عناصر الخطبة
1/خروج الحسين من المدينة إلى مكة 2/مطالبة أهل الكوفة للحسين بالخروج إليهم 3/نصيحة الصحابة للحسين له بعدم الخروج إلى الكوفة 4/طلب يزيد من واليه على البصرة ضم الكوفة إليه 5/خدعة أهل الكوفة للحسين 6/عرض الحسين على أهل الكوفة ثلاثة أمور 7/دعاء الحسين على أهل الكوفة 8/قاتل الحسين أشقى القوم 9/الآثار والقصص المكذوبة في مقتل الحسين 10/رأي أهل السنة في مقتل الحسيناهداف الخطبة
اقتباس
لما رأى الحسين عدمَ التكافؤ بينه وبين خصمه؛ عرض عليهم ثلاثة أمور: - إما أن يتركوه فيرجع من حيث أتى. - أو أن ينطلق إلى ثغر من ثغور المسلمين للجهاد.- أو أن يتركوه يذهب إلى يزيد بالشام، فيضعُ يده في يده. فكتب عمر بن سعد بذلك لابن زياد، وكاد يوافق على مشورة عمر بن سعد بما عرضه الحسين فأشار شمر -الذي كان بالأمس من شيعة علي- إلا أن ينزل على حكْم بن زياد أو القتال، فأخذ...
الخطبة الأولى:
أما بعد:
أيها الإخوة: في سنة ستين للهجرة، وبعد وفاة معاوية -رضي الله عنه- بُويِع يزيد بن معاوية بالخلافة، ولم يبايع الحسين ولا عبد الله بن الزبير-رضي الله عنهم- وخرجا من المدينة إلى مكة، فلقيهما ابن عمر وعبد الله بن عياش بالأبواء أثنا رجوعهما من مكة معتمرين، فقال لهما ابن عمر: "أذكركما الله إلا رجعتما، فدخلتما في صالح ما يدخل فيه الناس؛ وتنظران فإن اجتمع الناس عليه لم تشذان، وإن افْتُرِقَ عليه كان الذي تريدان"[رواه ابن سعد].
ولما وصلا مكة اتخذ الحسين بن علي من دار العباس بن عبد المطلب سكناً له مجاوَراً بمكة يتعبَّد لله -تعالى-، وترك الناسَ وشأنَهم.
وكان رضي الله عنه يرى في أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مَن هو أحقُّ بالخلافة من يزيد.
وكان أهل الكوفة أصحاب تاريخ مليء بالفتنة والشِّقَاق، وكانوا يُظْهِرون الميل لعليٍّ وشيعته.
ولم يكن يفكر الحسين -رضي الله عنه- بالخروج إليهم إلا عندما جاءته الرسل منهم، وقالوا: بأنه ليس علينا إمام، وأنهم يدعونه مرحبين به طائعين، مُسَلِّمِيْن إليه، فاقْبَلْ لعل الله أن يجمعنا بك على الهدى والحق [ذكره الطبري].
وتتابعت الرسائل والكتب إلى الحسين -رضي الله عنه-، حتى بلغت أكثر من خمسمائة كتاب، وأنه قد بايع مائة ألف، ومع ذلك فإن الحسين -رضي الله عنه- توقف، واحتاط من تلك الرسائل وأولئك الرسل، وأرسل ابنَ عمه مسلمَ بنَ عقيل ليستوثق الخبر، ووصل مسلمُ بن عقيل الكوفة، فوجد الناس يريدون الحسين، وجعل يأخذ البَيْعة للحسين في دار هانئ بن عروة، حتى بايعه ثمانية عشر ألفًا من أهل الكوفة، وقيل: ثلاثون ألفًا، ثم كتب مسلم بن عقيلٍ إلى ابن عمه الحسين: "أما بعد: فإن الرائد لا يكذب أهله، إن جميع أهل الكوفة معك، فأقبل حين تنظر في كتابي".
