عناصر الخطبة
1/ صورة ناصعة من الاحتساب على الغش التجاري 2/ صور من احتساب النبي -صلى الله عليه وسلم- 3/ الدور الحقيقي للمحتسب 4/ عناية الشريعة بالحفاظ على حقوق الناس 5/ القطب الأعظم في الدين 6/ سعة مفهوم الاحتساب وتنوعه 7/ أين المصلحون عن الاحتساب الشمولي؟ 8/ حالة معكوسة وقلوب أصحابها منكوسة 9/وصايا للمحتسبين 10/ فضل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر 11/ خطورة الإعراض عن شعيرة المصلحيناهداف الخطبة
اقتباس
لقد أدرك أعداء الأمة من خلال متابعة تاريخها وسيرتها على مرِّ الأزمان وكرِّ الدهور أن مجتمع المسلمين يكون في أمن وأمان وعفو وعافية متى ما كان عَلَم هذه الشعيرة مرفوعاً، وكذلك تكون دولتهم قوية منصورة، فهم ظاهرون على عدوهم مدة استمساكهم بها؛ لذلك عمل أعداء الأمة على توهين هذه الشعيرة في قلوب المسلمين عن طريق وسائل الإعلام المتعددة من مقروء ومسموع ومنظور، والتي بلغ تأثيرها بفعل التقدُّم التقني شأواً بعيداً، وراموا من خلال هذه الوسيلة إحداث تغيير جذري في العقائد والأفكار، وعاونهم في ذلك أتباع لهم وأشياع ممن رضوا بالدنية في دينهم مقابل عَرَض زائل حقير...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله..
أما بعد: أيها المسلمون: في وسط سوق المدينة مرّ المصطفى -صلى الله عليه وسلم- برجل يبيع طعاماً، فأدخل يده فيه، فنالت أصابعه بللاً فقال: "ما هذا يا صاحب الطعام؟" قال: أصابته السماء يا رسول الله، فيرشده ويحذره في صورة ناصعة من الاحتساب على الغش التجاري: "أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس؟!، من غشَّ فليس مني" (رواه مسلم).
وفي صورة أخرى من الاحتساب؛ حماية لحق الفرد من الاعتداء ومن الظلم، يمشي في إحدى الطرقات فيرى رجلاً رافعاً سوطه يضرب خادمه فيقول له: "اعلم أبا مسعود، أن الله أقدر عليك منك عليه"، فيلتفت فإذا هو برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فيقول: يا رسول الله، هو حرّ لوجه الله، فيردّ عليه: "أما لو لم تفعل للفحتك النار" (رواه مسلم).
ويأتيه رجل مشرك في مكة يطلب أن يعينه على أبي جهل لِمَطْلِه حقه وعدم وفائه له برد ماله، فيقوم معه وهو لا يعرفه، مع صعوبة الموقف لأجل عداوته الشديدة مع أبي جهل، فيطرق عليه بابه فيخرج وهو ممتلئ رعباً فيقول له: "أعط هذا الرجل حقه"، فيقول: نعم، لا يبرح حتى أعطيه الذي له، فدخل، فخرج إليه بحقه فدفعه إليه. (أخرجه ابن إسحاق).
المحتسب ينبغي له أن ينهى عن المنكرات: من الكذب والخيانة، وما يدخل في ذلك من تطفيف المكيال والميزان والغشّ في الصناعات، والبيوع، والديانات، ونحو ذلك. ولم يكتفِ -صلى الله عليه وسلم- في احتسابه بالمطالبة بحقوق الإنسان، بل كان يحتسب على أصحابه في عدم إيذاء الحيوان والإضرار به، ففي أحد أسفاره وجد بعض أصحابه أخذ فراخ حُمَّرة وهي تفرّش في الأرض حزناً على فراخها، فقال: "من فجع هذه بولدها؟ ردوا ولدها إليها" ورأى قرية نمل قد حرَّقوها، فقال: "من حرَّق هذه؟" فقال بعضهم: نحن، قال: "إنه لا ينبغي أن يعذب بالنار إلا ربّ النار" (رواه أبو داود).
ومرَّ بجمل فأقبل عليه فقال: "مَنْ رب هذا الجمل؟"، فجاء فتى من الأنصار فقال: لي يا رسول الله. فقال: "أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملَّكك الله إياها؟ فإنه شكا إليَّ أنك تجيعه وتدئبه". (رواه أبو داود).
