عناصر الخطبة
1/ مساواة الإسلام بين الرجل والمرأة في الإنسانية ومعظم التكاليف وجزاء الآخرة 2/ شبهة وجوب المساواة المطلقة بين الجنسين والرد عليها 3/ شبهة الميراث والرد عليها 4/ مسألة الدعوة للاختلاط وحججها والرد عليها 5/ المطالبة بتوظيف النساء في أمكنة بيع المستلزمات النسائية!اهداف الخطبة
اقتباس
مادام أنَّه تعالى قد شرع ذلك فينبغي على العبد المسلم أن يستسلم لشرعه، ولا يعترض عليه، قال تعالى: (وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيما)، فما دام الله قد خلقنا فلا اعتراض عليه، قال تعالى: (لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُون)، (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْر)، فما دام الشرع من عنده تعالى فينبغي على عبيده الاستسلام والخضوع لأمره ..
أيها المسلمون: إكمالاً لخطبة الجمعة الماضية، ومواجهةً لهذه الهجمة المعلنة اليوم على المرأة وقضاياها في مجتمعاتنا من قِبَل تيار العلمنة ورموزها، فإننا سنتحدث في هذه الجمعة -بعد حول الله وقوته- عن الشُّبَه التي كثيراً ما تُثار في الصحف والمجلات ووسائل الإعلام الأخرى عن المرأة، وما يتعلق بها من قضايا وأمور.
يُطالب العلمانيون أولا بالمساواة بين الرجل والمرأة، وجوابنا لهم هو أنَّ المرأة مساويةٌ للرجل في الإنسانية، وفي أغلب تكاليف الإسلام، وفي جزاء الآخرة، قال تعالى: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْض) [آل عمران:195]، وكذا في الموالاة والتناصر، ولذا قال النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم-: "النساء شقائق الرجال" أخرجه أحمد وأبو داود.
ولكن الإسلام، مع ذلك، نظر في طبيعة المرأة، ومدى تحملها لبعض العبادات وصعوبتها، كالجهاد في سبيل الله، أو لعدم ملاءمتها للمرأة، كملابس الإحرام، فأسقطها عنها، ومن ذلك عدم جواز تولية المرأة للمناصب العامة كالخلافة والقضاء، لذا يقول رسول الهدى -صلَّى الله عليه وسلَّم-: "لا يفلح قوم ولَّوا أمرهم امرأة".
وأمَّا ما يورده بعضهم من أنَّ الإسلام ظلم المرأة في إعطاء الذكر من الميراث ضعف ما أعطاها، فيقال لهؤلاء إنه مادام أنَّه تعالى قد شرع ذلك فينبغي على العبد المسلم أن يستسلم لشرعه، ولا يعترض عليه، قال تعالى: (وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيما) [النساء:65]، فما دام الله قد خلقنا فلا اعتراض عليه، قال تعالى: (لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُون) [الأنبياء:23]، (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْر) [الأعراف:54]، فما دام الشرع من عنده تعالى فينبغي على عبيده الاستسلام والخضوع لأمره.
ويقال لهم كذلك إنَّ الشريعة الإسلاميةلم تعط المرأة أقل من الرجل في جميع المورايث، فإنَّه في العصَبات قد تستحقُّ المرأة نصف الميراث أو أكثر، فليست المواريث مطَّردة في إعطاء المرأة أقلَّ من الرجل.
إنَّ الشريعة فرضت للذكر مثل حظِّ الأنثيين، لأن الرجل هو القوَّام على المرأة، والمتولي شؤونها فيما تحتاجه، فالقضية ليست للتفضيل الذي لا يستند إلى حكمة من ورائه بقدر ما هي للفرق بين المسؤوليات.
إنَّ المرأة خُلقَت من نفس واحدة، إذ كان وجودها الأول مستنداً لوجود آدم -عليه الصلاة والسلام-، وقد بيَّن الله تعالى ذلك فقال: (خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا) [الزمر:6]، وهذا أمر كوني قدَري من الله، أنشأ المرأة في إيجادها الأول عليه، وجاء الشرع الكريم بمراعاة هذا الأمر الكوني القدري في حياة المرأة في جميع النواحي، فجعل الرجل قوَّاماً عليها، وجعلها مستندة إليه في جميع شؤونها، كما قال تعالى: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء) [النساء:34].
