عناصر الخطبة
1/عظم نعمة الوالدين 2/من قصص العقوق 3/العقوق دين 4/وصايا لمن عق والديه.اقتباس
إن العارَ والشنارَ والويلَ والثبورَ أن هذا المخذولَ قد تناسَى ضعَفه وطفولتَه، وأُعجِبَ بشبابِهِ وفُتوَّتِهِ، وغَرَّه تعليمُه وثقافتُه، وترفَّعَ بجاهِهِ ومرتبتِه، يؤذِيهِما بالتأفُّفِ والذمِّ، بلْ ويَقهَرُهُما ويَنهرُهُما, أما علمْتَ أن مَن برَّ بوالديهِ برَّ به بَنوُه، ومَن عَقَّهُما عَقُّوه؟!...
الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ نحمدُه وقد أعطانا وكفانا وآوانا، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، شهادةً نرجو بها فوزًا ورضوانًا، وأشهدُ أن نبيَنا محمداً عبدُه ورسولُه، بالبِرِ أوصانا، وعن العقوقِ نهانا، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلهِ وأصحابِه الذينَ كانوا على الخيرِ أعوانًا، وسلَّمَ تسليماً كثيرًا وألوانًا.
أما بعدُ: فـ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].
يقولُ: كانَ لي أبوانِ، عليّ يحْنُوانِ, ويَرَيانِ الدنيا جميلةً بوجودِي، ومضتْ سنواتٌ فَفَقَدْتُ أبي؛ وفقدْتُ شطرًا من السعادةِ، وجَرَحَ قلبي موتُه سنينَ أبكِي، ثم عِشتُ نعيمَ الحياةِ مع أمي، وكنتُ أعدُّها رأسَ مالِي في الدنيا، وزادِي إلى الآخرةِ، ثم حلَّ بها الأجلُ، فلحقَتْ بأبي؛ فتصدَّعَ شَرْخُ شبابي وهو على أشُدِّه، فوَهَتْ حياتي وهَوَتْ.
أيُّها المصلونَ المُنصِتونَ: مِن سعادةِ المرءِ أن يكونَ والِداه بينَ يديهِ، يَهنأُ بصحبتِهِما، ويستدفِئُ بعطفِهِما، ويسترشِدُ بنُصحِهِما، وينالُ بركةَ دعائِهما، وأجرَ برِهِما.
ولكنَّ المُصابَ المُمْرضَ، والبلاءَ المُرْمِضَ أولئكَ العَقَقَة مِنَ البنينَ والبناتِ للآباءِ والأمهاتِ، عقوقٌ لا تنقضِي قِصَصُه، ولا تنتهي غُصَصُه؛ يقولُ شاهِدُ عِيانٍ رافَقَ عند مريضٍ بالمستشفى: رأيتُ ما يُشيبَ الرأسُ لفَضاعتِهِ! أمٌ كبيرةٌ انتهتْ مراجعتُها بالمستشفى ومعَها الخادمةُ، ولما لمْ يأتِها أولادُها طلبَتْ من المديرِ المناوبِ الشهمِ أن يَتصلَ لها على أولادِها، وتتصلُ على الأولِ فيقولُ: أنا بعيدٌ! والثالثُ يقولُ: سافرْتُ! ولما مضتْ ستُ ساعاتٍ اتصَلُوا لها على (كريم) ليُوصِلَها؛ (وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ)[الأحقاف: 17], وفي النهايةِ: (إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ)[الأحقاف: 18].
وفي قصةٍ أُخرى بالمستشفى يقولُ: توفيَ رجلٌ مُسِنٌ, ويتصلونَ على أحدِ أولادِه؛ ليوقِّع على استلامِ الجَنازة لدَفْنِها، أتدرونَ بمَ ردَّ عليهم؟! قال: "اتصِلوا على أخي!".
ويَحكي صاحِبي عن امرأةٍ مجاورةٍ لسريرِ والدتِه -رحمها الله-، يقول: مكثَتِ المريضةُ أكثرَ من ثلاثةِ أيامٍ لم يَزُرْها زائرٌ، وبقِينا نحنُ الذين نُقدِّمُ لها احتياجاتِها!.
كم حَسرةٍ لي في الحَشَا *** من ولَدٍ إذا نَشـَــــا
أمـَّــلْتُ فيــهِ رُشـدَهُ *** فما نَشـَـا كما أَشَـا
إن العارَ والشنارَ والويلَ والثبورَ أن هذا المخذولَ قد تناسَى ضعَفه وطفولتَه، وأُعجِبَ بشبابِهِ وفُتوَّتِهِ، وغَرَّه تعليمُه وثقافتُه، وترفَّعَ بجاهِهِ ومرتبتِه، يؤذِيهِما بالتأفُّفِ والذمِّ، بلْ ويَقهَرُهُما ويَنهرُهُما, أما علمْتَ أن مَن برَّ بوالديهِ برَّ به بَنوُه، ومَن عَقَّهُما عَقُّوه؟!.
كم مِن أبٍ وأمٍ -أيُّها الإخوةُ- يَمكُثونَ الشهرَ، بل والشهورَ والسنينَ، في قطيعةٍ من أولادِهم، ويزدادُ الأمرُ شناعةً حينما يكونُ السببُ الباعثُ لقطيعتِهِما كونَهما يأمرانِ أولادَهما بالصلاةِ، والبعدِ عن جُلساءِ السوءِ، والمحافظةِ على الأوقاتِ.