أيها الإخوة: وهنا تأكد للحسينِ صدقُ نوايا أهل الكوفة، وأنه ليس عليهم إمام كما ذكروا، فعزم على الخروج، وتجهز بأهله وخاصته.
ولما سمع بخبر خروجه أخوه محمد بن الحنفية -رحمه الله- وهو يتوضأ بكى، وقدم عليه ونصحه، ومما قال: "إني أخاف أن تدخل مصراً من هذه الأمصار وتأتي جماعة من الناس، فيختلفون بينهم، فمنهم طائفة معك، وأخرى عليك، فيقتتلون فتكون لأولِ الأسنة، فإذا خير هذه الأمة كلها نفسا وأبا وأما أضيعها دما وأذلها أهلا!".
ولما سمع ابن عباس بعزمه على الخروج أتى إليه، فقال: "يا بن عم إني أتصبر فلا أصبر، إني أتخوف عليك الهلاك، إن أهل العراق قوم غُدْر، فأقم بهذا البلد فإنك سيد أهل الحجاز".
ولما أراد الحسين الخروج من مكة إلى الكوفة، قال له ابن عمر حين أراد توديعه: "أطعني وأقم ولا تخرج، فوالله ما زواها الله عنكم -أي الخلافة- إلا وهو يريد بكم خيراً، فلما ودعه، قال: استودعك الله من قتيل".
ولقي الحسين في طريقه الشاعر الفرزدق، فسأله عن أمر الناس ورَاَءَه، فقال له الفرزدق: "الخبير سألت، إن قلوب الناس معك، وسيوفهم مع بني أمية، والقضاء من السماء، والله يفعل ما يشاء، فقال الحسين: صدقت"[رواه ابن سعد].
أيها الإخوة: وهناك في دمشق وصلت الأخبار ليزيد بن معاوية عن بيعة أهل الكوفة للحسين، فأمر واليَه على البصرة عبيد الله بن زياد أن يضمَّ الكوفة إليه، وأمَره أن يمنع أهل الكوفة من الخروج عليه مع الحسين، ولم يأمر يزيدُ بقتل الحسين، وإنما أمَر أن يُمْنَع من الكوفة.
وعَلِم مسلم بن عقيل: أن عبيد الله بن زياد يريد ضمَّ الكوفة، فخرج مسلم بن عقيل ومعه أربعة آلاف ممن بايَعه من شيعة الكوفة، وتوجَّه بجيشه وحاصَر عبيد الله بنَ زياد في قصره، وشدَّد عليه الحصار.
أما عبيد الله بن زياد المحاصَر، فعَرَفَ بمكْرِه ودهائِه كيف يفرِّق شيعة الكوفة عن مسلمِ بنِ عقيل؛ فأرسل إلى رؤساء القبائل في الكوفة وأعطاهم من الأموال ما يخذلهم عن نصرة الحسين ومسلم بن عقيل.
فجعل عُبَّادُ المال ينفرون ويتفرَّقون عن مسلم بن عقيل، حتى أمسى وليس معه أحد، فوقع مسلم بن عقيل في قبضة ابن زياد، فقال له: إني قاتلك، قال: دعني أوصي، قال: نعم أوص فوجد عمر بن سعد بن أبي وقاص وأوصاه بأن يرسل للحسين أن يرجع، وأن الأمر قد انقضى، وأن أهل الكوفة خدعوه، وقال مسلم كلمته المشهورة: "ارجِع بأهلك، ولا يغرنَّك أهلُ الكوفة؛ فإنَّ أهل الكوفة قد كذَبوك وكذَبوني، وليس لكاذب رأيٌ"[الطبري].
أما الحسين بن علي -رضي الله عنه- فلم يعلم بما حصل لابن عمه وخيانة أهل الكوفة له، فخرج ظنًّا منه أنَّ البيعة قد تمت له هناك.