فمحاولة مساواة المرأة مع الرجل في جميع نواحي الحياة غير متحققة، لأنَّ الفوارق بين النوعين كوناً وقدَراً أولاً، وشرعاً منـزلاً ثانيا ً، تمنع من ذلك منعاً باتاً، ولهذا يقول تعالى في محكم التنـزيل: (وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَة) [البقرة:228]، يعني في الحقوق الزوجية، لوضوح الفوارق الكونية والقدَرية والشرعية بين الذكر والأنثى.
وصحَّ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنَّه لعن المتشبه من النوعين بالآخر، ولا شك أنَّ سبب هذا اللعن هو أن محاولة من أراد التشبه منهم بالآخر هي محاولة لتحطيم الفوارق الفطرية والشرعية التي لا يمكن أن تتحطَّم.
ولقد نص القرآن على أن شهادة امرأتين هي بمنـزلة شهادة رجل واحد، وذلك في قوله تعالى: (فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَان) [البقرة:282]، فلا شك أن الله الذي خلقهما أعلم بحقيقتيهما، وقد صرح في كتابه بقيام الرجل مقام امرأتين في الشهادة، وقد بيَّن سبحانه العلة فقال: (أنْ تَضِلَّ إحداهما فتُذَكِّرَ إحداهما الأُخْرَى) [البقرة:282]؛ قال الله تعالى: (وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ، لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ، وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ، وَاسْأَلُواْ اللّهَ مِن فَضْلِه) [النساء:32].
ويثير العلمانيون ثانيا قضية الاختلاط، ويثيرون حول ذلك بعض الشُّبَه، كقولهم بأن المرأة زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- كانت تخرج للجهاد في سبيل الله، وهذا لا يمكن أن يكون إلا بالاختلاط، وأيضاً كانت تطوف مع الرجال في الحج والعمرة.
نقول: إن الله تعالى قال: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى) [الأحزاب:33]، قال مجاهد في تَفْسيرِهِ للآية: (كان النساءُ - أي في الجاهِليّة - يَتَمَشَّيْنَ بين الرجال -أي يخْتَلِطْنَ بِهم- فذلك التبرج! وِحفاظاً على المرأةِ مِن الاخْتلاطِ بالرِّجال، لم يُوجِبِ اللهُ عليها صلاةَ الجَماعةِ في المَسجد، وخَصَّ الرِّجالَ بها فقط، بل جَعلَ صلاتَها في بيْتِها خيراً مِن خروجِها للصَّلاةِ في المَسْجَد، قال تعالى: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِلْغُدُوِّ وَلآصَالِ رِجَالٌ) [النور:36]، ولم يَقُلْ رِجالٌ ونِساء، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "صَلاَةُ الْمَرْأَةِ فِي بَيْتِهَا خَيْرٌ مِنْ صَلاَتِهَا فِي حُجْرَتِهَا، وَصَلاَتُهَا فِي حُجْرَتِهَا خَيْرٌ مِنْ صَلاَتِهَا فِي دَارِهَا، وَصَلاَتُهَا فِي دَارِهَا خَيْرٌ مِنْ صَلاَتِهَا فِي مَسْجِدِ قَوْمِهَا" رواه الطَّبرانيُّ وهو صحيح. كلُّ ذلكَ مِن أجْلِ سدِّ بابِ الفِتْنة، والحِفاظِ على المرأةِ مِن التّبذُّلِ والاخْتِلاطِ بالرِّجال.
والمرأةُ إذا خَرَجَتِ إلى المَسجِدِ، فإنّما يجوزُ خُروجُها بِالشّرْطِ المَنصوصِ عليْهِ في حديثِ النّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- وهو عدمُ التّزيُّنِ والتّطيُّبِ، في قَوْلِه -عليهِ الصلاةُ والسّلام-: "ولْيَخْرُجْنَ تَفِلات"، هذا هو الشّرط، وإلاّ انْقَلَبَ الجوازُ إلى التّحريم!.
ولِضَمانِ عدَمِ الاخْتِلاط، جَعَلَ النّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- باباً خاصّاً للنِّساءِ يَدْخُلْنَ مِنه إلى المَسْجِد، ففي سُننِ أبي داود بإسنادٍ صحيحٍ قال -صلى الله عليه وسلم- لأحَدِ الصَّحابةِ: "لو تركنا هذا البابَ لِلنِّساء" اهـ.