أيها المسلمون: هذه الصور وغيرها كثير يبيّن لنا عناية الشريعة في الحفاظ على حقوق الناس وعدم ظلمهم، أو الاعتداء على شيء من حقوقهم أو كرامتهم. وإذا كان هذا في حقوق الخلق فعناية الشريعة بحقوق الخالق أعظم، فالمقصد الأعلى من إيجاد البشرية هو تحقيق العبودية له –سبحانه-، وأكبر ركيزة تحقق هذه العبودية هي التناصح والتذكير والأمر والنهي، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو القطب الأعظم في الدين، وهي المهمة الذي ابتعث الله له النبيين أجمعين، ولو طُوي بساطه وأُهمل علمه وعمله لتعطلت النبوة، واضمحلت الديانة، وعمت الفترة، وفشت الضلالة، وشاعت الجهالة، واستشرى الفساد.
وإذا كان جماع الدين وجميع الولايات هو أمر ونهي، فالأمر الذي بعث الله به رسوله هو الأمر بالمعروف، والنهي الذي بعثه به هو النهي عن المنكر، وهذا نعت النبي والمؤمنين، كما قال تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَر) [التوبة: 71].
وهذا واجب على كل مسلم قادر، وهو فرض على الكفاية، ويصير فرض عين على القادر الذي لم يقم به غيره، والقدرة هي السلطان والولاية. ولذا جعل الله خيرية هذه الأمة مرتبط بقيامها بهذه الشعيرة العظيمة، وحذَّر من عقوبة تركها أو التساهل فيها، فكيف بمحاربتها والوقوف في سبيل انتشارها؟!
أيها المسلمون: من خلال النماذج السابقة يتبين لنا سعة مفهوم الاحتساب وتنوعه، وأهمية قيام الأخيار والمصلحين بما يقدرون عليه من ذلك، فما أحوجنا لسلوك خطى الحبيب -صلى الله عليه وسلم- في شمولية احتسابه، والوقوف مع المظلوم حتى يأخذ حقه، ومع المعتدَى عليه حتى يُقتصَّ له، والتصدي للمفسد حتى يقف عن باطله، وعلى المنكَر حتى يزول، وعلى الغاشّ حتى يتقن عمله.
وهنا يرد سؤال يتكرر: أين المصلحون عن الاحتساب الشمولي؟ ولماذا تدور أطروحاتهم حول الاحتساب على المنكرات فقط؟
فيُجاب عن هذا: بأن السائل حمل هذا الاعتقاد في داخله لبعض صور الاحتساب التي ضجَّ حولها الإعلام، فحجّم مشروعاتهم في إنكار المعصية فقط، ولو نظر في الساحة بعين الإنصاف لوجدهم أكثر من يتكلم عن قضايا الفساد والظلم والحقوق وعدم الاعتداء عليها أو المساس بها.
والخطب والمحاضرات والندوات والمقالات التي ساهموا بها في هذا المجال لا يمكن حصرها، لكن التشغيب المبني على الهوى لا على طلب الحق يُعمي عن رؤية المحاسن، ويرمي بصاحبه بالبهتان والتدليس في حق من خالفه.
وإن كان هناك تقصير من بعضهم، وبعضهم الآخر قصَر مفهوم الاحتساب على المنكر فقط، وهذا لا يُنكر بل هو موجود، لكن الأكثرية عندهم سعي واهتمام بتطبيق الشمولية والعناية بها، وبعضهم قد تخصص في المنكرات وفُتح له في إزالتها ولم يبذل أو يتمكن من العناية بغيرها، فهذا على ثغر وقد كفى غيره مؤنة ذلك، فحقه أن يُشكر ويُعذَر، لا أن يلام ويقلل من عمله. أسأل الله أن يستعملنا في طاعته، وأن يجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن.
اعلم أيها المحتسب أن ما تلقاه من بعض أفراد المجتمع لهو خير، وليس شرّاً، وذلك مصداق قول ربنا سبحانه وتعالى: (وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُون) [البقرة: 216].
فالأصل هو المخالطة والمجالسة والاجتماع، هذا هو الأصل، اجتماع أهل الإسلام واختلاطهم وتلاقيهم في المجالس والمجامع والمساجد والطرقات، هذا هو الأصل، يبذلون السلام، ويحسنون الكلام، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويدلون على الخير، ويتناصحون ويزيلون الأذى عن الطريق، وينفعون ويأمرون ويصلحون بين الاثنين.
ولما كان الاحتساب يُعنى بنشر الخير بين أفراد المجتمع وحفظهم من الفتن والمتقلبات، كان ذلك أقرب لفعل الرسل والأنبياء عليهم السلام، وقد ضَربوا -صلوات الله وسلامه عليهم- أروع الأمثلة في الصبر وتحمل الأذى من أجل الدعوة واحتساب الأجر على الله، ولاقوا في سبيل الدعوة إلى الله تعالى ما لا يوصف، من الأذى القولي والفعلي والطرد والإهانة والقتل.
