عناصر الخطبة
1/ البخل آفة 2/(وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) 3/عواقب البخل مع الأبناء وضرره 4/البخل ودعوى اعتماد الأبناء على أنفسهم 5/أفضل الصدقة الإنفاق على الأهل.اقتباس
كم من والد كان شحيحاً على أولاده لا يعطيهم ما يكفي حاجتهم, ثم خرج من الدنيا تاركاً هذه الأموال لهم فقاموا باللعب بها، والعبث فيها، والتبذير والاسراف في صرفها، وكأنهم يريدون أن يعوضوا ما فاتهم، أو بالأصح ينتقموا من الحرمان الذي أصابهم في حياة أبيهم...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، والصلاة والسلام على من بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، فكان رحيماً كريماً, ناهياً عن البخل ومحذراً من البخلاء, وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً مزيداً.
أمَّا بَعْد:
أيها المسلمون: نريد اليوم أن نتكلم عن ظاهرة مقيتة منتشرة لدى بعض الآباء، وربما يعتقد بعضهم أنها فعل محمود وتصرف حسن، وهي في الحقيقة صفة مذمومة وتصرف سيء، إنها ظاهرة البخل الشديد لدى بعض الآباء مع أبنائهم.
لقد ابتلي بعض آبائنا بالبخل في التعامل مع أبنائهم، فلا يعطيه ما يكفيه، ولا يمده من مال الله الذي أتاه إياه، ويتركه كالمتسول يتكفف الناس ويسألهم، وربما أظهر للآخرين حاجته، وأخبرهم بحال أبيه في التعامل معه.
عباد الله: تأملوا قول الله -سبحانه وتعالى-: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا * الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا) [النساء 36: 37]. لقد أمر الله -تبارك وتعالى- في هذه الآية الكريمة بالإحسان إلى الوالدين والأقربين والجيران، ثم نهى عن الفخر والخيلاء الذي يمنع الإنسان عن الإحسان والعطاء، ويدفعه إلى الشح والبخل والامتناع عن القيام بالحقوق التي يجب عليه أدائها للآخرين.
بعض آبائنا -والله المستعان- يبخل عن العطاء على أقرب الأقربين له وهم أولاده وذريته، ويحرص دائماً على التظاهر أمامهم بأنه لا يملك شيئاً، وليس عنده من المال ما يعطيهم منه، وكأنه ينتظر منهم أن يعطوه ويتصدقوا عليه.
يُغلق نفسه بالبخل، ويربي أولاده عليه، ويكتم الخير الذي رزقه الله به، ويجعل الناس ينظرون إليه بصورة مقززة، ويعيش دائماً حياة دنيئة ذليلة، بسبب إهانته لنفسه، وعدم إظهار نعمة الله عليه.
إن الله -تبارك وتعالى- يقول في سورة الضحى: (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) [الضحى : 11] أي حدث بنعم الله عليك على الإطلاق، فإن التحدث بنعم الله، داع لشكرها، وموجب لتحبيب القلوب إلى من أنعم بها، فإن القلوب مجبولة على محبة المحسن إليها، ولا شك أن البخيل قد أخفى نعم الله عليه, ولم يظهر ما رزقه الله وأعطاه إياه، إذا كان يبخل بذلك حتى عن أبنائه.
روى الترمذي عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللَّهَ يُحِبَّ أَنْ يُرَى أَثَرُ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ" [الترمذي (6823)]. وفي رواية أحمد يقول -عليه الصلاة والسلام-: "كُلُوا وَاشْرَبُوا وَتَصَدَّقُوا وَالْبَسُوا فِي غَيْرِ مَخِيلَةٍ، وَلاَ سَرَفٍ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ أَنْ تُرَى نِعْمَتُهُ عَلَى عَبْدِهِ" [ أحمد (3051)].
هل يعلم الأب البخيل الذي يبخل عن العطاء لأولاده أنه بهذا التصرف السيء يعلم أبناءه الكثير من القبائح والرذائل؟، ومنها تعلم النصب والاختلاس والسرقة، لأن هؤلاء الأولاد إن لم تستد حاجتهم ويجدوا ما يكفيهم؛ فإنهم في النهاية سيضطرون إلى الأخذ من ماله بغير علمه، ومن ثم سيأخذون من أموال الآخرين بطريقة الحرام، ويتعلمون فنون السرقة والإجرام.
في الصحيح عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها-، قَالَتْ: "دَخَلَتْ هِنْدٌ بِنْتُ عُتْبَةَ امْرَأَةُ أَبِي سُفْيَانَ عَلَى رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ، لَا يُعْطِينِي مِنَ النَّفَقَةِ مَا يَكْفِينِي وَيَكْفِي بَنِيَّ إِلَّا مَا أَخَذْتُ مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمِهِ، فَهَلْ عَلَيَّ فِي ذَلِكَ مِنْ جُنَاحٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "خُذِي مِنْ مَالِهِ بِالْمَعْرُوفِ مَا يَكْفِيكِ وَيَكْفِي بَنِيكِ" [مسلم (1714)].
لقد أجاز لها النبي -صلى الله عليه وسلم- الأخذ من مال زوجها؛ لأنه قد بخل عن النفقة عليها وعلى أولادها الصغار، وقال لها بصريح العبارة: "خُذِي مِنْ مَالِهِ بِالْمَعْرُوفِ مَا يَكْفِيكِ وَيَكْفِي بَنِيكِ".
