عناصر الخطبة
1/موقف القنطرة والتنقية والقصاص 2/ذهاب المؤمنين إلى الجنة في جماعات متعددة 3/استفتاح أبواب الجنة 4/صفات أهل الجنة عند دخولهم 5/وصف الجنة 6/من صور نعيم أهل الجنة 7/ أعظم نعيم أهل الجنة 8/وصف الجنة أعظم من كل وصف.اقتباس
الجنةُ هي مَوْعُودُ ربِّ العالمين، وجائزةُ اللهِ للمُطِعين، ومستقرُ عبادِ الله الصالحين. الجنة شيءٌ لا مثيلَ لها، هي -وَرَبِّ الكعبةِ- نورٌ يَتَلأْلأُ، وريحانةٌ تَهْتزُّ، وقصرٌ مشِيدٌ، ونهرٌ مطَّردٌ، وثَمَرةٌ نضِيْجَةٌ، وزوجةٌ حسناءُ جميلةٌ، وحُلَلٌ كثيرةٌ، ودارٌ سليمةٌ بهيِّة، في مُقَامٍ أبدٍ، الجنة: نعيمٌ لا يخطرُ ببال، وسعادةٌ لا يعتريها زوال، وأحلامٌ لا تعرف المحال...
الخطبةُ الأولَى:
الحمدُ للهِ؛ الحمدُ للهِ العزيزِ الحكيمِ العلَّامِ، الباقي سرمداً على الدوام، لا تأخذهُ سِنةٌ ولا يموتُ ولا ينامُ؛ فـ(كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ)[الرحمن:26-27].
وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ، وحدهُ لا شريكَ لهُ، الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَام؛ (تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ)[الرحمن: 78].
وأشهدُ أن محمداً عبدُ اللهِ ورسولهُ، ومصطفاهُ وخليلهُ، النبيُّ الأمَّيُّ الإمامُ، أزكى الأنامِ، وبدرُ التمامِ، ومسكُ الختامِ، وخيرُ من صلّى وصامَ، وطافَ بالبيت الحرامِ، صلَّى اللهُ وسلَّم وباركَ عليه، وعلى آله وأهلِ بيتهِ الكرامِ، وصحابتهِ البررةِ الأعلامِ، والتابعين، ومن تبعهم بعلمٍ وإحسانٍ، وكلُّ من قالَ ربى اللهُ ثمَّ استقامَ، وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بعدُ: فأُوصيكم -أيُّها النَّاسُ- ونفسي بتقوى اللهِ؛ فاتقوا اللهَ -رحمكم اللهُ-، واعلموا أنَّ التقوى من التوقّي، وأنَّ المُوفَّقَ حقاً مَن وُفِّقَ لحُسن العملِ، وأنَّ كسبَ القلوبِ مُقدَّمٌ على كسب المواقِفِ، ومن أرادَ إصلاحَ غيرهِ فليبدأ بإصلاح نفسَهُ؛ (وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا)[الفرقان: 31].
معاشرَ المؤمنينَ الكرام: هذه هي الحلقةُ الواحدةُ والعشرون، من سلسلة حلقات دروسِ الدار الآخرة، وكنا قد تحدثنا في الحلقة الماضيةِ عن النار وأهوالها -عياذاً بالله من النار-، ونتحدثُ اليوم -بإذن الله- عن جنان الخلدِ ونعيمها.
فلقد انتهى يومُ القيامة، وانتهى الوقوفُ الطويل، وانتهى العرضُ والميزان، وانتهى عبورُ الصراط، ووصل المؤمنونَ -بفضل الله- إلى مكانٍ قريبٍ من الجنة، يقالُ له القنطرة، جسرٌ بين الجنة والنار، فيه من نسائم الجنةِ وريحها وبعضِ نعيمها، هناك يُهيَّأُ المؤمنونَ لدخول الجنان، فيُهذَّبون ويُنَقَّون.
وذلك لأنَّ ما في القلوب من الغلِّ والشحناءِ لا يزولُ كله بمجرد القَصاص، فيكرمهم اللهُ بنزعه من نفوسهم؛ قال -تعالى-: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ)[الحجر: 47]؛ فلا يدخلون الجنةَ إلا على أكمل حالٍ، وبغاية الودِّ والصفاء، على قلب رجلٍ واحد.
