عناصر الخطبة
موانع النكاح: (موانع شرعية.. موانع خَلْقية.. موانع مَرضية).اقتباس
فَمِنَ الْمَوَانِعِ الشَّرْعِيَّةِ لِلنِّكَاحِ: أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ الْمُرَادُ خِطْبَتُهَا وَالزَّوَاجُ بِهَا مُتَزَوِّجَةً؛ فَلَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً مُتَزَوِّجَةً -مُسْلِمًا كَانَ زَوْجُهَا أَمْ كَافِرًا-؛ لِكَوْنِهَا مَشْغُولَةً بِحَقِّ زَوْجٍ آخَرَ، وَلِأَنَّ الزَّوَاجَ بِهَا يُؤَدِّي إِلَى الِاعْتِدَاءِ عَلَى حَقِّ الْغَيْرِ، وَيَكُونُ سَبَبًا لِاخْتِلَاطِ الْأَنْسَابِ...
الْخُطْبَةُ الْأُولَى:
إِنَّ الْحَمْدَ للهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَتُوبُ إِلَيْهِ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71]، أَمَّا بَعْدُ:
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ الْإِسْلَامَ يَدْعُو إِلَى الْحَيَاةِ السَّعِيدَةِ الَّتِي تُبْنَى عَلَى سَلَامَةِ الدِّينِ مِنَ الْعِصْيَانِ، وَالسَّلَامَةِ مِنَ الْمُكَدِّرَاتِ فِي عَيْشِ الْإِنْسَانِ؛ وَالْحَيَاةُ الزَّوْجِيَّةُ شُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِ حَيَاةِ النَّاسِ، فَمَا أَجْمَلَ أَنْ تَكُونَ سَعِيدَةً بِمَا لَا يُغْضِبُ اللهَ -تَعَالَى-، وَبِمَا لَا يَسْلُبُهَا الرَّاحَةَ وَالطُّمَأْنِينَةَ!.
لِهَذَا -مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ-كَانَ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ النِّكَاحِ وَسَعَادَتِهِ: خُلُوُّ الزَّوْجَيْنِ مِنَ الْمَوَانِعِ الَّتِي إِذَا وُجِدَ وَاحِدٌ مِنْهَا فِيهِ كَانَ النِّكَاحُ فَاسِدًا، وَخَالِيًا مِنْ تَحْقِيقِ غَايَاتِهِ الَّتِي جَعَلَهَا الْإِسْلَامُ أَهْدَافًا لِلزَّوَاجِ.
عِبَادَ اللهِ: وَهَذِهِ الْمَوَانِعُ تَنْقَسِمُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ؛ مَوَانِعَ شَرْعِيَّةٍ، وَمَوَانِعَ خَلْقِيَّةٍ، وَمَوَانِعَ مَرَضِيَّةٍ.
فَمِنَ الْمَوَانِعِ الشَّرْعِيَّةِ لِلنِّكَاحِ: أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ الْمُرَادُ خِطْبَتُهَا وَالزَّوَاجُ بِهَا مُتَزَوِّجَةً؛ فَلَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً مُتَزَوِّجَةً -مُسْلِمًا كَانَ زَوْجُهَا أَمْ كَافِرًا-، لِكَوْنِهَا مَشْغُولَةً بِحَقِّ زَوْجٍ آخَرَ، وَلِأَنَّ الزَّوَاجَ بِهَا يُؤَدِّي إِلَى الِاعْتِدَاءِ عَلَى حَقِّ الْغَيْرِ، وَيَكُونُ سَبَبًا لِاخْتِلَاطِ الْأَنْسَابِ.
قَالَ اللهُ -تَعَالَى- وَهُو يُعَدِّدُ الْمُحَرَّمَاتِ مِنَ النِّسَاءِ-: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ)[النساء:24]. "وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَا يَحِلُّ نِكَاحُ الْمَرْأَةِ إِذَا كَانَتْ فِي عِصْمَةِ الرَّجُلِ"(تفسير ابن جزي).