وأما احتجاج العلمانيين بالجهاد بقولهم إن المرأة كانت تخْرُجُ للجِهادِ في عَهْدِ رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- وهذا فيهِ اخْتِلاط! نقول: الحالاتُ النّادرةُ الّتي شاركَتْ فيها المرأةُ في الجَهادِ في أوائلِ الغَزَواتِ كانت لِظروفِ الحرب، وظروفُ الحربِ حالةٌ اسْتِثْنائيَّةٌ غيرُ طبيعيّة، والحالةُ الطّارئةُ الاسْتثْنائيَّةُ لا يُقاسُ عليها في الوَضْعِ الطّبيعي، وما كان خُروجُهُنّ أوَّلَ الأمْرِ أصْلاً إلاّ لِقِلَّةِ عَدَدِ المُسلمين آنَذاك، مِن أجْلِ السِّقايةِ وتضميدِ الجَرْحى لا القِتال، فلمّا كَثُرَ عَددُ المسلمين لم يَعُدْ يخْرُج مِن النِّساءِ أحَدٌ في الغزو.
هذا مع أنّهُنّ كُنّ لمّا خَرَجْنَ في السِّابِقِ خَرَجْنَ مع مَحارِمِهِنّ، بل كان فِعْلُهُنَّ ذلك مُخَصَّصاً لِمَحَارِمِهِنّ في المَقامِ الأوّل، ولم يُكنّ يُباشِرْنَ الجَرْحى الأجانِبَ إلاّ في أضْيَقِ الحدود؛ فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللّهِ يَغْزُو بِأُمِّ سُلَيْمٍ، وَنِسْوَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ مَعَهُ إذَا غَزَا، فَيَسْقِينَ الْمَاءَ، وَيُدَاوِينَ الْجَرْحَى"؛ قال الإمامُ النّووي: "فيه خروجُ النساءِ في الغزوِ، والانتفاعُ بِهِنّ في السَّقْيِ والمداواةِ ونحوِِهِما، قال: وهذه المداواةُ لمحارمِهِنّ وأزواجِهِنّ، وما كان منها لغيرِهِم لا يَكونُ فيهِ مَسُّ بَشرةٍ إلاّ في موضعِ الحاجة".
إذن، لقد كان خُروجُهُنّ في بدايَةِ الأمْر، وبأعدادٍ قليلةٍ لا تتجاوَزُ أصابعَ اليد، وكُنّ يخرُجْنَ مع أزواجِهِنَّ ومَحارِمِهنَّ كما يُسافِرُ اليومَ النّساءُ مع أزْواجِهِنِّ ومَحارِمِهِنّ السَّفَرَ العاديّ، ولا نَكارةَ في ذلك ولا غَرابةَ، ولا حُجَّةَ فيهِ لِدُعاةِ الاختلاطِ والسُّفور، ولكنّها حِيلةُ العاجِز، لا قامَ مِن عَجْزِه، ولا بلَّغَهُ ما يُريد.
وأما عن احتجاج العلمانيين ودُعاةُ السُّفور وأربابُ التَّغريب بالطّواف، وقولهم بأن فيه اختلاطاً وهو عبادة، فلم يُمْنع في غيره؟! فنقول: إنّ الوَاقِعَ ليسَ حُجَّةً على الشَّرْع، فلأجْلِ أنّنا نرى اخْتِلاطاً في الطَّوافِ اليوم، أو نَراهُ في المُستَشْفَيات، أو نَرى مُنكراتٍ ما، هُنا أو هُناك، هذا لا يُؤثِّرُ في الحُكْمِ الشَّرعيّ، ولا يَنْتَقِلُ حُكْمُ شيءٍ ما مِن الحُرْمة إلى الإباحةِ لِمُجَرَّدِ حُصولِ ذلكَ الشَّيءِ في الواقِع، فالوَاقِعُ ليسَ حُجَّةً على الشَّرْع.
