عناصر الخطبة
1/إتاحة الشريعة للعلماء بالاجتهاد 2/الاجتهاد يدل على عظمة الإسلام ومرونته 3/نماذج من اجتهاد الصحابة في النوازل 4/من قواعد الشريعة في التيسير 5/صور من تيسير الإسلام في تأدية العباداتاقتباس
وإذا تعذّر الحضور للمسجد فتقام الصلاة في البيوت جماعة، وإذا تعذّر تمام الحج فتقام الشعائر بما يتيسر، كما أمر الله -تعالى- المجاهدين المصلّين في حال الخوف أن ينقسموا فريقين، يصلّي فريق بعض الصلاة خلف الإمام ويحرس الآخر، ثم يتبادلون أماكنهم...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
إن الْـحَمْد لِلَّـهِ نَحْمَدُه، وَنَسْتَعِينُه، وَنَسْتَغْفِرُه، ونعوذُ بِاَللَّـهِ مَن شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنّ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَن يَهْدِه اللَّـهُ فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنّ يُضْلِل فَلا هَادِي لَه، وَأَشْهَدُ أن لا إلَه إلَّا اللَّـهُ وَحَدَهُ لا شَرِيكَ لَه، وَأَشْهَدُ أن محمداً عبدُهُ ورسوُلُه.
(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102]، (يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1]، (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70 - 71].
أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ خَيْرَ الْـحَدِيثِ كِتَابُ اللـهِ، وَخَيْرَ الْـهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ.
أما بعد: وقعت جائحة كورونا والوباء الذي عمّ بلاد المسلمين وغيرهم، كل ذلك بحكمة الله -تعالى- وعلمه وقدره وقدرته، لا إله غيره، نسأل الله -تعالى- أن يلطف بنا وبالمسلمين وبالناس جميعًا، ورفع البلاء والغمّة عن المسلم والكافر يؤجر عليه المسلم؛ لأن في كل كبدٍ رطبةٍ أجر، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يشفع يوم القيامة الشفاعة العظمى لأبناء آدم جميعًا مسلمهم وكافرهم.
وقد تابعنا كيف قام علماء المسلمين بالإفتاء بما يناسب الشريعة، وييسر على المسلمين دينهم في الصلوات والصيام والحج، وقد أمر الله -تعالى- بحكمته العلماء إذا نزلت بالمسلمين قضية أن يجتهدوا فيها بما يرون موافقته لكتاب الله وسنة رسوله؛ (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ)[النساء: 83]، وهذا الاستنباط هو الاجتهاد.
سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- معاذًا -رضي الله عنه- حين أرسله لليمن قاضيًا: "بمَ تحكم؟"، قال: بكتاب الله، قال: "فإن لم تجد؟"، قال: بسنة رسول الله، قال: "فإن لم تجد؟"، قال: أجتهد رأيي ولا آلو، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "الحمد لله الذي وفق رسول الله لما يرضي الله ورسوله"(رواه أبوداود والترمذي).
لذا اتفق العلماء المعتبرون على وضع الاجتهاد كأحد مصادر التشريع بعد الكتاب والسنة والإجماع، وهذا الاجتهاد يبين عظمة الإسلام في عدم جموده، وفي تجاوبه مع الظروف المستجدّة، وفي تقديره للعقل البشري، وفي إفساح المجال للعلماء ليتباروا في الإبداع في تنزيل الأحكام على وفق الكتاب والسنة، وفي توازنه بين الثبات في الأصول والتجديد في الفروع.