إِلَّا مِلْكُ الْيَمِينِ مِنْ نِسَاءِ الْكُفَّارِ؛ فَيَجُوزُ لِلرَّجُلِ إِتْيَانَهَا بَعْدَ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا بِحَيْضَةٍ إِنْ كَانَتْ غَيْرَ حَامِلٍ، وَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا حَلَّتْ بِوَضْعِ الْحَمْلِ وَطَهَارَتِهَا مِنَ الدَّمِ؛ فَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ حُنَيْنٍ بَعَثَ جَيْشًا إِلَى أَوْطَاسَ، فَلَقَوْا عَدُوًّا، فَقَاتَلُوهُمْ، فَظَهَرُوا عَلَيْهِمْ، وَأَصَابُوا لَهُمْ سَبَايَا؛ فَكَأَنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَحَرَّجُوا مِنْ غِشْيَانِهِنَّ مِنْ أَجْلِ أَزْوَاجِهِنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَأَنْزَلَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- فِي ذَلِكَ: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ)[النساء:24]. أَيْ: فَهُنَّ لَكُمْ حَلَالٌ إِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهُنَّ"(رواه مسلم).
وَمِنَ الْمَوَانِعِ الشَّرْعِيَّةِ لِلنِّكَاحِ: أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ مُعْتَدَّةً؛ فَإِذَا كَانَتِ الْمَرْأَةُ فِي أَثْنَاءِ عِدَّتِهَا، فَلَا يَحِلُّ لِغَيْرِ زَوْجِهَا التَّزَوُّجُ بِهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا؛ حِفَاظًا عَلَى حَقِّ الزَّوْجِ الْأَوَّلِ. قَالَ -تَعَالَى-: (وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ)[البقرة:235]. وَقَالَ: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ)[البقرة:228].
وَمِنَ الْمَوَانِعِ الشَّرْعِيَّةِ لِلنِّكَاحِ: أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ مُطَلَّقَةً طَلَاقًا بَائِنًا بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ طَلَّقَهَا، فَبَقَاؤُهَا دُونَ زَوْجٍ بَعْدَهُ مَانِعٌ لَهُ مِنْ تَزَوُّجِهَا، قَالَ -تَعَالَى-: (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ)[البقرة:230].
وَمِنَ الْمَوَانِعِ الشَّرْعِيَّةِ لِلنِّكَاحِ: أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ الْمُرَادُ الزَّوَاجُ بِهَا قَدْ وَقَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَنْ يُرِيدُ نِكَاحَهَا لِعَان؛ٌ فَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي حَدِيثِ الْمُتَلَاعِنَيْنِ قَالَ: "فَمَضَتِ السُّنَّةُ بَعْدُ فِي الْمُتَلَاعِنَيْنِ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا"(رواه أبو داود).
وَمِنَ الْمَوَانِعِ -أَيْضًا-: أَلَّا تَكُونَ الْمَرْأَةُ الرَّابِعَةُ الَّتِي طَلَّقَهَا قَدِ انْتَهَتْ عِدَّتُهَا وَأَرَادَ زَوْجَةً غَيْرَهَا؛ لِأَنَّهُ بِهَذَا قَدْ جَمَعَ خَمْسَ زَوْجَاتٍ، وَهَذَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ فِي شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ.
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ أَقْسَامِ مَوَانِعِ النِّكَاحِ فَهُوَ: الْمَوَانِعُ الْخَلْقِيَّةُ، وَهَذِهِ الْمَوَانِعُ تَمْنَعُ الِاسْتِمْتَاعَ الْمَشْرُوعَ لِلزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ؛ فَهُنَاكَ مَانِعَانِ فِي الزَّوْجِ، وَهُنَاكَ مَانِعَانِ فِي الزَّوْجَةِ؛ أَمَّا الْمَانِعَانِ فِي الزَّوْجِ فَهُمَا: الجَبُّ، وَالْعُنَّةُ؛ فَالرَّجُلُ الْمَجْبُوبُ هُوَ: الَّذِي اسْتُؤْصِلَ ذَكَرُهُ، وَأَمَّا الْعِنِّينُ فَهُوَ الرَّجُلُ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى الْجِمَاعِ مَعَ وُجُودِ عُضْوِ التَّنَاسُلِ؛ لِضَعْفٍ أَوْ كِبَرِ سِنٍّ أَوْ مَرَضٍ.
