عناصر الخطبة
1/ القصص أسلوب دعوي نبوي 2/ سرد نبأ أصحاب الغار 3/ فوائد تربوية من القصةاهداف الخطبة
اقتباس
القصص أسلوب كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يكثر استعماله في دعوة الناس وتوجيههم؛ وما ذاك إلا لحسن إيضاحه، وقوة تأثيره. وتَمَيَّزَ القصص النبوي بما تميز به صنوه القرآني من صدق الثبوت، وفصاحة البيان، وبلاغة اللفظ، واقتصارٍ على موطن الفائدة والعبرة. ومن تلك الأخبار نبأ أهل الغار...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله؛ نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد:
أيها المؤمنون: القصص أسلوب كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يكثر استعماله في دعوة الناس وتوجيههم؛ وما ذاك إلا لحسن إيضاحه، وقوة تأثيره. وتَمَيَّزَ القصص النبوي بما تميز به صنوه القرآني من صدق الثبوت، وفصاحة البيان، وبلاغة اللفظ، واقتصارٍ على موطن الفائدة والعبرة.
ومن تلك الأخبار نبأ أهل الغار؛ روى البخاري ومسلم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "بَيْنَمَا ثَلَاثَةُ نَفَرٍ يَتَمَشَّوْنَ أَخَذَهُمُ الْمَطَرُ، فَأَوَوْا إِلَى غَارٍ فِي جَبَلٍ، فَانْحَطَّتْ عَلَى فَمِ غَارِهِمْ صَخْرَةٌ مِنَ الْجَبَلِ، فَانْطَبَقَتْ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: انْظُرُوا أَعْمَالاً عَمِلْتُمُوهَا صَالِحَةً لِلَّهِ، فَادْعُوا اللهَ تَعَالَى بِهَا، -وفي رواية للبخاري:- ادْعُوا اللَّهَ بِأَفْضَلِ عَمَلٍ عَمِلْتُمُوهُ، لَعَلَّ اللهَ يَفْرُجُهَا عَنْكُمْ، فَقَالَ أَحَدُهُمْ: اللهُمَّ إِنَّهُ كَانَ لِي وَالِدَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ، وَامْرَأَتِي، وَلِي صِبْيَةٌ صِغَارٌ أَرْعَى عَلَيْهِمْ، فَإِذَا أَرَحْتُ عَلَيْهِمْ حَلَبْتُ، فَبَدَأْتُ بِوَالِدَيَّ، فَسَقَيْتُهُمَا قَبْلَ بَنِيَّ، وَأَنَّهُ نَأَى بِي ذَاتَ يَوْمٍ الشَّجَرُ، فَلَمْ آتِ حَتَّى أَمْسَيْتُ، فَوَجَدْتُهُمَا قَدْ نَامَا، فَحَلَبْتُ كَمَا كُنْتُ أَحْلُبُ، فَجِئْتُ بِالْحِلَابِ، فَقُمْتُ عِنْدَ رُؤُوسِهِمَا أَكْرَهُ أَنْ أُوقِظَهُمَا مِنْ نَوْمِهِمَا، وَأَكْرَهُ أَنْ أَسْقِيَ الصِّبْيَةَ قَبْلَهُمَا، وَالصِّبْيَةُ يَتَضَاغَوْنَ عِنْدَ قَدَمَيَّ -أي: يصيحون ببكاء من الجوع-، فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبِي وَدَأْبَهُمْ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ، فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ، فَافْرُجْ لَنَا مِنْهَا فُرْجَةً، نَرَى مِنْهَا السَّمَاءَ، فَفَرَجَ اللهُ مِنْهَا فُرْجَةً، فَرَأَوْا مِنْهَا السَّمَاءَ.
وَقَالَ الْآخَرُ: اللهُمَّ إِنَّهُ كَانَتْ لِيَ ابْنَةُ عَمٍّ أَحْبَبْتُهَا كَأَشَدِّ مَا يُحِبُّ الرِّجَالُ النِّسَاءَ، وَطَلَبْتُ إِلَيْهَا نَفْسَهَا -وفي رواية:- فَامْتَنَعَتْ مِنِّي حَتَّى أَلَمَّتْ بِهَا سَنَةٌ مِنَ السِّنِينَ، فَأَبَتْ حَتَّى آتِيَهَا بِمِائَةِ دِينَارٍ، فَتَعِبْتُ حَتَّى جَمَعْتُ مِائَةَ دِينَارٍ، فَجِئْتُهَا بِهَا، فَلَمَّا وَقَعْتُ بَيْنَ رِجْلَيْهَا، قَالَتْ: يَا عَبْدَ اللهِ: اتَّقِ اللهَ، وَلَا تَفْتَحِ الْخَاتَمَ إِلَّا بِحَقِّهِ، فَقُمْتُ عَنْهَا، فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ، فَافْرُجْ لَنَا مِنْهَا فُرْجَةً، فَفَرَجَ لَهُمْ.