فالطَّوافُ في الأصْلِ كان مَفصولاً، فقد ذكَرَ العُلماء أنّ الفَصْلَ بينَ الرِّجالِ والنِّساءِ في الطّوافِ فَصْلان: فصْلٌ مُطْلق، وفَصْلٌ جُزْئيّ؛ والفَصْلُ الجُزئيُّ كان حَاصْلاً في زَمَنِ الرَّسولِ -صلى الله عليه وسلم-، الجميعُ يطوفون، ولكنّ النِّساءَ في حَلَقَةٍ واسِعةٍ خاصَّةٍ بهنّ بعيداً عن الكعبة، في مَنأى عن الاخْتِلاطِ بالرِّجال، والرِّجالُ في حلْقَتِهِم قريباً إلى الكعبة، بالرَّغْمِ مِن طَوافِهِم جميعاً في وقْتٍ واحِد.
فالحاجَةُ إذن لم تَكُنْ داعِيةً إلى التّحذيرِ مِن الاخْتِلاطِ وأمْرِ النّاسِ بالفَصْلِ أوّلَ الأمْرِ، لأنّ النّاسَ كانوا يَحْذَرونَ مِنه أصْلاً، لِحُسْنِ إسلامِهِم، وحِرْصِهِم على عدَمِ الاخْتِلاط، وتَعْظِيمِهِم لِرَبِّ البيْتِ، وتَعظيمِهِم لِحُرُماتِه، هكذا كان واقِعُ حالِهِم، فالنِّساءُ كُنَّ يَطُفْنَ بَعِيداتٍ بِمَعْزِلٍ عن الرِّجال، ولذلك قال النّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- لأمِّ سَلَمةَ في الطّواف: "طُوفِي مِنْ وَرَاءِ النَّاسِ وَأَنْتِ رَاكِبَة"، لِماذا قال مِن وراءِ النّاس؟ أليسَ في هذا تأكيدٌ على عدَمِ الاخْتِلاطِ بالرِّجال حتّى لو كانت راكِبة؟ بلى.
ولذلك نَرى أيضاً أنّه لَمّا اقْتَضى الحالُ التّأكيدَ على الفَصْلِ لِكَثرةِ الفِتَنِ، وتَساهُلِ الرِّجالِ في الْتِزامِهِم بالفَصْلِ والابْتِعادِ عن النِّساءِ في الطَّواف، منَعَ الخليفةُ الرِّاشِدُ عُمَرُ بنُ الخَطّاب -رضي الله عنه- الاخْتِلاطَ فيه، ونهى النّاسَ عن ذلك صَراحةً وعَلَناً لِوجودِ الدَّاعي! فقدَ روَى الفاكِهِيّ مِن طريقِ زائدة، عن إبراهيمَ النَّخعي، قال: "نهى عُمَرُ أنْ يطوفَ الرجالُ مع النساء، قال: فرأى رجلاً معهُنّ فضربه بالدِّرَّة!" هذا هو الفَصْلُ الجُزئيّ.
أمّا الفَصْلُ المُطْلَق، بِمَعْنى أنّ الرِّجالَ يطوفون في وَقْتِ، والنِّساء في وقِتٍ، بِحَيثُ لا يجتَمِعون مُطْلَقاً، فقدَ فصَلَ بعضُ الأمراءِ بين النِّساءِ والرِّجالِ في الطّوافِ مُطْلَقاً، كخالد القَسْري، وإبراهيمَ بنِ هِشام الأَمَويّ، كما صحّ في البُخاري: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ إِذْ مَنَعَ ابْنُ هِشَامٍ النِّسَاءَ الطَّوَافَ مَعَ الرِّجَالِ.
وعلى أيّةِ حال، نحن لا نَدْعو إلى فصْلِ الرِّجالِ عن النِّساءِ في الطَّوافِ فَصْلاً مُطْلقاً! لأنّه ليسَ مِن فِعْلِ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم-، ولا خُلَفائهِ مِن بَعْدِه، فإنّ هَدْيَهُ وهَدْيَ خُلَفائهِ الفَصْلُ الجُزْئيّ، وإنّما القَصْدُ، أنّ واقِعَ الحالِ اليومَ، والّذي شاعَ فيهِ التّساهُلُ بالاخْتِلاطِ في الطِّواف، ليسَ حُجَّةً على الشَّرْعِ يُسْتَدَلُّ بهِ على الحلالِ والحرامِ، وما يجوزُ وما لا يجوز، فليسَ بالضَّرورةِ أن يكونَ واقِعُ الحالِ مُوافِقاً لِلشَّرْعِ مِن كُلِّ وجْه، وإنّما الحُجُّةُ في ذلك مقاصِدُ الشَّرعِ المأخوذةُ مِن النَّصوصِ الّتي طَالَما حذَّرَتْ مِن الاخْتِلاطِ ونَهَت عنه، وما أكْثَرَها مِن نصوص!.
