عناصر الخطبة
1/آيات في الدنيا تذكر بحر جهنم 2/من هدي الرسول صلى الله عليه وسلم تذكير أصحابه بربط أحداث الدنيا بالآخرة 3/ما ورد في السنة من ربط شدة الحر بالآخرة 4/أهمية ربط حر الدنيا بالآخرةاقتباس
ينبغي لمن كان في حر الشمس أن يتذكر حرها في الموقف، فإن الشمس تدنو من رؤوس العباد يوم القيامة، ويزاد في حرها، حتى يبلغ الناس في ذلك الموقف من الهم والغم والنصب...
الخُطْبَةُ الأُوْلَى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، وخيرته من خلقه، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْس وَاحِدَة وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبا).
أما بعد: اتقوا الله تعالى -أيها المسلمون-، وتدبروا في ملكوته، وتفكروا في خلقه، وسلوه من فضله، واستعيذوا من عذابه.
أيها المسلمون: إن من سنن الله تعالى في هذه الدار الفانية دار الدنيا أن جعل أزمانا وأمكنة هي مناخا للتفكر وآية للتذكير، والتفكر فيما خلق الله والنظر في قدرته وقوته هي علامة من علامات أهل الإيمان الذين وصفهم بأنهم أولوا العقول والألباب، (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَات لِّأُوْلِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاما وَقُعُودا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَطِلا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)؛ فالنظر والتفكر فيما خلق الله ثم ربط ذلك بما عند الله من نعيم أو عذاب هو دأب المؤمنين الصالحين، وعلامة فقه في دين الله.
ولذلك لما تخاذل المنافقون وتخلفوا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في تبوك قالوا: (لَا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ)، فقال الله -عز وجل- مذكرا لعباده بأن هذه الظاهرة الكونية وهي شدة الحر ليست شيئا عند حر جهنم، (قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ).
ولما امتن الله على عباده بخلق الشجرة التي منها يحتطب الناس؛ ليضيئوا نارهم فيحصل لهم الدفء، قال تعالى (أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِـؤونَ * نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَة وَمَتَاعا لِّلْمُقْوِينَ).
أيها المسلمون: لقد كان من هدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تذكير أصحابه بما يرون من أحداث الدنيا بأحداث الآخرة؛ فعَن أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَال: قَالَ رَسولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: “نارُكم هذه ما يُوقِدُ بنو آدمَ جزءٌ واحدٌ من سبعينَ جزءًا من نارِ جهنمَ قالوا: يا رسولَ اللهِ إنها أي نارَ الدنيا لكافيةٌ قال: إنها فُضِّلَت عليها بتسعةٍ وستينَ جزءًا كلَّهن مثلُ حرِّها”(رواه البخاري).
ومن تلك الأحداث والأزمان موسم الصيف إذا اشتد الحر، فشدة الحر مما يتأذى منه الناس، ويسعون للوقاية منه، خاصة في مثل هذه البقعة المباركة التي وصفها الله بأنها واد غير ذي زرع، وقد ذكر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أصحابه، بأن هذا الحر فيه تذكير لحر الآخرة.
وفي حديث أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَال: قَالَ رَسولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: “اشْتَكَتِ النَّارُ إلى رَبِّهَا فَقالَتْ: رَبِّ أكَلَ بَعْضِي بَعْضًا، فأذِنَ لَهَا بنَفَسَيْنِ: نَفَسٍ في الشِّتَاءِ ونَفَسٍ في الصَّيْفِ، فأشَدُّ ما تَجِدُونَ مِنَ الحَرِّ، وأَشَدُّ ما تَجِدُونَ مِنَ الزَّمْهَرِيرِ”(رواه البخاري).
قال الحسن: “كل بردٍ أهلَكَ شيئاً فهو من نفَس جهنم، وكل حر أهلك شيئاً فهو من نفس جهنم”.
بل إن الرخص والتخفيف في الأحكام الشرعية لمسببات كونية جاء بعضها مقرونا بالتذكير بالدار الآخرة، وفي الحديث عن أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَال: قَالَ رَسولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: “إذَا كانَ الحَرُّ، فأبْرِدُوا عَنِ الصَّلَاةِ، فإنَّ شِدَّةَ الحَرِّ مِن فَيْحِ جَهَنَّمَ”(رواه مسلم).
أيها المسلمون: ينبغي لمن كان في حر الشمس أن يتذكر حرها في الموقف؛ فإن الشمس تدنو من رؤوس العباد يوم القيامة، ويزاد في حرها، حتى يبلغ الناس في ذلك الموقف من الهم والغم والنصب ما لا يطيقون وما لا يحتملون.