فَالْمَجْبُوبُ قَدْ فَقَدَ آلَةَ الْمُعَاشَرَةَ، وَأَمَّا الْعِنِّينُ فَلَا يَقْدِرُ عَلَى إِتْيَانِ النِّسَاءِ مَعَ وُجُودِ الْآلَةِ؛ فَمَنْ كَانَ مِنَ الرِّجَالِ يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ أَحَدَ هَذَيْنِ الْعَيْبَيْنِ فَلَا يَتَزَوَّجُ؛ لِأَنَّ الِاسْتِمْتَاعَ وَالتَّنَاسُلَ حَقٌّ لِلْمَرْأَةِ كَمَا هُوَ حَقٌّ لِلرَّجُلِ.
وَأَمَّا إِذَا تَزَوَّجَ فَظَهَرَ أَنَّهُ عِنِّينٌ؛ فَإِنِ اسْتَطَاعَ الِاسْتِشْفَاءَ وَشُفِيَ مِنْ عُنَّتِهِ، وَعَادَ إِلَى حَالِهِ الطَّبِيعِيَّةِ؛ اسْتَمَرَّتْ حَيَاتُهُ الزَّوْجِيَّةُ، وَإِلَّا فَلِزَوْجَتِهِ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ هَذَا النِّكَاحِ، فَإِنْ رَضِيَتْ لِنَفْسِهَا هَذَا الْوَضْعَ بَقِيَ النِّكَاحُ، قَالَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لِرَجُلٍ مُتَزَوِّجٍ وَهُوَ خَصِيٌّ:" أَعْلَمْتَهَا؟ قَالَ: لَا، قَالَ: أَعْلِمْهَا، ثُمَّ خَيِّرْهَا".
وَهَكَذَا الْحَالُ -مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ- فِي كُلِّ أَمْرٍ يَحُولُ دُونَ الْمُعَاشَرَةِ الزَّوْجِيَّةِ أَوْ يُنَفِّرُ مِنْ ذَلِكَ؛ فَمِنَ الْأَمَانَةِ: إِعْلَامُ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ قَبْلَ الزَّوَاجِ، فَقَدْ بَعَثَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- رَجُلاً عَلَى بَعْضِ السِّعَايَةِ، فَتَزَوَّجَ امْرَأَةً وَكَانَ عَقِيمًا، فَقَالَ: أَعْلَمْتَهَا أَنَّكَ عَقِيمٌ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَأَعْلِمْهَا، ثُمَّ خَيِّرْهَا"(رواه سعيد بن منصور في سننه).
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: وَأَمَّا الْمَانِعَانِ فِي الْمَرْأَةِ اللَّذَانِ يَمْنَعَانِ الِاسْتِمْتَاعَ الزَّوْجِيَّ فَهُمَا: الرَّتَقُ وَالْقَرَنُ.
فَأَمَّا الرَّتَقُ فَهُوَ: انْسِدَادُ فَرْجِ الْمَرْأَةِ بِلَحْمٍ، بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ مَعَهُ الْوَطْءُ، وَرُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ لِضِيقٍ فِي عَظْمِ الْحَوْضِ، أَوْ لِكَثْرَةِ اللَّحْمِ فِيهِ.
وَأَمَّا الْقَرَنُ فَهُوَ: انْسِدَادُ فَرْجِ الْمَرْأَةِ بِعَظْمٍ؛ فَإِنْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ تَعْلَمُ أَنَّ بِهَا أَحَدَ هَذَيْنِ الْمَانِعَيْنِ فَعَلَيْهَا إِعْلَامُ مَنْ خَطَبَهَا؛ حَتَّى لَا يَكُونَ هُنَاكَ غِشٌّ، وَلِلزَّوْجِ بَعْدَ ذَلِكَ الْخِيَارُ فِي الْمُوَافَقَةِ أَوِ الرَّفْضِ.
وَإِذَا كَانَ مِنَ الدِّيَانَةِ -مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ- بَيَانُ عَيْبِ السِّلْعَةِ قَبْلَ بَيْعِهَا؛ فَإِنَّ هَذَا مِنْ بَابٍ أَوْلَى؛ فَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، وَلَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ بَاعَ مِنْ أَخِيهِ بَيْعًا فِيهِ عَيْبٌ إِلَّا بَيَّنَهُ لَهُ"(رواه أحمد وابن ماجه).
