عناصر الخطبة
1/ كراهة طلب الإمارة وسؤالها 2/ إنما الأعمال بالنيات 3/ من أقبح صور طلب الشرف والمنزلة الدنيوية طلبها بأعمال الآخرة 4/ نظرة وتأملاهداف الخطبة
اقتباس
من تولى هذه الولايات وهو أهل لها ناصحاً للمسلمين يسعى في تحصيل المصالح على قدر وسعه ويدرأ ما استطاع من المفاسد فالولاية عنده وسيلة لتحصيل المصالح وتكثيرها ودرأ المفاسد وتقليلها سيان عند نفسه بقي في هذه الولاية أو عزل منها فهو على خير عظيم ومأجور في ولايته ونيته. لكن قبل أن يقدم الشخص على هذه الولاية لينظر في نفسه وصدقها في هذه النية ولينظر بعد توليه هل عمله عمل من جعل الولاية وسيلة لرضاء ربه أو غاية في نفسها ..
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا؛ من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) [النساء:1] (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ وَخَيْرُ الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ.
عن كعب بن مالك الأنصاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه" رواه الترمذي وغيره بإسناد صحيح وقد أشرت في الخطبة السابقة إلى ما يتعلق بالمال وفي هذه الخطبة أتكلم على الشق الآخر في الحديث.
وهو الحرص على الشرف وذلك بأن يكون الشخص مسوداً له ولاية على الناس كالإمارة والإدارة والرياسة وغير ذلك من الولايات. هو أشد فتنة من فتنة المال لذا يدفع المال لحصول المنزلة الدنيوية. وطلب هذه الولايات يستلزم ضرراً قبل حصولها من التذلل للمخلوق وتعظيمه وربما عصى الله بسببه وبعد حصول الولاية يرى لمن ولاه منة عليه فهمه رضاه ويخشى من غضبه عليه فيقيله من هذه الولاية ويوليها غيره فهمه رضاء المخلوق فأعطى رئيسه قسطاً من عبوديته لربه من حيث لا يشعر.
ومن طلب الرياسة في الدنيا لأجل العلو والرفعة وكل إلى نفسه وقلما يوفق؛ فعن عبد الرحمن بن سمرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا عبد الرحمن بن سمرة لا تسأل الإمارة فإنك إن أوتيتها عن مسألة وكلت إليها وإن أوتيتها من غير مسألة أعنت عليها " رواه البخاري ومسلم. هذا في الدنيا أما في الآخرة فالأمر أشد على من لم يقم بحقها من العدل بين الناس وإنصافهم وتقديم أمر الله على ما سواه (وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا) [الجن:15] وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنكم سَتَحْرِصُونَ على الإمارة وستكون ندامة يوم القيامة فنعم المرضعة وبئست الفاطمة " رواه البخاري. فالولاية الدنيوية نعم المرضعة لما فيها من حصول الجاه والمالِ ونفاذِ الكلمة وتحصيلِ اللذات وبئست الفاطمة عند ترك الوظيفة لما يترتب عليها من التبعات في الدنيا والآخرة.
وإذا كان مقصد من طلب هذه الولايات العلو في الأرض ونفوذ أمره ونهيه على الناس وافتقار الناس إليه وظهور حاجتهم إليه وذلهم بين يديه في طلب حوائجهم فهذا مزاحمة لربوبية الله وإلهيته فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله عز وجل: (الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني واحداً منهما قذفته في النار)" رواه مسلم وأبو داود واللفظ له.
عباد الله: من تولى هذه الولايات وهو أهل لها ناصحاً للمسلمين يسعى في تحصيل المصالح على قدر وسعه ويدرأ ما استطاع من المفاسد فالولاية عنده وسيلة لتحصيل المصالح وتكثيرها ودرأ المفاسد وتقليلها سيان عند نفسه بقي في هذه الولاية أو عزل منها فهو على خير عظيم ومأجور في ولايته ونيته. لكن قبل أن يقدم الشخص على هذه الولاية لينظر في نفسه وصدقها في هذه النية ولينظر بعد توليه هل عمله عمل من جعل الولاية وسيلة لرضاء ربه أو غاية في نفسها. فكلٌ يدعي وصلاً لليلى وليلى لا تقر لهم بذاكا. وليحذر من الانجرار في إرضاء المخلوق بمعصية الخالق فالمشاهد من البعض على ما فيه من خير أن قدمه تزل بعد ثبوتها والأمر على أول مرة فإذا هانت عليه معصية الله هان هو في عيون الخلق وجعلوه مطية لتحقيق أغراضهم ثم استبدلوه بغيره فخسر الدنيا والآخرة.
فإذا رأى من تولى هذه الولايات من نفسه عدم القدرة في مقارعة الباطل وإحقاق الحق أو رأى أنه يقصر في ما بينه وبين ربه في ظاهره أو باطنه فالنجاة النجاة قبل أن تستحكم ظلمة القلب فلا يعرف معروفاً ولا ينكر منكرا.
