ؟، وصَدقَ سُبحَانَهُ: (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَىٰ وَأَمَرُّ).
فَعلينا نَحنُ أعضاءُ الجَسدِ الوَاحدِ، الدَّعاءُ لأهلِنا في سُوريا وتُركيا، ومَدُّ يَدِ العَونِ لَهم عَن طَريقِ الحَملةِ الشَّعبيةِ لإغاثةِ مُتَضرري الزِّلزالِ بسُوريا وتُركيا التي أطَلقَها وُلاةُ الأمرِ في هَذِهِ البَلادِ، وما ذلكَ عَليهم بِغَريبٍ، فجَزاهُم اللهُ خَيراً.
اللهمَّ إنَّا نَستَودِعَكَ جَميَع المسلمينَ والمسلماتِ فِي كُلِّ مَكانٍ وزَمَانٍ، اللهمَّ اجعلْ مَا أَصابَ إخوانَنا في تُركيا وسُوريا خَيراً ونِعمةً عَليهم، اللهمَّ احفظْهُم وأَنتَ خَيرُ الحَافظينَ، اللهمَّ ارحمْ مَوتَاهم، واشفِ مَرضَاهم، وثَبِّتْ قُلوبَهم، وَأبدِلهم خَيراً مما فَقَدوا، اللهمَّ يَا حَيُّ يا قَيومُ بِرَحمتِكَ نَستغيثُ، أَصلحْ لَنا شَأنَنا كُلَّهُ ولا تَكلنا إلى أَنفسِنا ولا إلى أَحدٍ من خَلقِكَ طَرفةَ عَينٍ، ولا أَقلَ مِن ذَلكَ، رَبَّنا اصرفْ عَنَّا السُّوءَ والفَحشاءَ، وكَيدَ الأعداءِ، اللهمَّ إنَّا نَسألُكَ أن تَجعلَنا آمنينَ في أَوطانِنا، اللهمَّ بَاعدْ بَينَنا وبينَ الزَّلازلِ والمحنِ، واجعلنا آمنينَ مُطمئنينَ وسَائرَ المسلمينَ، اللهمَّ وفِّقْ ولاةَ أمرِنا لما تُحبُّ وتَرضى، وخُذْ بنَاصيتِهم للبِرِّ والتَّقوى، واجزِهم عَنَّا خَيرَ الجَزاءِ على مَا يُقدِمونَه للمُسلمينَ في كُلِّ وَقتٍ وحِينٍ يا رَبَّ العَالمينَ.
التعليقات