عناصر الخطبة
1/قدوم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة 2/فضائل عبد الله بن سلام 3/شرح حديث عبد الله بن سلام 4/أهمية إفشاء السلام 5/فضل إطعام الطعام 6/وجوب صلة الأرحام 7/قيام الليل من أجل الأعمال 8/من أسباب دخول الجنة بسلام.اقتباس
ورتَّب لهذه الأعمالِ الصالحةِ في هذا الحديث: "تدخلوا الجنة بسلام"؛ أي من كل مكروه أو تعب ومشقة، فإنكم إذا فعلتم ذلك ومُتم عليه، دخلتم الجنة آمنين لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون، أو أنه بلا عقاب ولا عذاب؛ لأن من عُذّب لم يسلم.
الخطبة الأولى:
كان مَقْدمُ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- المدينة يومًا مشهودًا، فقد كان الأنصار -رضي الله عنهم- يَخْرجون كلَّ يوم إلى الحرّة ينتظرونه أول النهار، فإذا اشتد الحر رجعوا إلى منازلهم، فلما وَصَل -صلى الله عليه وسلم- انجفل الناس إليه -أي: ذهبوا مسرعين إليه واجتمعوا به-.
وكان عبد الله بن سَلاَم -رضي الله عنه- فيمن جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهو عالمٌ بالتوراة، وقد قرأ فيها صفة النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلما كان راسخًا في العلم اتصل علم قراءته بعلم المعرفة.
قال: "فكنت فيمن جاءه، فلما تأملت وجهه واستبنته، عرفت أنْ وجهه ليس بوجه كذاب، قال فكان أول ما سمعت من كلامه أَنْ قال: "أيها الناس! أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام"(رواه الترمذي وابن ماجه).
راوي هذا الحديثِ عبدُ الله بنُ سلامٍ -رضي الله عنه-: هو حَبْر من أحْبار اليهود، وعَلَمٌ من أعلامهم فأسلَم، وبشَّره النبي -صلى الله عليه وسلم- بالجنة، كما في صحيح مسلم عن عامر بن سعد قال: سمعت أبي يقول: "ما سمعت رسولَ الله يقول لحَيٍّ يمشي إنه في الجنة إلا لعبد الله بن سلام".
قال: لما رأيت وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وتأملت وجهه، واستبنته، عرفت أنه ليس بوجه كذاب، فآمن به فورًا؛ لأن الظاهرَ عنوانٌ للباطن، قال السندي -رحمه الله-: "لِما لاحَ عليه من سواطع أنوار النبوة، وإذا كان أهل الصلاح والصلاة في الليل يُعْرَفون بوجوههم، فكيف هو وهو سيدهم صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه".
وفي قوله: "عرفتُ أنه ليس بوجه كذاب" وذلك أن اليهود يصفون الأنبياء -عليهم السلام- دائمًا بالكذب، قال -سبحانه- عنهم: (أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ)[البَقَرَة: 87].
ابتدأ النبي -صلى الله عليه وسلم- حديثه بالنداء بقوله: "يا أيها الناس" ليَدُلَّ المستمعَ على أهميةِ هذا الخطاب، ولأن النداء يوجب تنبُّه المخاطب لما يُلْقَى عليه، فذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث أعمالاً فاضلة من محاسن الإسلام -قولية وفعلية، ومالية- وهي صالحة لعموم الناس، وخاصتِهم من ذوي القربى.
أولاها: إفشاء السلام وهو: نَشْره وإشاعته لكلّ مسلم ليُحْيوا سنته -عليه السلام-، دون أن يُخَصَّصَ للمعارف والأصحاب، قال ابن حجر: "إِفشاء السلام حصول المحبة بين الْمُتَسَالِمَيْنِ"، وهو داخل في لين الكلام، كما قال ابن رجب -رحمه الله-، وقد قال الله -عز وجل-: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا)[البَقَرَة: 83]، وفيه تواضع للناس، وعدمُ تصعير الخد لهم.
وهو سببٌ موصل لدخول الجنة قال -صلى الله عليه وسلم-: "والذي نفسي بيده! لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنون حتى تحابوا، ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم"(رواه مسلم).