خرج الحسين -رضي الله عنه- من مكة، وليس على وجه الأرض مَن يوازيه في الفضل، وخرج معه سبعون من أهل بيته من أولاده وإخوانه وأبناء إخوانه.
ومضى الحسين -رضي الله عنه- إلى العراق، وقبل وصوله علم بمقتل ابن عمه مسلم بن عقيل، فهمَّ أن يرجع، إلا أن أبناء مسلم بن عقيل الذين كانوا معه طلبوا ثأر أبيهم، فنزل على رأيهم وواصل المسير، أما عبيد الله بن زياد، فقد أرسل جيوشه لمنْع الحسين من الكوفة، مع أنه حُذْرَ من بني أمية من مغبة الغلط والخطأ في تقدير التعامل مع الحسين -رضي الله عنه-.
أما الحسين فقد أذن لمن أراد الانصراف ممن معه بالانصراف، وبقي الحسين ومعه سبعون من أهل بيته، وجيش ابن زياد بقيادة شمر بن ذي الجَوْشَن، وعمر بن سعد، وعددهم خمسة آلاف رجل.
وذلك في أرض كربلاء، وأخبر الحسين عمر بن سعد ببيعة أهل الكوفة له، وأطلعه على كتبهم، وكتب عمر بذلك لابن زياد، ولم يقبل ابن زياد، وأمره بأخذ البيعة ليزيد!.
ولما رأى الحسين عدمَ التكافؤ بينه وبين خصمه؛ عرض عليهم ثلاثة أمور:
- إما أن يتركوه فيرجع من حيث أتى.
- أو أن ينطلق إلى ثغر من ثغور المسلمين للجهاد.
- أو أن يتركوه يذهب إلى يزيد بالشام، فيضعُ يده في يده.
فكتب عمر بن سعد بذلك لابن زياد، وكاد يوافق على مشورة عمر بن سعد بما عرضه الحسين فأشار شمر -الذي كان بالأمس من شيعة علي- إلا أن ينزل على حكْم بن زياد أو القتال، فأخذ ابن زياد برأيه؛ فقال الحسين: "لا والله لا أنزل على حكم ابن زياد أبدًا، واصطفَّ الجيشان، وتجهَّز الجميع للقتال".
هنا رفع الحسين -رضي الله عنه- يديه إلى السماء، ودعَا على أهل الكوفة قائلاً: "اللهم إن متعتهم إلى حين ففرِّقهم فِرَقًا، واجعلهم طرائق قِدَدًا، ولا تُرْضِ الولاةَ عنهم أبدًا؛ فإنهم دعَونَا لينصرونا، ثم عدَوْا علينا فقتلونا".
وهذا الدعاء ذكرتْه كتب الشيعة أيضًا.
وبدأ القتال وحمي الوَطِيس، وكان يومًا عصيبًا على الحسين -رضي الله عنه- يرى أهل بيته يتساقطون بين يديه صَرْعَى، واحدًا تِلْوَ الآخر، حتى بقي -رضي الله عنه- وحده، فتقدم إليه شمر بن ذي الجَوْشَن، كما في إحدى الروايات، فرماه برُمحه في رقبته، ثم طعنه فسقط رضي الله عنه شهيدًا، وفاضت روحه الطاهرة إلى باريها.
وهكذا قُتِل سيد المسلمين في عصره، قُتِل ريحانة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- قُتِل الزاهد العابد المبشَّر بالجنة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ) [إبراهيم: 42].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بهدْي سيد المرسلين، وأستغفر الله العظيم.