كما أن البخل الشديد مع الأولاد يربيهم على الدناءة والسفول, وتوطئة النفس وعدم العزة بها، وهذا شيء طبيعي جداً، فإن من تربى على القلة تربى على الذلة، ومن عاش على الدناءة عاش حقيراً ومات صغيراً، ولهذا استعاذ النبي -صلى الله عليه وسلم- من القلة والذلة، فكَانَ يَقُولُ:"اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْفَقْرِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْقِلَّةِ وَالذِّلَّةِ وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ" [النسائي (5477)].
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، قَالَ: وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَهُوَ يَذْكُرُ الصَّدَقَةَ وَالتَّعَفُّفَ عَنِ الْمَسْأَلَةِ "الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى، وَالْيَدُ الْعُلْيَا الْمُنْفِقَةُ، وَالسُّفْلَى السَّائِلَةُ" [ مسلم (1033)].وفي رواية البخاري قَالَ: "الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ وَخَيْرُ الصَّدَقَةِ عَنْ ظَهْرِ غِنًى، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ" [البخاري (1427)].
فاتقوا الله -أيها الآباء الكرام- وترفعوا عن هذا الخلق الذميم، واربئوا بأنفسكم عن هذه المذمة والمنقصة، وخاصة مع أولادكم ومن تعولون، فإن الله -سبحانه وتعالى- يقول: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [التغابن : 16]. ويقول: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى) [الليل 5: 10].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّد المرسلين نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
أيها الآباء: يقول الله -تبارك وتعالى-: (هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) [محمد : 38].
إن البخل مرض وخطير وداء مؤلم، لن يجني البخيل من ورائه خيراً لا في الدنيا ولا في الآخرة، وعندما يكون البخل عن الأولاد واحتياجاتهم فإن هذا هو الخطر الأكبر والشرر الأخطر.
هل يظن البخيل أنه ببخله عن أولاده سيتوفر له المال ويستطيع جمعه وتكثيره؟ كلا، فإن من يبخل فإنما يبخل عن نفسه، ويهلك نفسه بنفسه، وسيخرج من هذه الدنيا وسيتركه لهم، كم من والد كان شحيحاً على أولاده لا يعطيهم ما يكفي حاجتهم, ثم خرج من الدنيا تاركاً هذه الأموال لهم فقاموا باللعب بها، والعبث فيها، والتبذير والاسراف في صرفها، وكأنهم يريدون أن يعوضوا ما فاتهم، أو بالأصح ينتقموا من الحرمان الذي أصابهم في حياة أبيهم.
وربما افتتنوا عليها وتنازعوا ودخلوا في متاهات ومشاكل حولها، وبدلاً من أن يشكروا والدهم على تخليف هذا المال لهم يقومون بلعنه والسخط عليه، لأنه خرج من الدنيا ولم يوضح لهم شؤونه، أو يقوم بتوزيعه والعدل فيه.
بعض الآباء يبرر بخله عن أولاده بأنه يريد أن يربيهم على الاعتماد على النفس، والقيام بشؤون أنفسهم بأنفسهم، وهذه حجة متهافتة لأن من يريد من أبنائه أن يعتمدوا على أنفسهم؛ يعززهم ويعطيهم الشيء الذي يقيمون به أنفسهم، ويمدهم بما يستطيعون به أن يقيموا به مشاريعهم، ثم يطالبهم بالاعتماد على أنفسهم والقيام عليها.
أما أن يتركهم بلا شيء، ويبخل عن إعطائهم، ثم يتعلل بأنه عندما يمنعهم ولا يعطيهم ليس من باب البخل وإنما هو من باب التربية على الاعتماد على الذات فإنه, هذا ما هو إلا بخل مغلف بغلاف واه ضعيف، ومبرر غير مقبول شرعاً ولا عقلاً.
وبعض الآباء يتعلل عن مساعدة أبنائه بحجة العدل، فإذا طلب منه أولاده شيئاً قال لهم: أنتم كثير ولا أستطيع أن أعدل بينكم، وهذا عذر مرفوض، لأن الأب مأمور بالنفقة على أولاده، وإعطائهم ما يكفي حاجتهم، وإذا كان قادراً على تزويجهم زوجهم، ولا يجوز له أن يتركهم عالة على الناس، أو الجمعيات الخيرية، وأهل الخير والرحمة.
وليعلم أن أبناءه في المستقبل هم جميعاً رصيداً له، فليكسب دعاءهم، وليكسب محبتهم وثناءهم فالكرم زينة للرجال، ومجلب لحب الأبناء لآبائهم، وسحقاً لأموال كانت سبباً للنفور والبخل والانقباض ونفور الأبناء عن آبائهم. (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) [البقرة : 215].
فالحذر الحذر -أيها الآباء الكرام- من البخل على الأبناء، فإن لذلك عواقب وخيمة ومضار كثيرة، ولا يدفعنا أبناؤنا إلى الشح والبخل فإن نبينا -صلى الله عليه وسلم- حذرنا من ذلك ونهانا عنه، فقال: " إن الولد مبخلة مجبنة " [ابن ماجة (3666)]، أي سبباً يجعل الإنسان يبخل ويجبن.
صلوا وسلموا وأكثروا من الصلاة والسلام على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال عز من قائل –كريم-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب : 56].
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ , كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ , وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ , كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.
اللهم اجعلنا من المربين لأولادنا، المهتمين بهم، المنفقين عليهم، غير بخلاء عليهم، يا أرحم الراحمين، وارزقنا برهم يارب العالمين.
التعليقات