وفي صحيح البخاري، قال -صلى الله عليه وسلم-: "يَخْلُصُ المُؤْمِنُونَ مِنَ النَّارِ، فيُحْبَسُونَ علَى قَنْطَرَةٍ بيْنَ الجَنَّةِ والنَّارِ، فيُقَصُّ لِبَعْضِهِمْ مِن بَعْضٍ مَظالِمُ كانَتْ بيْنَهُمْ في الدُّنْيا، حتَّى إذا هُذِّبُوا ونُقُّوا أُذِنَ لهمْ في دُخُولِ الجَنَّةِ، فَوالذي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بيَدِهِ، لَأَحَدُهُمْ أهْدَى بمَنْزِلِهِ في الجَنَّةِ مِنهُ بمَنْزِلِهِ كانَ في الدُّنْيا".
ثم يُقَسَّمُ المؤمنونَ إلى جماعاتٍ وزُمَراً مُتعددة، بحسب ما كان يَغلِبُ عليهم من الأعمال، الصِّدِّيقونَ مع بعضهم زُمرة، والعُلماءُ مع بعضهم زُمرة، والمجاهدونَ زُمرة، وأهلُ الصيام زُمرة، وأهلُ القرآنِ زُمرة، وهكذا فكلُّ مَن غلبَ عليهم عملٌ صالحٌ في الدنيا، يُشكِلونَ زُمرةً مع بعضهم.
وللجنة ثمانيةُ أبواب، وكلُّ زُمرةٍ تدخُلُ من الباب الذي يُناسِبُ عملها، قال -تعالى-: (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ)[الزمر: 73]؛ قال ابن كثير -رحمه الله-: "زُمَرًا: جماعةً بعدَ جماعة، وجاء في الحديث الصحيح، قال -صلى الله عليه وسلم-: "لكُلِّ أهْلِ عَمَلٍ بابٌ مِن أبوابِ الجنَّةِ، يُدعَوْنَ منهُ بذلكَ العَمَلِ"، وفي صحيح البخاري، قال -صلى الله عليه وسلم-: "في الجنة ثمانيةُ أبوابٍ، فيها بابٌ يُسمى: الريان لا يدخله إلا الصائمون".
فإذا انتهى المؤمنون إلى أبواب الجنة وجدوها مُغلقة، فيتشاورونَ فيمن يستأذِنُ لهم بالدخول، فيقصدون آدم، ثم نوحًا ثم إبراهيم، ثم موسى ثم عيسى، ثم محمدًا -صلى الله عليه وسلم-، كما فعلوا سابقاً في موقف الشفاعة، وفي ذلك مزيدُ إعلانٍ بعلو منزلة المصطفى -صلى الله عليه وسلم-؛ ففي صحيح مُسلم، قال رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "آتِي باب الجَنَّةِ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَأسْتَفْتِحُ، فَيَقُولُ الخَازِنُ: مَنْ أنْتَ؟ فَأقُولُ: مُحَمَّدٌ، فَيَقُولُ: بِكَ أمِرْتُ، لا أفْتَحُ لأَحَدٍ قَبْلَكَ".
وفي صحيح مُسلم، قال -صلى الله عليه وسلم-: "أنا أكْثَرُ الأنْبِياءِ تَبَعًا يَومَ القِيامَةِ، وأنا أوَّلُ مَن يَقْرَعُ بابَ الجَنَّةِ"، وفي الصحيحين، قال -صلى الله عليه وسلم-: "نَحْنُ الآخِرُونَ الأوَّلُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَنَحْنُ أوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الجَنَّةَ"، وفيهما أيضاً، قال -صلى الله عليه وسلم-: "أَوَّلُ زُمْرَةٍ تَدْخُلُ الجَنَّةَ مِن أُمَّتي علَى صُورَةِ القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ علَى أشَدِّ نَجْمٍ في السَّماءِ إضاءَةً، ثُمَّ هُمْ بَعْدَ ذلكَ مَنازِلُ"، وفي روايةٍ صحيحة: "على خلْق رجُلٍ واحد، على صورة أبيهم آدم، ستونَ ذراعًا في السماء".