وَقَالَ الْآخَرُ: اللهُمَّ إِنِّي كُنْتُ اسْتَأْجَرْتُ أَجِيرًا بِفَرَقِ أَرُزٍّ -الفرق: مِكْيَالٌ يَسَعُ ثَلَاثَةَ آصُعٍ-، فَلَمَّا قَضَى عَمَلَهُ قَالَ: أَعْطِنِي حَقِّي، فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ فَرَقَهُ فَرَغِبَ عَنْهُ، فَلَمْ أَزَلْ أَزْرَعُهُ حَتَّى جَمَعْتُ مِنْهُ بَقَرًا وَرِعَاءَهَا، فَجَاءَنِي فَقَالَ: اتَّقِ اللهَ وَلَا تَظْلِمْنِي حَقِّي، قُلْتُ: اذْهَبْ إِلَى تِلْكَ الْبَقَرِ وَرِعَائِهَا، فَخُذْهَا، فَقَالَ: اتَّقِ اللهَ وَلَا تَسْتَهْزِئْ بِي! فَقُلْتُ: إِنِّي لَا أَسْتَهْزِئُ بِكَ، خُذْ ذَلِكَ الْبَقَرَ وَرِعَاءَهَا -وفي رواية:- كُلُّ مَا تَرَى مِنْ أَجْرِكَ مِنَ الإِبِلِ وَالبَقَرِ وَالغَنَمِ وَالرَّقِيق، فَأَخَذَهُ فَذَهَبَ بِهِ، -وفي رواية:- فأخذه كله فاستاقه، فلم يترك منه شيئًا، فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ، فَافْرُجْ لَنَا مَا بَقِيَ، فَفَرَجَ اللهُ مَا بَقِيَ".
أيها المسلمون: إن إنجاء الله أصحابَ الغار من ذلك الموت البطيء المحقق من أعجب براهين توحيده وآثاره؛ إذ انقطع من المشهد كلُّ سبب حسّي بيقينٍ استقر في رُوع هؤلاء النفر، ولم يبق إلا سبب الإيمان بالغيب؛ فتشبثوا فيه بأنجح وسيلة تقضى بها الحاجة حين توسلوا في ضراعتهم إلى من بيده تدابير الكون -سبحانه- بأرجى عمل صالح عملوه في غالب ظنهم؛ فكان به الفرج من الله -جل وعلا-.
والمعنى الجامع لعمل هؤلاء على اختلاف صوره: عظم العمل في ذاته، وما أشيد عليه من صدق وإخلاص، مع قوة جاذبِ الهوى، وشدة صارفِ الطاعة.
أما الأول: فكان راشدًا في بره؛ إذ البر أوسط أبواب الجنة، والجنة كامنة تحت قدم الأمهات، ورضا الإله في رضا الوالد، والسخط في السخط. تناهى برُّ ذلك الموفق؛ فكان بر والديه أرجى عمل لديه، واختار من سالف بره ذروتَه؛ إذ كان له مع والديه الطاعنين سنًا عادةٌ يوميةٌ في تغذيتهما اللبن، يباشر كل تفاصيلها بنفسه، ولا يقدِّم عليهما في أولية شرب ذلك اللبن نفسًا ولا ولدًا، وظل متعاهدًا تلك السنة حتى مع قوة جواذب تركها؛ إذ كان والداه نائمين، والتعب يكتنفه إثر رعاية بهمه، وبكاء صبيته يصيخ مسمعه وقد رآهم يتضورون جوعًا عند قدميه وهو واقف بقدحه عند رأس والديه، وقلة ذات يده بادية من فحوى الخبر؛ ومع ذلك لم يوقظ والدًا، أو يسقِ صبيًا، أو يجلسْ من قيام، بل دام حاله كذلك حتى تنفس الصبح بفجره، واستيقظ الوالدان فسقاهما اللبن بيده كما كان يسقيهما، ولم يخرم عادة البر في ذلك الموقف الشديد. وما أن استتم مناجاتَه ربَّه بذلك العمل الجليل إلا ويأمر المولى -سبحانه- الصخرة أن تنزاح عن فم الغار بقدر الثلث كما جاء في رواية؛ فرؤوا السَّفَر، لكنهم لم يستطيعوا الخروج.
عباد الله: وهكذا توالت مناجاة الضراعة بصالح العمل الخفي، وقوي رجاءُ بركته حين رأوا أثر دعوة الأول بزوال ثلث الصخرة عن فوهة الغار.