ومع ذلك فما زال الأنبياء على دعوتهم والصبر عليها، وقد تحمل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المشاق في سبيل الاحتساب ونشر الإسلام، وكان أهل قريش يرفضون دعوته للإسلام ويسبونه ولا يستجيبون له، وكان جيرانه من المشركين يؤذونه ويلقون الأذى أمام بيته، فلا يقابل ذلك إلا بالصبر الجميل.
وعلى صعيد آخر: فإن على المحتسب الذي يخالط الناس أن يتمتع بصفات تجعله يتقرب إلى الناس، وألا يصدر منه ما يُنفّر أفراد المجتمع منه. فعليه البُعد عن الفظاظة والغلظة والقسوة والغضب وصدق الله عز وجل حيث يقول: (وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ القَلْبِ لاَنفَضُّوا مِنْ حَوْلِك) [آل عمران: 159]، ومقابلة السيئة بالحسنة من أبدع الأخلاق وأحبها إلى الله تعالى: (وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُور) [الشورى: 23].
وقد علم الله –تعالى- أن القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس بالأمر الهين أو اليسير، بل تعترضه عقبات وصعوبات من نواحٍ متعددة. ونظراً لما يترتب على القيام بها من منافع وخيرات تعود على الفرد والجماعة في دروب الحياة جميعها، فقد بينت النصوص فضل هذه الفريضة وفضل القائمين بها، وحرَّضت على القيام بها أيما تحريض، كما حذَّرت من التقاعس عن القيام بأدائها أو معاندتها أو محاولة القيام بأي شيء يساعد على تعطيلها أو التضييق عليها أو على القائمين بها، حتى قرنت عقاب المانعين لها بعقاب الكفر بآيات الله وقتل الأنبياء، فقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيم) [آل عمران: 21].
وقد تعددت النصوص في بيان فضل القيام بهذه الفريضة، وفضل القائمين بها، وهي كثيرة وليس المقام مقام تعدادها، ويكفي هذه الفريضةَ شرفاً وفضلاً أن جعلها الله –تعالى- من الصفات اللصيقة التي مدح بها رسولَه الكريم محمد -صلى الله عليه وسلم- فقال تعالى: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَر) [الأعراف: 157]، كما وصف بها أصحابه وأتباعه إلى يوم الدين فقال -تبارك وتعالى-: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَر) [التوبة: 71]، ثم جاءت الآية الجامعة التي جعلت هذه الشعيرة عنواناً لخيرية هذه الأمة، فقال سبحانه وتعالى: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَر) [آل عمران: 110].
أيها المسلمون: إن هذه الفريضة على ما فيها من شرف وفضل وعلوِّ منـزلة، إلاّ أن هناك من يبغضها ويعاندها ويسعى في إبطالها ويعمل بعكسها، فيكون من الآمرين بالمنكر بدلاً من الآمرين بالمعروف، ومن الناهين عن المعروف بدلاً من الناهين عن المنكر، وهذه حالة معكوسة وقلوب أصحابها منكوسة، لا تحب الخير أو تلتذُّ به، بل تزدريه، وتستعذب الشرور وترتاح لها، فهو كمن يستعذب المياه النجسة وتأبى نفسه الارتواء بماء زمزم، لذا لا يقع فيها من خالط الإيمانُ قلبَه وسرت فيه حلاوته، وقد قال الله تعالى في أشباههم: (وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِين) [الأعراف: 146].
لقد بينت النصوص صفة الذين يعارضون هذه الفريضة ويعاندونها فيأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف، ونعتهم بالوصف الكاشف لهم المجلِّي لحقيقة إيمانهم فقال تعالى: (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ المُنَافِقِينَ هُمُ الفَاسِقُون) [التوبة: 67].
وهم في أمرهم بالمنكر متابعون للشيطان عدوِّ بني آدم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَر) [النور: 21]، فكان الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف سمة بارزة وعلامة فارقة مميزة تدل على نفاق من اتصف بذلك رجلاً كان أو امرأة، وهو في ذلك من أتباع الشيطان وحزبه: (أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُون)[المجادلة: 19].
وسالك طريق بني إسرائيل المغضوب عليهم والضالين: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ، كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُون) [المائدة: 78]، فكان العصيان والعدوان وترك النصيحة والنهي عن المنكرات من أوصاف بني إسرائيل الذين لُعنوا بسببها على ألسنة أنبيائهم.