وفي صحيح مُسلم، قال الصحابي الجليل عُتبةُ بن غزوان: "وَلقَدْ ذُكِرَ لَنَا أنَّ ما بيْنَ مِصْرَاعَيْنِ مِن مَصَارِيعِ الجَنَّةِ مَسِيرَةُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَلَيَأْتِيَنَّ عَلَيْهَا يَوْمٌ وَهو كَظِيظٌ مِنَ الزِّحَامِ"، وفي الحديث المتفق عليه، قال -صلى الله عليه وسلم-: "لَيَدْخُلَنَّ الجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ ألْفًا، أوْ سَبْعُ مِائَةِ ألْفٍ -شك الراوي- مُتَمَاسِكُونَ، آخِذٌ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، لا يَدْخُلُ أوَّلُهُمْ حَتَّى يَدْخُلَ آخِرُهُمْ، وُجُوهُهُمْ عَلَى صُورَةِ القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ".
وفي صحيح مسلم: قال -صلى الله عليه وسلم-: "يُجاءُ بالمَوْتِ يَومَ القِيامَةِ، كَأنَّهُ كَبْشٌ أمْلَحُ، فيُوقَفُ بيْنَ الجَنَّةِ والنَّارِ، فيُقالُ: يا أهْلَ الجَنَّةِ هلْ تَعْرِفُونَ هذا؟ فَيَشْرَئِبُّونَ ويَنْظُرُونَ ويقولونَ: نَعَمْ، هذا المَوْتُ، قالَ: ويُقالُ: يا أهْلَ النَّارِ هلْ تَعْرِفُونَ هذا؟ قالَ فَيَشْرَئِبُّونَ ويَنْظُرُونَ ويقولونَ: نَعَمْ، هذا المَوْتُ، قالَ فيُؤْمَرُ به فيُذْبَحُ، قالَ: ثُمَّ يُقالُ: يا أهْلَ الجَنَّةِ خُلُودٌ فلا مَوْتَ، ويا أهْلَ النَّارِ خُلُودٌ فلا مَوْتَ".
الجنةُ -يا عباد الله، جعلني الله وإياكم ومن نحبُّ من أهل الجنة-، هي مَوْعُودُ ربِّ العالمين، وجائزةُ اللهِ للمُطِعين، ومستقرُ عبادِ الله الصالحين.
الجنة: شيءٌ لا مثيلَ لها، هي -وَرَبِّ الكعبةِ- نورٌ يَتَلأْلأُ، وريحانةٌ تَهْتزُّ، وقصرٌ مشِيدٌ، ونهرٌ مطَّردٌ، وثَمَرةٌ نضِيْجَةٌ، وزوجةٌ حسناءُ جميلةٌ، وحُلَلٌ كثيرةٌ، ودارٌ سليمةٌ بهيِّة، في مُقَامٍ أبدٍ، الجنة: نعيمٌ لا يخطرُ ببال، وسعادةٌ لا يعتريها زوال، وأحلامٌ لا تعرف المحال.
الجنة: دَارُ الخُلدِ والنَعِيْمُ المقيم، ودَارُ السَّلَامِ والفوزُ العظيم؛ إنها (جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا * لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا * تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا)[مريم:61-63].
الجنة: دارٌ أشرقَ ضياؤُها، وطابَ فِناؤُها، وعظُمَ بناؤُها، وتكامل بهاؤها، دارٌ لا ينفَدُ نعيمُها، ولا يبأس أهلُها، ولا يَنقُصُ حُسنُها، دارٌ تبلغُ النفوسُ فيها كُلَّ مُناها؛ جلَّ وتقدسَ وتباركَ مَن سوَّاها.
دارٌ غرسها الرحمن بيده، وملأها برضوانه ورحمته، وزيَّنها وأتقنها بعظيم قدرته، وجعلها مُستقرًّا لأهل كرامته، سماها الحسنى فقال: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ)[يونس: 26]، ووصفَ دخولها بالفوز العظيم، ووصفَ نعيمها بالنعيم المقيم، ووصفَ مُلكها بالمُلك الكبير، فقال -تعالى-: (وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا)[الإنسان: 20]، ثم قال لها تكلمي قالت: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ)[المؤمنون: 1].
يناديهم المنادي: (ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ)[الحجر: 46]؛ لكم النعيمُ سرمدًا، تحيونَ فيها ولا تموتون أبدًا، وتصحّون ولا تمرضون أبدًا، تشبون ولا تهرمون أبدًا، وتنعمون ولا تبأسون أبدًا، (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ)[الحاقة: 24].