ولذلك يقال لمن يحتج بمثل هذه الحجج: أين أنتَ مِن النّصوصِ الأخْرى إن كُنتَ صادِقاً في نُصْحِك؟ لماذا لم تُورِدْها؟ أم هي أخلاقُ اليهودِ الّذين لا يأخذونَ مِن النُّصوصِ إلاّ ما وافَقَ أهواءَهُم؟ (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْض) [البقرة:85]؟ أين أنت مِن وَضْعِ النِّساءِ في المَسْجِد؟ أين قرّر الشَّرْعُ لَهُنَّ أنْ يُصلِّين؟ مُختَلِطين جَنْباً إلى جَنبٍ مع الرِّجال، أم في الصّفوفِ الخَلْفِيّةِ بعيداً عن الرِّجالِ آخِرَ المسجد؟ أيَدُلُّ هذا على النَّدْبِ إلى الاخْتِلاطِ أم العَكْس؟.
بل زادَ -صلى الله عليه وسلم- مِن التّأكيدِ على عدَمِ الاخْتلاطِ مُنَفِّراً حتّى مِن اقْترابِ أيٍّ مِن الطِّرَفيْنِ، الرِّجالِ والنِّساء، مِن صَفِّ الآخَرِ قائلاً: "خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجَالِ أَوَّلُهَا وَشَرُّهَا آخِرُهَا، وَخَيْرُ صُفُوفِ النِّسَاءِ آخِرُهَا وَشَرُّهَا أَوَّلُهَا"؛ أيَدُلُّ هذا على الحثِّ على الاخْتِلاطِ أم على التّحذيرِ مِنه؟.
ثُمّ ألَمْ يكُن -صلى الله عليه وسلم- إذَا سَلَّمَ قامَ النِّسَاءُ حِينَ يَقْضِي تَسْلِيمَهُ ويَمْكُثُ هُوَ فِي مَقَامِهِ يَسِيرا قَبْلَ أنْ يَقُومَ كي يَنْصَرِفَ النِّسَاءُ قَبْلَ أنْ يُدْرِكَهُنَّ الرِّجَال؟ ثُمّ إذا أَخبَرتنا أُمُّ سلَمَةَ -رضي الله عنها- كما صح ذلك في البخاري أنّ النِّساءَ كُنّ يَنْصَرِفْنَ مُباشَرةً بعدَ السَّلام وبِسُرْعة، فماذا يستنبطُ العاقل؟ على التّرحيبِ بالاختلاطِ وأنّه لا بأسَ بِه، أم على البُعْدِ عنه والحَذَرِ مِنه؟.
بل حتّى في الشّارِعِ أو الطّريق، الّذي يَحْتَجُّ بهِ بعضُهُم في جَوازِ الاخْتِلاط، لمّا رأى النّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- اخْتِلاطَ الرِّجالِ بالنِّساءِ في الطّريقِ لمّا خرجوا من المسجدِ قال لَهُنّ: "اِستأخِرْن!" أي: تأخَّرْنَ عن وَسَطِ الطَّريق! "عليكُنّ بِحَافَاتِ الطّريق" أي: بأطْرافِه وجوانِبِه؛ يقول راوي الحديث أبو أُسيْد الأنصاري -رضي الله عنه-: "فكانت المرأةُ تَلْصَقُ بالجِدار وتُبالِغُ في ذلك حتّى إن ثَوْبَها لَيَتعلَّقُ بالجِدار" رواهُ أبوداود وهو صحيح.
كلُّ هذهِ النّصوصِ والرِّواياتِ الصّحيحة، إذا جَمَعْناها، فبماذا نَخرُج؟ سنخرج بأنّ الاخْتلاط من الأمور المحرمة المنكرة والخطيرة على المجتمعات لو فتح بابها! فالنّهيُ عن الاخْتلاطِ ليس مِن التّقاليد، بل هو مِن الثَّوابتِ الشّرعيَّةِ، رَغْماً عن أنْفِ كل أحد! والمُحاوَلاتُ اليائسةُ في حَجْبِ هذهِ الحقيقةِ لَن تُفْلِحَ بإذْنِ الله، واللهُ غالِبٌ على أمْرِه، ولكنّ أكْثرَ النّاسِ لا يعلَمون.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما قلت، فإن كان صواباً فمن الله وحده، وإن كان غير ذلك فمن نفسي ومن الشيطان، والله ورسوله منه بريئان، وأستغفر الله إنه كان غفاراً.