فتوسل الثاني إلى ربه بعفته عن الحرام في موضع تعسر فيه العفة؛ إذ قد تمكّن -بعد تربص وتكرار- ممن علق هواه بها بعد أن ألجأها الفقر إلى وحل الزنا؛ فكانت منها الموعظةُ البليغةُ التي زلزلت الوجدان بذكرى تقوى الإله وخوفه ورعاية الحق والرَّحم؛ روى الطبراني بإسناد حسن كما قال الحافظ: "أَنَّهَا تَرَدَّدَتْ إِلَيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ تَطْلُبُ مِنْهُ شَيْئًا مِنْ مَعْرُوفِهِ وَيَأْبَى عَلَيْهَا إِلَّا أَنْ تُمَكِّنَهُ مِنْ نَفْسِهَا، فَأَجَابَتْ فِي الثَّالِثَةِ بَعْدَ أَنِ اسْتَأْذَنَتْ زَوْجَهَا فَأَذِنَ لَهَا، وَقَالَ لَهَا: أَغْنِي عِيَالَكِ، قَالَ: فَرَجَعَتْ فَنَاشَدَتْنِي بِاللَّهِ فَأَبَيْتُ عَلَيْهَا؛ فَأَسْلَمَتْ إِلَيَّ نَفْسَهَا، فَلَمَّا كَشَفْتُهَا ارْتَعَدَتْ مِنْ تحتي، فَقلت: مَا لك؟! قَالَتْ: أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ، فَقُلْتُ: خِفْتِيهِ فِي الشِّدَّةِ وَلَمْ أَخَفْهُ فِي الرَّخَاءِ، فَتَرَكْتُهَا".
تحركت في فؤاده مشاعرُ الخوف من الجبار -جل وعلا-، فانتزعت من قلبه جلمد الصبابة، وفجّرت منه ينابيع الرحمة؛ فقام عن الفاحشة لا يلوي منها على شيء، تاركًا لابنة عمه كلَّ ما سلمها من مال قد أضناه جمعه. وما أن انقطع من دعائه إلا وثلث من الصخرة ينحدر عن فم الغار بأمر من أجاب المضطر إذا دعاه.
ولكن بقي من حكمة البلاء ما جعل الصخر مانعًا خروجَهم حتى شرع ثالثهم في مناجاة القريب المجيب -جل وعلا-، فتوسّل إليه بأمانته حين سمت نفسه عن شحِّها، وسلم من وصمة منع الحق أو بخسه مع قدرته عليه وقوة داعيه وكثرة أهله، وبات راعيًا حقَّ ذلك الأجير، بل ومثمّرًا له حتى تنامت أجرته من أرز ذي تسعة كيلوات إلى قطيع كثير من الرقيق والغنم والبقر والإبل، فجاءه الأجير بعدما شاخ وكبر طالبًا أجرته، فما تلكأ أو كتم أو أنكر أو بخس أو طلب ردَّ الجميل، بل دلّه على أجرته وخلّى بينه وبينها بطيب نفس، فظن الأجير أنه يسخر به؛ لمّا رأى السماحة وكثرة الأجر وتنوعَه، حتى أكّد صاحبُه أحقيته به، فاستاقه، ولم يبقِ منه شيئًا، وما أن كملت تلك الدعوة إلا ويجيء فرج الله -تعالى- بانشقاق الصخر عن فتحة الغار بتوالي دعوات الخبايا الصالحة. يقول النعمان بن بشير -رضي الله عنهما-: "لَكَأَنِّي أَسْمَعُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "فَقَالَ الْجَبَلُ: طَاقْ، فَفَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَخَرَجُوا". رواه الطبراني وحسنه الحافظ.
بارك الله...
الخطبة الثانية:
أيها المؤمنون: في نبأ أهل الغار إظهار لشأو العمل الصالح سيما إن كان خفيًا، وأنه سبب لتفريج الكُرَب؛ ما يجعل الحصيفَ يُعِدُّ الخبيئة الصالحة التي تدخر بين يدي البلاء. وخبيئة الصدق خير ما يدخر من الخبايا، وهي أخلص الخبايا وأصوبها وأكثرها منازعة للهوى وأسلمها منه؛ فلعمر الله! لَلصدق طوق نجاة في أمواج البلاء المتلاطمة.
جاء في رواية الغار للبخاري: "فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: إِنَّهُ وَاللَّهِ -يَا هَؤُلاَءِ-، لاَ يُنْجِيكُمْ إِلَّا الصِّدْقُ، فَليَدْعُ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ بِمَا يَعْلَمُ أَنَّهُ قَدْ صَدَقَ فِيهِ". فارقبِ الصدق في فعالك وأقوالك؛ فإنه نجاة لك في الدنيا والآخرة. والدعاء وقت البلاء من أعظم أسباب رفعه، خاصة إن كان صاحبه من أهل دعاء الرخاء؛ فمن عرف الله في الرخاء عرفه في الشدة.
وفي هذا النبأ تعظيم لتلك الأعمال الصالحة التي توسل بها النفر الثلاثة: بر الوالدين، والعفة عن الحرام، وأداء الأمانة. وفي هذا تنبيه لرعايتها، والحذر من إخفار ذمتها.
ومن هدي نبأ الغار: أَنَّ تَرْكَ الْمَعْصِيَةِ يَمْحُو مُقَدِّمَاتِ طَلَبِهَا، وَأَنَّ التَّوْبَةَ تَجُبُّ مَا قَبْلَهَا، وأن ضرر الفقر يتعدى لارتكاب الحرام وفشوه في المجتمع؛ ومن هنا وجب على المجتمع قادةً ورعيةً مكافحتُه بالتدابير التي شرعها الله.
التعليقات