اقتباس
ولا شك أن هذا الأصل يوجب على العبد الإيمان به، حتى يكتمل إيمانه بالله ويصح منه، ويطمئن بذلك قلبه، ويثق أن الله لن ينقصه شيئا من رزقه الذي كتبه له قبل خلقه له، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الروح الأمين قد ألقى في رُوعي أنه لن تموت نفسٌ حتى تستوفي..."
إن من أعظم أصول الإيمان؛ الإيمان برزق الله لجميع خلقه؛ فهو المتصرف بذلك، والواهب له قال -سبحانه-: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) [هود: 6]، وقال تعالى: (وَكَأَيِّن مِّن دَابَّةٍ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ ) [العنكبوت:60]، قال ابن كثير -رحمه الله-: "أخبَر تعالى أنَّه مُتَكفِّلٌ بأرزاقِ المخلوقاتِ، مِن سائرِ دَوابِّ الأرضِ؛ صغيرِها وكبيرِها، بَحريِّها وبَريِّها".
وقال الله عن مريم بنت عمران؛ حين سئلت عن رزقها؛ فأجابت هو من عند الله، قال تعالى: (كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) [آل عمران: 37]، وقال تعالى: (وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ) [الذاريات 22-23]، وَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّ أَحَدَكُم يُجمعُ خَلقُهُ في بَطنِ أُمِّهِ أَربَعِينَ يَومًا، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضغَةً مِثلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَبعَثُ اللهُ مَلَكًا فَيُؤمَرُ بِأَربَعِ كَلِمَاتٍ وَيُقَالُ لَهُ: اُكتُبْ عَمَلَهُ وَرِزقَهُ وَأَجَلَهُ وَشَقِيٌّ أَو سَعِيدٌ" (أَخرَجَهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ) وهذه النصوص وغيرها تبين جلياً أن أرزاق المخلوقات جميعها علويها وسفليها من عند الله، وأنه الرزاق ذو القوة المتين.
وللشافعي في ذلك أبيات جميلة؛ حيث قال:
تَوكلْتُ في رِزْقي عَلَى اللَّهِ خَالقي****وأيقنتُ أنَّ اللهَ لا شكٌ رازقي
وما يكُ من رزقي فليسَ يفوتني****وَلَو كَانَ في قَاع البَحَارِ العَوامِقِ
سيأتي بهِ اللهُ العظيمُ بفضلهِ****ولو لم يكن مني اللسانُ بناطقِ
ففي أي شيءٍ تذهبُ النفسُ حسرة ****وَقَدْ قَسَمَ الرَّحْمَنُ رِزْقَ الْخَلاَئِقِ
ولا شك أن هذا الأصل يوجب على العبد الإيمان به، حتى يكتمل إيمانه بالله ويصح منه، ويطمئن بذلك قلبه، ويثق أن الله لن ينقصه شيئا من رزقه الذي كتبه له قبل خلقه له، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الروح الأمين قد ألقى في رُوعي أنه لن تموت نفسٌ حتى تستوفي رزقَها"، وقد عتب الله على الذين يقتلون أولادهم بغير حق لا لشيء؛ إلا الخوف من أن يأكلوا من طعامهم؛ فيقللوا عليهم أرزاقهم؛ فقال -سبحانه-: (وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً) [الإسراء: 31]. والمعنى المراد في هذه الآية الكريمة، كما يقول ابن كثير -رحمه الله-: "لا تطيق جمعه ولا تحصيله، ولا تدخر شيئا لغد، (الله يرزقها)، أي يقيض لها رزقها على ضعفها وييسره عليها؛ فيبعث إلى كل مخلوق من الرزق ما يصلحه حتى الذر في قرار الأرض، والطير في الهواء، والحيتان في الماء"، بل إن الرازق -سبحانه- يرزق الأعداء بعضهم ببعض، ".