أينَ هذا مِن أبناءِ هذا الزمانِ الذينَ لا يُنَفِّذُ أحدُهم أمْرَ أمِّه إلا إذا بلغَتْ صَيحَاتُها وارتفَعَ صوتُها للجيرانِ؟، ولا يلبِّي طلبَ أبيهِ إلا إذا عَبَسَ في وجهِه وقطَّب، وقَلَّما تجِدُهُ يَكتفِي بإشارةٍ، ويَفهمُ بنَظْرةٍ.
وكمْ مِن الأُنوفِ في الترابِ دُسَّتْ؛ لأنها بالعُقوقِ تَدَنَّسَتْ؟! ويا ليتَ أهلَ العقوقِ يقِفونَ على أحوالِ مَن سَبَقَهم؛ ليَطَّلِعوا على العذابِ النفسيِ الذي نَزلَ بهم، والضيقِ الذي ألمَّ بهم، فلم يَجِدوا في ذلك رَدْعًا لهم، وإيقاظًا لغَفْلَتِهم.
يا أبناءَ الإسلامِ: إن حقَّ والدَيكُم ليس كحقِّ أحدٍ من الناسِ، فإن أيَّ كلمةٍ أو إشارةٍ تفيدُ تَضجرًا من أحدِهما تُعتَبَرُ معصيةً، ولو كانتْ كلمةَ "أُفٍ"، وإنّ اللهَ لا يَرضَى عنِ الأولادِ إلاّ أن يُذِلّوا أنفسَهم لوالِدِيهمْ، خصوصًا عندَ الكِبرِ: (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا)[الإسراء: 24], والذُّلُّ للوالدَينِ ليسَ سببُه القَهرُ والغلَبةُ، ولكنْ سببُه الحبُّ والرحمةُ.
الوالدانِ تاجٌ لا يَراه إلا الأيتامُ، ومَن فَقَدَ أحدَهما فقدْ خسِرَ نصفَ السعادةِ، فليحرِصْ على نصفِها الآخرِ قبلَ أن يزولَ، ومن فُجِعِ بهما جميعًا فلا يَنْسَهما مِن دَعَواتهِ، ومَن أصبحَ منكم أبًا أدركَ هذا، ومَن لم يُصبِح فعَمَّا قريبٍ، فبُروا آباءَكم تبرُّكم أولادُكم، والحياةُ دَينٌ ووفاءٌ، ونعوذُ باللهِ منَ العقوقِ والجفاءِ.
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرُوهُ؛ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوَانِهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أيها الأخوةُ المؤمنونَ: نحنُ في الواقعِ لا يَنقُصُنا العلمُ بفضلِ برِ الوالدينِ، وأنَّ عقوقَهما مِن كبائرِ الذنوبِ، وإنما يَنقصُنا العملُ بما نَعلَمُ, يَنقصُنا الخوفُ من عقوبةِ العقوقِ، وعدمُ الغفلةِ مع زحمةِ الأعمالِ الدنيويةِ عن مواضعِ البرِ، بالزيارةِ والتفقدِ والتحدُّثِ والمُصاحَبةِ.
فيا مَنْ فرَّطتَ، وبالعقوقِ تورطتَ, إليكَ هذهِ الوصايا اللاذعةَ، والهداياتِ الرادعةَ:
تدارَكْ عُمُرَك قبلَ أن تتقطعَ نفسُك نَدَمًا.
لو أظهرتَ ندمَك أمامَهما لرأيتَ سهولةً في عفوِهما، ولبكيتَ فرحًا لفرحِهما.
ادعُ لهما في مَغِيبِهما ومَشهدِهما، فهذا يُصَفِّي قلوبَكم جميعًا.
اجعلْ عندَك اجتماعًا أسبوعيًا عامًا مع أخوتِك برئاسةِ والدَيك.
أما إن كانا ميتيَنِ أو أحدَهما فالزيارةُ لقبَريهِما، والدعاءُ لهما والصدقةُ عنهما بألبسةِ الشتاءِ، وفي الصيفِ بالماءِ.
اللهم إنا نسألُكَ أن تُعينَنا على برِّ والدِينا, اللهم قد قَصَّرنا بشأنِهِما، وأخطأنا في حقِّهما، اللهم فاغفرْ لنا ما قدَّمْنا وما أخرْنا، وما أسررْنا وما أعلنَّا، اللهم واملأْ قلبَيهِما بمحبتِنا، وألسنتَهما بالدعاءِ لنا، واجعلْهم راضينَ عنا، واجعلْنا لهم قرةَ أعينٍ يا ذا الجلالِ والإكرامِ.
اللهم مَن أفضَى منهما إلى ما قدَّم، فنوِّرْ قبرَه، واغفرْ خطأَه ومعصيتَه، واجمعْنا بهم في جنتِكَ ونحنُ على سُرُرٍ متقابلينَ نُسقَى فيها مِن رحيقٍ مختومٍ خِتامُه مِسْكٌ.
اللهم احفظْ مليكَنا ووليَ عهده وجنودَنا، وسدِّدْهم، وأعِنهم، واجزِهم عنا خيرًا.
التعليقات