إن الإسلام ينبذ التقليد الأعمى، كما قلّد الأوائل آباءهم وكبراءهم على ضلالهم دون تفكير ونقد، قال الله -عز وجل-: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ)[البقرة: 170]، وقال -سبحانه-: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا)[المائدة: 104] وقال -تعالى-: (إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا)[الأحزاب: 67]؛ لذا تجد تفاسير القرآن الكريم كثيرة، وكتب الفقه متعددة، ومذاهب العلماء متنوعة، ثراءٌ في الفكر، وسعةٌ في الدين، وانفتاحٌ في الاستنباط، جاء طالب علم إلى الإمام أحمد بن حنبل فقال: إني سأجمع كتابًا في اختلاف العلماء وأسمّيه "كتاب الاختلاف"، فقال الإمام: بل سمّه "كتاب السعَة".
فهم أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذلك، فلما نزلت بهم النوازل بعد وفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يعجزوا ويعطلوا عقولهم وتفكيرهم واجتهادهم، بل تفانوا في إعمال العقل، كيف يواجهون هذه الظروف بحسب ما يرضي الله ورسوله؟ فلما مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كانت أعظم مصيبة نزلت بالمسلمين، فماذا يعمل الصحابة حينذاك، أين يدفنونه؟ هل يصلون عليه؟ هل ينصبون حاكمًا قبل دفنه أم بعده؟ ثم اجتهدوا -رضي الله عنهم- في نازلة اختيار الخليفة الأجدر، ثم اجتهدوا في نازلة قتال المرتدين، ثم اجتهدوا في نازلة قتال مانعي الزكاة، ثم اجتهدوا في كل ما استجد لهم -رضي الله عنهم-.
إن دراسة هذه النوازل يبين قدرة الفقه الإِسلامي وفاعليته لتقديم الحلول الناجعة التي تستجيب لواقع العصر وتحدياته، ويبين صدق الإِسلام وخلوده وصلاحيته للقيادة والريادة والتوجيه للبشرية، قال الإمام الشافعي -رحمه الله-: "فليست تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله الدّليل على سبيل الهدى فيها".
ويبين المنزلة العظيمة لفقهاء الإسلام الذين يرجع المسلمون إليهم، ولو فقدوا لضلّ الناس، قال -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ولكن يقبضه بقبض العلماء، حتى إذا فني العلماء اتخذ الناس رؤساء جهالًا، فسئلوا فأفتوا بغير علم؛ فضلوا وأضلُّوا"(متفق عليه).
الخطبة الثانية:
الحمد لله غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب، ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير؛ (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)[القصص: 88]، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه؛ (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فأكثروا عليّ من الصلاة فيه؛ فإن صلاتكم معروضة عليّ"، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم عليّ صلاة".
وبعـــد: من أجمل قواعد الإسلام العظيمة: "إذا ضاق الأمر اتّسع"، و"المشقة تجلب التيسير"، و"الضرورات تبيح المحظورات"، التي تعني أن المسلمين إذا وقعت بهم نازلة ضيقت عليهم معيشتهم وعبادتهم فإن الدين يكون حاضرًا؛ لتقديم ما ييسر لهم العبادة والمعيشة، ويفرّج عنهم، فلا يجمع الله -تعالى- عليهم مشقتين: مشقة الظرف، ومشقة العبادة، وهذا من مرونة هذه الشريعة الإسلامية السمحاء.
فإذا تعذّرت صلاة الجماعة فتقام الصلاة فرادى، وإذا تعذّر الحضور للمسجد فتقام الصلاة في البيوت جماعة، وإذا تعذّر تمام الحج فتقام الشعائر بما يتيسر، كما أمر الله -تعالى- المجاهدين المصلّين في حال الخوف أن ينقسموا فريقين، يصلّي فريق بعض الصلاة خلف الإمام ويحرس الآخر، ثم يتبادلون أماكنهم، كما في سورة النساء، وهذه الهيئة ليست حالةً طبيعية للصلاة، ولكنها تيسير من الله -تعالى-؛ ليحقق المصلحتين الدينية والعسكرية، وكذلك جمع الصلاة في حال المطر، وقصر الصلاة في السفر، وعدم التوجه للقبلة حال الركوب، وغيرها.
التعليقات