عِبَادَ اللهِ: إِنَّ الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَوَانِعِ الْخَلْقِيَّةِ أَمْرٌ مُهِمٌّ لَا يَدْعُو إِلَى الْحَيَاءِ وَالْخَجَلِ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ أَنْ يَتَعَلَّمَ الْمُسْلِمُ شُؤُونَ دِينِهِ، وَيَعْرِفَ أَحْكَامَ حَيَاتِهِ الزَّوْجِيَّةِ، وَكَيْفِيَّةَ عِلَاجِ الْمُشْكِلَاتِ فِيهَا، وَقَدْ جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَنَّهَا قَالَتْ: جَاءَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ امْرَأَةُ أَبِي طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ اللهَ لَا يَسْتَحِيِي مِنَ الْحَقِّ: هَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ غُسْلٍ إِذَا هِيَ احْتَلَمَتْ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "نَعَمْ، إِذَا رَأَتِ الْمَاءَ".
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ -رَحِمَهُ اللهُ- عِنْدَ هَذَا الْحَدِيثِ: "وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مَا كَانَ عَلَيْهِ نِسَاءُ ذَلِكَ الزَّمَانِ مِنَ الِاهْتِمَامِ بِأَمْرِ دِينِهِنَّ وَالسُّؤَالِ عَنْهُ".
وَقَالَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: "رَحِمَ اللهُ نِسَاءَ الْأَنْصَارِ، لَمْ يَمْنَعْهُنَّ الْحَيَاءُ أَنْ يَسْأَلْنَ عَنْ أَمْرِ دِينِهِنَّ".
نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُفَقِّهَنَا فِي دِينِنَا، وَيُنَوِّرَ بِنُورِهِ بَصَائِرَنَا.
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ، فَاسْتَغْفِرُوهُ؛ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، أَمَّا بَعْدُ:
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ مِنْ أَقْسَامِ مَوَانِعِ النِّكَاحِ، فَهُوَ الْمَوَانِعُ الْمَرَضِيَّةُ، وَهِيَ مَوَانِعُ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَهِيَ: الْجُنُونُ، وَالْبَرَصُ، وَالْجُذَامُ.
فَأَمَّا الْجُنُونُ فَهُوَ: "اخْتِلَالُ الْعَقْلِ، بِحَيْثُ يَمْنَعُ جَرَيَانَ الْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ عَلَى نَهْجِهِ إِلَّا نَادِرًا".
وَأَمَّا الْبَرَصُ فَهُوَ: دَاءٌ بِلَوْنِ الْبَيَاضِ يَقَعُ فِي ظَاهِرِ الْجِلْدِ، يُبَقِّعُ الْجِلْدَ وَيَذْهَبُ دَمَوِيَّتَهُ.
وَأَمَّا الْجُذَامُ فَهُوَ: "عِلَّةٌ يَحْمَرُّ مِنْهَا الْعُضْوُ، ثُمَّ يَسْوَدُّ، ثُمَّ يَنْتَنُ وَيَتَقَطَّعُ وَيَتَنَاثَرُ، وَيُتَصَوَّرُ فِي كُلِّ عُضْوٍ، غَيْرَ أَنَّهُ يَكُونُ فِي الْوَجْهِ أَغْلَبَ".
فَهَذِهِ الْأَمْرَاضُ –يَا عِبَادَ اللهِ- مُنَفِّرَةٌ عَنِ الْأُنْسِ وَالرَّاحَةِ فِي بَيْتِ الْحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ؛ فَلِذَلِكَ وَجَبَ بَيَانُهَا قَبْلَ عَقْدِ الزَّوَاجِ؛ حَتَّى لَا يَحْصُلَ غَرَرٌ؛ فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَظْهَرْ وَاحِدٌ مِنْ هَذِهِ الْعُيُوبِ فِي أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ إِلَّا بَعْدَ عَقْدِ الزَّوَاجِ، فَلِلْآخَرِ الْخِيَارُ فِي الْبَقَاءِ أَوْ فَسْخِ النِّكَاحِ.