فإفشاء السلام من أسباب المحبة في الله، وقوةِ الإيمان، وقد سُئل -صلى الله عليه وسلم-: أي الإسلام أفضل؟ قال: "أن تطعم الطعام، وتَقْرئَ السلام على من عرفت ومن لم تَعْرف"(متفق عليه).
وقد كان من هديه -صلى الله عليه وسلم- إفشاء السلام للكبار والصبيان، وأرشد إلى أنه "يُسلّم الصغير على الكبير، والمار على القاعد، والقليل على الكثير"(متفق عليه)، وعلى المُسَلَّم عليه أن يرد السلام؛ لقول الله -تعالى-: (وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا)[النِّسَاء: 86].
وهو من حق المسلم على المسلم، كما في الحديث: "حق المسلم على المسلم خمس: رد السلام، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس"(متفق عليه).
ولا يبتدئ السلامَ على غيرِ المُسْلِم، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا تبدؤوا اليهود والنصارى بالسلام"(رواه الترمذي).
الخصلة الثانية من هذا الحديث المبارك: إطعام الطعام لمن هو محتاج إليه من المساكين والأيتام، قال العيني -رحمه الله-: "إطعام الطعام غير مختص بأحد، سواءٌ كان المُطَعمُ مسلمًا، أو كافرًا، أو حيوانًا"، كما ورد في الحديث: "في كل ذات كبد رطبة أجر"(متفق عليه).
وقد جعل الله إطعامَ الطعامِ من الأسباب الموجبة للجنة ونعيمها، قال -عز وجل-: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُورًا)[الإنسَان: 8-9]، إلى قوله: (وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا)[الإنسَان: 21]، فوصف فاكهتهم وشرابهم جزاءً لإطعامهم الطعام، وفي الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "اتقوا النار ولو بشق تمرة"(متفق عليه).
قال ابن القيم -رحمه الله-: "إذا كان الله قد غفر لمن سقى كلبًا على شدة الظمأ، فكيف بمن سقى العِطاش، وأشبع الجِياع، وكسا العراة من المسلمين؟".
وإطعام الطعام من خصال الإسلام الخَيِّرةِ التي أتى بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقد جاءه رجلٌ فقال: "يا رسول الله! أي الإسلام خير؟"، قال: "تطعم الطعام، وتُقرئُ السلام على من عرفت ومن لم تعرف"(متفق عليه).
وفي حديث صُهيب -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "خيركم من أطعم الطعام، أو الذين يطعمون الطعام"(رواه أحمد)، لما يمتاز به المُطعِم من بذلٍ ومحبةٍ لإخوانه، ويتأكد إطعام الطعام للجائع وللجيران خصوصًا.
فعن أبي ذر -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له: "يا أبا ذر! إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها، وتعهد جيرانك"(رواه مسلم)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ليس المؤمن الذي يَشْبع وجاره جائع"(رواه الطبراني).
وأفضل أنواع إطعام الطعام: الإيثار مع الحاجة، كما وصف الله -تعالى- بذلك الأنصار -رضي الله عنهم- فقال: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ)[الحَشر: 9].
وكان ابن عمر -رضي الله عنهما- لا يُفْطِر إلا مع اليتامى والمساكين، ومنهم مَن يُطْعِم إخوانه الطعام ويخدمهم وهو صائم، منهم الحسنُ البصريُّ وابنُ المبارك، ومنهم مَن يُفضّل إطعام الإخوان على الصدقة على المساكين، ولا سيما إن كان الإخوان لا يجدون مثل ذلك الطعام.
وفقنا الله لفعل الخيرات، وأداء القربات.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الخصلة الثالثة من خصال هذا الحديث المبارك: صلة الأرحام، فقد أمر بها في أكثرَ من آية من كتابه الكريم، وهي ثالث الحقوق العشرة كما في قوله -تعالى-: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا)[النِّسَاء: 36].
قال البغوي: أي: "أحسنُوا بذي القربى"، وهو صاحب القرابة ومن يصح إطلاق اسم القربى عليه، وإن كان بعيدًا، بل أمَرَ الله الموسرين بتفقد المُعْوِزِين من قراباتهم، وإعطاءِ ما تدعو إليه حاجتُهم، وإعفافِهم، كما أمر الله به في قوله -سبحانه-: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[النّحل: 90].