عن المِقدَادِ بنِ الأَسوَد قاَل: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُول: “تدنو الشمسُ يومَ القيامةِ من الخلقِ، حتى تكونَ منهم كمقدارِ مَيلٍ، فيكون الناسُ على قدرِ أعمالهم في العَرقِ، فمنهم من يكونُ إلى كعبَيه، ومنهم من يكون إلى ركبتَيه، ومنهم من يكون إلى حِقْوَيه، ومنهم من يلجُمه العرقُ إلجامًا”، قال: وأشَارَ رَسولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ إِلى فِيه. (رواه مسلم).
وقد كان بعض الصالحين يتقربون إلى الله بأعمال تذكرهم بحر ذلك اليوم، ومن ذلك الصيام في شدة الحر، لما فيه من ظمأ الهواجر، ومن أولئك عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وفي الصحيحين، عن أبي الدَّرداءِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قالَ: “خرَجنا معَ رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ في بعضِ غزواتِهِ في حرٍّ شديدٍ حتَّى إنَّ أحدَنا ليضعُ يدَهُ على رأسِهِ -أو كفَّهُ على رأسِهِ- من شدَّةِ الحرِّ ما فينا صائمٌ إلَّا رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ وعبدُ اللَّهِ بنُ رواحةَ”
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولك من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد ألا إله إلا وحده لا شريك تعظيما لشأنه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى حق التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، واحذروا الذنوب والمعاصي فإن أقدامنا على النار لا تقوى.
أيها المسلمون: أجسامنا لا تحتمل نار يوم القيامة، ونار يوم القيامة لا بد أن يجعل العبد بينه وبينها وقاية، وهذا هو تقوى الله، أن يجعل العبد بينه وبين عذاب الله وقاية، كما قال الله -عز وجل-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا).
قال قتادة: وقد ذَكر شراب أهل جهنم، وهو ماء يسيل من صديدهم من الجلد واللحم، قال: "هل لكم بهذا طاقة؟ أم لكم عليه صبر؟ طاعة الله أهون عليكم يا قوم، فأطيعوا الله ورسوله".
أيها المسلمون: عند خروجكم إلى الصلاة في هذه الأجواء الحارة الشديدة في وقت تتخاذل النفس فيه وتتكاسل، ويوسوس الشيطان لصاحبه بالصلاة في بيته في البراد والسعة، حدثوا أنفسكم أن نار جهنم أشد حرا، وأن الذي تعلق قلبه بالمساجد هو من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.
كان بعض السلف إذا انصرف من صلاة الجمعة في حر الظهيرة تذكر انصراف الناس من موقف الحساب فريق إلى الجنة، وآخر إلى النار، فإن الساعة والقيامة تقوم يوم الجمعة، ولا ينتصف ذلك النهار حتى يقيل أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار، قال ذلك ابن مسعود -رضي الله عنه-، ثم تلا قوله تعالى: (أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا).
كَم هم المُوفَّقُون الذين يجعَلُون مِن هذا الحر بابًا عظيمًا واسِعًا للمعروفِ والإحسانِ، فيصلون للمتعففين الذين حال الحر بينهم وبين راحتهم، فيبذلون ما جادت به أنفسهم، من إصلاح أجهزة أو تبريد مياه، يفرجون بذلك كربهم، ويخففون عن معاناتهم.
كَم هم المُوفَّقُون الذين يجعَلُون مِن هذا الحر بابًا عظيمًا لصدق اللجوء وإظهار الذل للعظيم الجبار، فيتوجهون إلى ربهم بالدعاء الصادق أن يقيهم وإخوانهم حر جهنم، وحر يوم الوقوف.
عَن أَنَسِ بنِ مَالِك، قَال: قَالَ رَسولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: “من سألَ اللَّهَ الجنَّةَ ثلاثَ مرَّاتٍ قالتِ الجنَّةُ: اللَّهمَّ أدخلهُ الجنَّةَ، ومن استجارَ منَ النَّارِ ثلاثَ مرَّاتٍ، قالتِ النَّارُ: اللَّهمَّ أجِرْهُ منَ النَّارِ “(رواه النسائي والترمذي).
أجارنا الله من عذاب النار، وبلغنا أعلى المنازل في النعيم والجنان، وتجاوز عنا وعنكم التقصير والنسيان.
اللهم صل وسلم وزد وبارك، على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين، والأئمة المهديين، ومن سار على نهجهم وسلك طريقتهم إلى يوم الدين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
التعليقات