وَقَدْ نَقَلَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ عَلَى خِيَارِ الْفَسْخِ بِهَذِهِ الْعُيُوبِ.
وَجَاءَ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَالَ: "أَيُّمَا امْرَأَةٍ غُرَّ بِهَا رَجُلٌ بِهِ جُنُونٌ أَوْ جُذَامٌ أَوْ بَرَصٌ، فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا أَصَابَ مِنْهَا، وَصَدَاقُ الرَّجُلِ عَلَى مَنْ غَرَّهُ"(مصنف عبد الرزاق).
وَفِي قَوْلِ النَّبِيِّ –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "فِرَّ مِنَ الْمَجْذُومِ فِرَارَكَ مِنَ الْأَسَدِ" "إِثْبَاتُ الضَّرَرِ بِالْجُذَامِ وَنَحْوِهِ، وَهَذَا مِمَّا يَمْنَعُ حُصُولَ حَقِّ الِاسْتِمْتَاعِ، وَاللهُ أَعْلَمُ".
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: "وَالْقِيَاسُ: أَنَّ كُلَّ عَيْبٍ يُنَفِّرُ الزَّوْجَ الْآخَرَ مِنْهُ، وَلَا يَحْصُلُ بِهِ مَقْصُودُ النِّكَاحِ مِنَ الرَّحْمَةِ وَالْمَوَدَّةِ؛ يُوجِبُ الْخِيَارَ وَهُوَ أَوْلَى مِنَ الْبَيْعِ، كَمَا أَنَّ الشُّرُوطَ الْمُشْتَرَطَةَ فِي النِّكَاحِ أَوْلَى بِالْوَفَاءِ مِنْ شُرُوطِ الْبَيْعِ، وَمَا أَلْزَمَ اللهُ وَرَسُولُهُ مَغْرُورًا قَطُّ وَلَا مَغْبُونًا بِمَا غُرَّ بِهِ وَغُبِنَ بِهِ، وَمَنْ تَدَبَّرَ مَقَاصِدَ الشَّرْعِ فِي مَصَادِرِهِ وَمَوَارِدِهِ وَعَدْلِهِ وَحِكْمَتِهِ وَمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنَ الْمَصَالِحِ لَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ رُجْحَانُ هَذَا الْقَوْلِ وَقُرْبُهُ مِنْ قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ".
فَيَا أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: هَذِهِ هِيَ مَوَانِعُ النِّكَاحِ قَدْ بَيَّنْتُ لَكُمْ أَحْكَامَهَا؛ فَمِنْهَا مَا يَمْنَعُ إِجْرَاءَ عَقْدِ الزَّوَاجِ لِحُرْمَتِهِ، وَمِنْهَا مَا يَمْنَعُ تَمَامَ النِّكَاحِ لِإِخْلَالِهِ بِغَايَةٍ مِنْ غَايَاتِهِ وَهُوَ الِاسْتِمْتَاعُ الْمَشْرُوعُ، وَمِنْهَا مَا يَمْنَعُ السَّعَادَةَ الزَّوْجِيَّةَ لِتَنْفِيرِهِ.
وَاعْلَمُوا -رَحِمَكُمُ اللهُ- أَنَّ هَذِهِ الْمَوَانِعَ لَيْسَتْ حَصْرِيَّةً، فَهُنَاكَ غَيْرُهَا، بَلْ فِي عَصْرِنَا طَرَأَتْ أُمُورٌ أُخْرَى يَجِبُ تَبْيِينُهَا قَبْلَ الزَّوَاجِ مِنْ كِلَا الزَّوْجَيْنِ، وَإِذَا عُرِفَتْ بَعْدَ الزَّوَاجِ فَهُنَاكَ خِيَارُ فَسْخِ النِّكَاحِ، وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ: مَرَضُ الْإِيدْزِ، عَافَانَا اللهُ وَإِيَّاكُمْ.
فَنَسْأَلُ اللهَ –تَعَالَى- لَنَا وَلَكُمُ السَّلَامَةَ وَالْعَافِيَةَ.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْمَبْعُوثِ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ: (إِنَّ اللَّه وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِي يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)[الأحزاب:٥٦].
التعليقات