ومن أعظم ما يذم طلب الدنيا في أعمال الآخرة فتجعل أعمال الآخرة وسيلة للتكسب وجمع الأموال فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله عز وجل لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيالم يجد عرف الجنة يوم القيامة يعني ريحها" رواه الإمام أحمد وغيره بإسناد حسن. قال ابن رجب في شرح حديث ما ذئبان جائعان ص : 48: "وسبب هذا والله أعلم أن في الدنيا جنة معجلة وهي معرفة الله ومحبته والأنس به والشوق إلى لقائه وخشيته وطاعته. والعلم النافع يدل على ذلك فمن دله علمه على دخول هذه الجنة المعجلة في الدنيا دخل الجنة في الآخرة ومن لم يشم رائحتها في الدنيالم يشم رائحة الجنة في الآخرة ولهذا كان من أشد الناس عذاباً في الآخرة عالمٌ لم ينتفع بعلمه وهو من أشد الناس حسرة يوم القيامة حيث كان معه آلة يتوصل بها إلى أعلى الدرجات وأرفع المقامات فلم يستعملها إلا في التوصل إلى أخس الأمور وأدناها". أ هـ .
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين المطلع على ما تكنه القلوب والصلاة والسلام على نبينا محمد إمام المخلصين وأزهد الخلق في طلب الحظ الدنيوي الزائل وآله وأصحابه الذين حققوا الإخلاص لرب العالمين وبعد:
من أقبح صور طلب الشرف والمنزلة الدنيوية عند الناس طلبها بأعمال الآخرة كالعلم والعبادة والزهد وحفظ القرآن والجهاد والإنفاق في وجوه الخير وسائر أنواع الطاعات فهذه عبادات يراد بها الله وما عنده فإذا قصد بها صاحبها أمراً دنيوياً من مدح أو غير ذلك أصبح مشركاً غير الله في هذه العبادات فتعرض بسببها للعقاب. وغيره ممن حسنت نيته حصل بها على النعيم المقيم والدرجات العلى فعن أبي هريرة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد فَأُتِيَ به فَعَرَّفَهُ نعمه فعرفها قال فما عملت فيها؟ قال قاتلت فيك حتى استشهدت قال كذبت ولكنك قاتلت لأن يقال جريء فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فَأُتِيَ به فَعَرَّفَهُ نعمه فعرفها قال فما عملت فيها؟ قال تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن قال كذبت ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم وقرأت القرآن ليقال هو قارئ فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله فَأُتِيَ به فَعَرَّفَهُ نعمه فعرفها قال فما عملت فيها؟ قال ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك قال كذبت ولكنك فعلت ليقال هو جواد فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقي في النار" رواه مسلم.
إخوتي: النفس بطبعها تحب الرفعة والعلو على أبناء جنسها ومن هنا نشأ الكبر والحسد ولكن العاقل ينافس في العلو الدائم الباقي الذي فيه رضوان الله وقربه وجواره ويرغب عن العلو الفاني الزائل الذي يعقبه غضب الله وسخطه وانحطاط الشخص وبعده عن ربه فهذا هو العلو المذموم وهو العتو والتكبر في الأرض بغير الحق أما البحث عن العلو في الآخرة وسلوك طرقه فهو محبوب لله مأمور به (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ) [المطففين:26].
أخي: إذا أردت أن تزهد في هذه الولايات التي تبعدك من ربك وتوبق آخرتك فانظر حال أهلها في الدنيا فهم في هم قبل تحصيلها وفي هم بعد حصولها خشية أن تزول عنهم. وإذا زالت عنهم بتنحية أو تقاعد حصل لهم من الكدر بزوال ما اعتادوه من ألفاظ التبجيل وصلة الناس لهم في المناسبات فمن أحبهم ووصلهم لوليتهم قلاهم بعد فقدها. وتذكر عقوبة أهلها الذين لم يقوموا بها في الآخرة. وأعلم أن من اشتغل في طلب الشرف في الآخرة بالعلم والعمل كان له في ذلك شغل عن طلب المنزلة عند الناس والاهتمام بمدحهم وذمهم ومع ذلك فإن الله يعطيه علو المنزلة في قلوب الخلق والشرف عندهم مع كونه لا يحفل بذلك بل يكرهه خشية أن يكون في عمله شيء للخلق وخشية أن تعجل له حسناته في الدنيا (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا) [مريم:96] وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله إذا أحب عبداً دعا جبريل فقال إني أحب فلانا فأحبه قال فيحبه جبريل ثم ينادي في السماء فيقول إن الله يحب فلاناً فأحبوه فيحبه أهل السماء قال ثم يوضع له القبول في الأرض وإذا أبغض عبداً دعا جبريل فيقول إني أبغض فلاناً فأبغضه قال فيبغضه جبريل ثم ينادي في أهل السماء إن الله يبغض فلاناً فأبغضوه قال فيبغضونه ثم توضع له البغضاء في الأرض" رواه البخاري ومسلم. فطلب شرف الآخرة يحصل معه شرف الدنيا وإن لم يرده صاحبه ولم يطلبه وطلب شرف الدنيا لا يجامع شرف الآخرة والعاقل من آثر الباقي على الفاني.
التعليقات