وقد رغَّب النبي -صلى الله عليه وسلم- بالبذل والعطاء لهم فقال: "الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم اثنتان: صدقة وصلة"(رواه ابن ماجه)، وهي من خصال الخير التي دعا إليها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، كما في قصة هرقل حين قال لأبي سفيان: "فماذا يأمركم به؟- يعني النبي -صلى الله عليه وسلم- قال قلت: يقول: "اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئًا، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة، والصدق، والعفاف، والصلة"(متفق عليه).
وصح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن "صلة الرحم تزيد في العمر، وصدقة السر تطفئ غضب الرب"(رواه الطبراني) وقال: "مَن أحب أن يُبسط له في رزقه، ويُنسأ له في أثره فليصل رحمه"(متفق عليه).
ومعنى "يُنسأ له في أثره": أي يؤخر له في أجله وعمره، وهذه كناية عن البركة في العمر، وقيل: إن الزيادة على حقيقتها بالنسبة إلى علم المَلَكِ المُوكّلِ بالعمر -كما قاله ابن حجر، رحمه الله-.
ومما يدل على أهمية صلة الرحم، وعدمِ قطعها، ما قاله رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الرحم معلقة بالعرش تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله"(رواه مسلم)، وفي حديث جبير بن مطعم -رضي الله عنه- أنه سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لا يدخل الجنة قاطع"(متفق عليه).
ومن خصال هذا الحديث الصلاة بالليل: وقد وصف الله عباده أهل الإيمان بأنهم (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ)[السَّجدَة: 16]، وكان جزاؤهم (فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ)[السَّجدَة: 17].
وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقوم الليل حتى تتفطر قدماه، ورغَّب في صلاة الليل فقال: "أفضل الصلاة بعد الفريضة"(أخرجه مسلم)، وفي حديث جابر قال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن في الليل لساعة، لا يوافقها رجل مسلم يسأل الله خيرًا من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه، وذلك كلُّ ليلة"(رواه مسلم).
وطَرَق -صلى الله عليه وسلم- عليًا وفاطمة ليلاً فقال: "ألا تصليان"(متفق عليه)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- لعبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-: "نعم الرجل عبدالله لو كان يصلي من الليل"، قال سالم: فكان عبد الله بعد ذلك لا ينام من الليل إلا قليلاً(متفق عليه).
وفي صلاة الليل فَضْلٌ عظيم، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا أيقظ الرجل أهله من الليل فصليا، أو صلى ركعتين جميعًا، كُتِبَا في الذاكرين والذاكرات"(رواه أبو داود).
وكان -عليه السلام- يصلي إحدى عشرة ركعة يسلم من كل اثنتين، ويوتر بواحدة، وربما أوتر بتسع وبسبع أو خمس، ولكنَّ الأغلبَ أنه يصلي إحدى عشرة، وربما صلى ثلاث عشرة يطيل في قراءته وركوعه وسجوده.
وخص الصلاة بالليل "والناس نيام"؛ لأنه وقت الغفلة ولبعده عن الرياء والسمعة.
ورتَّب لهذه الأعمالِ الصالحةِ في هذا الحديث: "تدخلوا الجنة بسلام"؛ أي من كل مكروه أو تعب ومشقة، فإنكم إذا فعلتم ذلك ومُتم عليه، دخلتم الجنة آمنين لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون، أو أنه بلا عقاب ولا عذاب؛ لأن من عُذّب لم يسلم.
وقد وردت رواية أخرى تدل على فضل هذه الأعمال الأربعة، ففي الترمذي، عن علي -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن في الجنة غرفًا يُرى ظاهرُها من باطنها، وباطنها من ظاهرها"، قالوا: لمن هي يا رسول الله؟ قال: "لمن أطعم الطعام، وأطاب الكلام، وصلى بالليل والناس نيام".
وعند الحاكم من حديث أبي شريح -رضي الله عنه- أنه قال: يا رسول الله! أخبرني بشيء يوجب لي الجنة قال: "طيب الكلام، وبذل السلام، وإطعام الطعام"، فهذه الأمور الأربعة في هذا الحديث، من أسباب دخول الجنة بسلام.
نسأل الله -تعالى- أن يوفقنا وإياكم لأداء هذه الأعمال الصالحة، وأن يجعلنا ممن يدخلون الجنة بسلام، إنه على كل شيء قدير.
عباد الله: وصلوا وسلموا على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
التعليقات