الخطبة الثانية:
أيها الإخوة: وقد نسج المبتدعة قصصاً هي من الكذب السمج في يوم مقتل الحسين -رضي الله عنه-، وكيف أثر قتل الحسين -رضي الله عنه- في الكون، فأثر على السماء والأرض، حتى يظن من قرأها أن منزلة الحسين عند الله أعلى من منزلة الرسل -عليهم السلام-، والسابقين من الصحابة -رضوان الله عليهم أجمعين- وما زال هؤلاء المبتدعة يذكرونها، بل ويزيدون عليها بما لا يصدقه عقل.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة النبوية: "وأكثر ما روي في قتله -أي الحسين- من الكذب مثل كون السماء أمطرت دما، فإن هذا ما وقع قط في قتل أحد! ومثل كون الحمرة ظهرت في السماء يوم قتل الحسين، ولم تظهر قبل ذلك! فإن هذا من الترهات فما زالت هذه الحمرة تظهر، ولها سبب طبيعي من جهة الشمس فهي بمنزلة الشفق!".
وكذلك قول القائل: إنه ما رفع حجر في الدنيا إلا وجد تحته دم عبيط هو أيضا كذب بين.
وأما قول الزهري: ما بقى أحد من قتلة الحسين إلا عوقب في الدنيا، فهذا ممكن وأسرع الذنوب عقوبة البغي والبغي على الحسين من أعظم البغي.
وقال ابن كثير -رحمه الله- في البداية والنهاية: ولقد بالغ الشيعة في يوم عاشوراء، فوضعوا أحاديث كثيرة كذبا فاحشا، من كون الشمس كسفت يومئذ حتى بدت النجوم وما رفع يومئذ حجر إلا وجد تحته دم، وأن أرجاء السماء احمرت، وأن الشمس كانت تطلع وشعاعها كأنه الدم، وصارت السماء كأنها علقة، وأن الكواكب ضرب بعضها بعضا، وأمطرت السماء دما أحمر، وأن الحمرة لم تكن في السماء قبل يومئذ، ونحو ذلك.
وقولهم: أن رأس الحسين لما دخلوا به قصر الإمارة جعلت الحيطان تسيل دما، وأن الأرض أظلمت ثلاثة أيام، ولم يَمس زعفران ولا ورس مما كان معه يومئذ إلا احترق من مسه، ولم يرفع حجر من حجارة بيت المقدس إلا ظهر تحته دم عبيط، وأن الإبل التي غنموها من إبل الحسين حين طبخوها صار لحمها مثل العلقم.
إلى غير ذلك من الأكاذيب، والأحاديث الموضوعة، التي لا يصح منها شيء.
أما ما نقل عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وإخباره بمكان قتل الحسين -رضي الله عنه- فهو آية من آيات الله أخبر به رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ فعن علي -رضي الله عنه- قال: "دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- ذَاتَ يَوْمٍ وَعَيْنَاهُ تَفِيضَانِ، قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللهِ، أَغْضَبَكَ أَحَدٌ، مَا شَأْنُ عَيْنَيْكَ تَفِيضَانِ؟ قَالَ: "بَلْ قَامَ مِنْ عِنْدِي جِبْرِيلُ قَبْلُ، فَحَدَّثَنِي أَنَّ الْحُسَيْنَ يُقْتَلُ بِشَطِّ الْفُرَاتِ" [رواه أحمد وغيره، وصححه الألباني وشاكر].
أيها الإخوة: أما أهل السنة والجماعة فيعدُّون قتل الحسين -رضي الله عنه- فاجعةً عظيمة، وجرحًا غائرًا في جسد الأمة، وأن قاتليه، فقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأما مَن قتل الحسين أو أعان على قتله أو رضي بذلك -فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين-، ولا يقبل الله منه صرفًا ولا عدلاً، وعزاء أهل السنة والجماعة في الحسين أنه عاش حميدًا، ومات شهيدًا، ولا يقولون إلا ما يُرضِي ربهم: إنا لله وإنا إليه راجعون؛ لا يضربون لهذه المصيبة خدًّا، ولا يشقُّون لها جيبًا، ولا يحيون معها معالم الجاهلية الأولى".
فرضي الله عنه وأرضاه، وجعل الفردوس الأعلى مثواه.
التعليقات