الخطبة الثانية:
أيها المسلمون: ومن شُبَه العلمانيين أنهم ينادون بعملِ وتوظيف المرأة في محلات بيعٍ للمُسْتَلْزِمَات النسائية، ويقولون إن هذا يحفظ خصوصيتها؛ ونقول لهم إن الإسلام لم يوجب ولم يفرض ولم يحمِّل المرأة مسئولية العمل خارج المنـزل، لكنه لا يمنعها من ممارسته بضوابطه الشرعية، فالإسلام حررها من مسؤولية العمل وحتميته خارج المنـزل، لكي لا تقع تحت ضروريات العمل الذي يستعبدها ويستغلها ويظلمها.
فالدعوة إلى نزول المرأة في الميادين التي تخص الرجال أمر خطير على المجتمع الإسلامي، ومن أعظم آثاره الاختلاط، الذي يعتبر من أعظم وسائل الزنا، الذي يفتك بالمجتمع، ويهدم قيمه وأخلاقه.
إن بيع المرأة للمرأة ما يخصها –ولاشك- فيه خصوصية ومصلحة من جانب، لكن فيه مفاسد أعظم تتعلق بالمرأة البائعة؛ إذ ما حال البائعة وهي تدخل وتخرج صباحَ مساءَ مع العمَّال في كل يوم، وبشكل متكرر على مدى العام، وتجاورهم في المحلات، وما يترتب على ذلك من علاقات، ألا يكون هذا مدعاة لأن يتطور ذلك إلى علاقات محرمة؟!.
وما حال البائعة في الصباح الباكر وفي المساء المتأخر، هل ستأمن المرأة على نفسها؟ خاصة إذ علم بعض ضعفاء النفوس من العاملين أو المتسوقين أنه لا يوجد داخل المحل سوى امرأة، فمن يأمن أن يدخل عليها في تلك الفترات رجل أو أكثر متنكرين في لباس نساء، لأغراض سيئة؟ ما حال البائعة حينما يأتي صاحب المحل في آخر الليل ويغلق المحل عليها ويجرد مبيعات اليوم معها؟! ثم ما مصير آلاف الرجال الذين سيفصلون من وظائفهم في هذه المحلات لتأتي النساء مكانهم؟ ما آثار هذا على المجتمع الذي يعاني أصلاً من البطالة.
ماذا لو جعلنا في كل سوق عام، وفي كل مَجْمَع تجاري، قسما خاصا بالنساء لبيع المستلزمات النسائية الخاصة، بحيث يتكون من عدد من المحلات، وله مدخل خاص لا يدخله إلا النساء، سواءً كن عاملات أو متسوِّقات، كما هو حاصل في التعليم؟ لاشك أن هذا سيحافظ على خصوصية المرأة أكثر من هذا الطرح الموجود الآن.
فنسأل الله جل وتعالى أن يصلح أحوال المسلمين.
نُذُرٌ وربِّكَ بالمصـائب تُنْــذِرُ وخُطىً على درب الهوى تتعثَّرُ
فِتَنٌ كَلَيـْـلٍ مُظـلم يندى لها مـنَّـا الجبيـنُ فنارها تتسعَّر
ما كنتُ أحسِبُني أعيش لكي أرى بنت الجزيرة بالمبـادئ تسخَر
جهِلَتْ بأنَّا أُمَّةٌ مَحْكُومـــةٌ بالديــن يحرسها الإله وينصر
جهلت بأنـّـا أهل دينٍ ثابتٍ في ظلِّـه لا يُسْـتَحَلُّ المنكر
أختاه! يا بنت الجزيـرة! هكذا؟ وخنادق الباغين حولك تُحفَر
أوَ هكذا؟ والملحدون تجمـَّعوا من حولنا والطامعون تجمهروا؟
قد تهدم السَّـدَّ المُشَيـَّـد فأرةٌ ولقد يُحـطِّـم أمةً متهور
أخشى على الأخلاق كسرا بالغاً إن المبادئ كسرها لا يُجْبَرُ
التعليقات