ومن جميل وطريف ما يذكر في هذا ما حكي أن إبراهيم بن أدهم -رحمه الله- جلس يوما ووضع بين يديه بعضا من قطع اللحم المشوي؛ فجاءت قطة فخطفت قطعة من اللحم وهربت؛ فقام وراءها وأخذ يراقبها؛ فوجد القطة قد وضعت قطعة اللحم في مكان مهجور أمام جحر في باطن الأرض وانصرفت؛ فازداد عجبه وظل يراقب الموقف باهتمام وفجأة خرج ثعبان أعمى فقأت عيناه يخرج من الجحر في باطن الأرض ويجر قطعة اللحم إلى داخل الجحر مرة أخرى؛ فرفع الرجل رأسه إلى السماء وقال سبحانك يا من سخرت الأعداء يرزق بعضهم بعضا".
ولقد كان السلف -رحمهم الله- يعتمدون على الله في أرزاقهم ولا يكترثون من غلاء الأسعار وارتفاع قيمتها، ولا يخشون على أنفسهم الفاقة والفقر، كما أنهم لم يكونوا يفتقرون إلا إليه -سبحانه وتعالى-، ولعلنا نقف مع بعض أقوالهم؛ فمن ذلك: ما روي عن حمزة العبدي قال: "أتينا مرة بن شراحيل؛ فقال: ألا إن الله -عز وجل- لم يكتب على عبد بلاء، إلا أمضاه عليه، وإن أطاعه ذلك العبد؛ ولم يكتب لعبد رزقاً، إلا وفاه إياه، وإن عصاه ذلك العبد".
وجاء عن بعض السلف؛ أنه أتاه رجل يشتكي ارتفاع الأسعار والأثمان؛ فقال له، والله ما أبالي والله ما أبالي لو أن حبة الشعير بدينار؛ علي أن أعبده كما أمرني وعليه أن يرزقني كما وعدني". ومن أقوالهم: ما جاء في الأثر عن عبيد الله بن محمد ابن يزيد بن حبيش قال: "سمعت أبي يذكر: أنه بلغه عن أبي حازم: أنهم أتوه؛ فقالوا له: يا أبا حازم، أما ترى قد غلا السعر؟ فقال: وما يغمكم من ذلك؟ إن الذي يرزقنا في الرخص: هو الذي يرزقنا في الغلاء".
ومن أقوال السلف -أيضا-: قول شقيق البلخي لأهل مجلسه: "أرأيتم إن أماتكم الله اليوم، يطالبكم بصلاة غد؟ قالوا: لا، يوم لا نعيش فيه، كيف يطالبنا بصلاته؟ قال شقيق: فكما لا يطالبكم بصلاة غد، فأنتم لا تطلبوا منه رزق غد، عسى أن لا تصيرون إلى غد". عباد الله: مهما تفاقمت الأزمات وعظمت الفاقة في دروب الحياة؛ علينا أن نثق بما تكفله الله لنا من الرزق وضمنه لنا ونحن في بطون أمهاتنا؛ فوعده حق وقوله صدق، ورزقه خير ما نؤمل ونرجو؛ فهو القائل: (وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى) [طـه:131]، والقائل لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: (لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى) [طـه:132]، وَقَالَ -سبحانه-: (إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُون) [ العنكبوت: 17].
أيها الخطيب المبارك: هذا ما تيسر جمعه في هذه المقدمة من إضاءات سريعة وإشارات عاجلة حول كفالة الرزاق برزق الخلائق؛ وأن رزق الكائنات في السماء وليس في الأرض، بيد الخالق لا المخلوق، كما أوردنا نماذج ممن عرفوا هذا الأصل العظيم وآمنوا به؛ فعاشوا مطمئنين سعداء، فذكر بها قلوبا قد أوجعها الهم وأرقها العناء، وشتت بالها التفكير في الرزق والخشية من الفاقة والافتقار، وإليكم بعض الخطب التي تساعدك أيها الخطيب في الحديث عن هذا الموضوع:
التعليقات