بارك الله..
الخطبة الثانية:
الحمد لله..
أما بعد: أيها المسلمون: والأمر بالمنكر والنهي عن المعروف لا تتحدد له صورة نمطية واحدة، بل يأخذ صوراً متعددة بتعدُّد مسالك أهل الضلال والفساد، وتعدُّد إمكانياتهم وسلطاتهم:
فقد تكون الصورة مباشرة من حيث الدعوة إلى ذلك صراحة بغير مواربة، وذلك عندما يأمنون العقوبة في ظل غفلة أهل الخير أو ضعفهم.
أو بصورة غير مباشرة من حيث تزيين الباطل وتحسينه بأنواع من الدعاية الكاذبة والكلام الذي ظاهره فيه الرحمة وباطنه من قِبَله العذاب، والإشادة بكل قول أو عمل يخالف الخير والفضيلة.
أو بوضع القوانين والأنظمة التي تضيِّق العمل بهذه الفريضة وتُوقِع من يحاول القيام بها في الحرج الشديد حتى يصرفه عن القيام بها.
أو إدخال هذه الشعيرة في حزمة من التنظيمات الأخرى بحيث تفقد هُويتها وتميزها فتنماع فيها كما ينماع الملح في الماء.
أو إسناد القيام بها إلى أناس لا تتوفر فيهم الشروط المناسبة لهذه الشعيرة.
أو التضييق في الإنفاق عليها حتى تتقلَّص عملياتها ونشاطاتها، والحد من تزويدها بالأجهزة الحديثة المتوافقة مع التقنية المعاصرة التي تمكِّنها من القدرة على تحقيق أهدافها.
أو إزالة الحواجز والعوائق أمام الانفلات والتفلُّت العقدي والفكري والخلقي، والإشادة بأولئك المتفلتين وتقديمهم لشباب الأمة على أنهم نموذج ينبغي أن يُحتَذى، والوقوع في أهل الخير من الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر في محاولة لتشويههم، وتهييج العامة ومن له سلطان عليهم والإغراء بهم.
أيها المسلمون: لقد أدرك أعداء الأمة من خلال متابعة تاريخها وسيرتها على مرِّ الأزمان وكرِّ الدهور أن مجتمع المسلمين يكون في أمن وأمان وعفو وعافية متى ما كان عَلَم هذه الشعيرة مرفوعاً، وكذلك تكون دولتهم قوية منصورة، فهم ظاهرون على عدوهم مدة استمساكهم بها.
لذلك عمل أعداء الأمة على توهين هذه الشعيرة في قلوب المسلمين عن طريق وسائل الإعلام المتعددة من مقروء ومسموع ومنظور، والتي بلغ تأثيرها بفعل التقدُّم التقني شأواً بعيداً، وراموا من خلال هذه الوسيلة إحداث تغيير جذري في العقائد والأفكار، وعاونهم في ذلك أتباع لهم وأشياع ممن رضوا بالدنية في دينهم مقابل عَرَض زائل حقير، وكان للتدخل في المناهج الدراسية وتغييرها وشحنها بمادة علمية مغلوطة أثر كبير في تغييب هذه الشعيرة عند بعض المسلمين وإضعافها عند بعضهم الآخر.
لقد لَقِيَتْ هذه الشعيرة معارضة كبيرة على مدى التاريخ، فمنذ بدأ الله الخلق وكفر إبليس بربه وهو يقود أتباعه ويؤزُّهم أزّاً للوقوف في وجه كل خير والدعوة إلى كل شر، وذلك أن القيام بهذه الفريضة بالنسبة لهم يؤدي إلى أمرين:
الأول: منع أهل الفساد والضلال من شهواتهم الباطلة، ومنع وصول إفسادهم إلى عباد الله تعالى.
الثاني: الشهادة على أهل الفساد والضلال بفسادهم وضلالهم.
أيها المسلمون: وِلايةُ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الولايات الشرعية التي كان لها وجود حقيقي في النظام السياسي الإسلامي، لكن بمرور الأيام بدأ يضعف هذا الأمر، وزاد هذا الضعف كثيراً بعد وقوع دول المسلمين في قبضة الدول الكافرة زمن الاستعمار، وقد ألغيت هذه الولاية في أكثر البلاد الإسلامية.
إن المحافظة على هذه الفريضة إنما هو لخيري الدنيا والآخرة، ونظرة واحدة يلقيها المرء إلى المجتمعات والدول التي أهملت أمر هذه الشعيرة كفيلة ببيان الدمار والدركات التي انحطت إليها تلك البقاع.
اللهم..
التعليقات