فيا لها من دار حُبورٍ ونعيم، سقفُها عرشُ الرحمن، وتربتُها مِسكٌ وزعفران، وحصباؤها اللؤلؤُ والمرجان، ولبناتُ قصورها ذهبٌ في غاية الصفاءِ واللمعان، غرفٌ من فوقها غرفٌ مبنية، يُرى باطنها من ظاهرها وظاهِرها من باطنها، تَجْرِى مِن تَحْتِهَا أنْهَارٌ من غير أُخدود، أنهارٌ من ماءٌ غيرِ آسن، وأنهارٌ من لبنٍ لم يتغير طعمه، وأنهارٌ من خمرٍ لذةٍ للشاربين، وأنهارٌ من عسلٍ مصفى، لا ينقصُ منسوبها، ولا يتغيرُ صفاءُها، أبردُ من الثلج، وأطيبُ ريحاً من المسك.
أمَّا أرائكها فسررٌ عاليةٌ مرفوعة، وأمَّا وسائدها فجميلةٌ مصفوفة، وأما سجاجيدها ففاخرةٌ مبثوثة، وأمَّا آنيتها فمن الذهبُ والفضةُ في صفاء القوارير؛ (مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا)[الكهف: 31].
خيامها لؤلؤةٌ مجوَّفة، طولها في السماء ستونَ ميلاً، للمؤمن فيها أهلون، يطوفُ عليهم فلا يرى بعضهم بعضاً، فضلاً من الله ونعمة، سيقان أشجارها من الذهب، وأغصانُها من الفضة، وثمارها أحلى من الشهد، وألين من الزبد، وأورقها أرقُّ من الحرير، إذا حركتها الرياح أصدرت أصوتاً عذبةً تسرُّ السامعين.
يسيرُ الراكبُ في ظلها مائةُ عامٍ لا يقطعُها، ظلُّها ممدودٌ، وطلحُها منضود، وفاكهتها كثيرة، لا مقطوعةٌ ولا ممنوعة، قد ذُلِّلت قطوفُها تذليلاً، فهم منها يتخيرون ويأكلون، ولحمِ طيرٍ مما يشتهون، ومن التسنيمُ والكافور يشربون؛ (وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً * عَيْناً فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً)[الإنسان: 17-18].
لا يجوعونَ فيها ولا يظمؤون، ولا يتعبونَ ولا ينامون، وإنما لذَّاتٌ متتابعة، ومسراتٌ مُتعاقبة، ونعيمٌ يتبعُهُ نعيم؛ (وفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنْفُسُ وَتَلَذُّ الأعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)[الزخرف: 71]، (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ من معِينٍ)[الواقعة: 17-18]، لباسهم السندسُ والإستبرقُ والحرير، في غاية الفخامةٍ والنعومةٍ والجمال، وحُلِيهم أساورَ الذهبِ واللؤلؤِ، وتيجانُهم الألماسُ المرصع، أمشاطُهم الذهب، ورشحُهم المسك، ومجامرهم الألوَّة، وهي أفضلُ أنواع الطيب.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم؛ (يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ * ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ * يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ)[الزخرف:68-73].
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم؛ فاستغفروه وتوبوا إليه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى، وصلاة وسلاماً على عباده الذين اصطفى.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- وكونوا مع الصادقين، وكونوا من (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ)[الزمر: 18].
معاشر المؤمنين الكرام: فإن سألتم عن زوجات أهل الجنة فالحور العين، كواعبٌ أتراب، خيراتٌ حِسان، كأنهنَّ الياقوتُ والمرجان، كأمثال اللؤلؤ المكنون، إذا برزت فكأنَّ الشمسَ تجري من محاسن وجهها، وإذا تبسمت أضاءَ البرقُ من بين ثناياها، وإذا قابلت زوجها، فقل ما تشاءُ في تقابل الشمسِ والقمر، إن نظرَ إليها سرَّتهُ، وإن أمرها أطاعتهُ، وإن طلبها أجابتهُ.
لا تزدادُ على الأيام إلا حُسناً وجمالاً، مبرأةٌ من الحمل والولادة، مُنزهةٌ من الحيض والنُّفاس، مُطهرةٌ من المخاط والبُصاقِ وسائرِ الأدناس، لا يفنى شبابها، ولا يُملُّ وصالها، قد قَصُرَتْ طرفَها، فلا تنظرُ لأحدٍ سوى زوجِها، يَرى وجهَهُ في صفَاء خدِّها، ويرى مُخَ ساقِها من وراء لحمِها وحُللِها، فهي لهُ ومعهُ في غاية السعادةِ والاطمئنان، لم يطمثها قبلَهُ إنسٌ ولا جان؛ (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)[الرحمن: 13].
كلما برزت أمامهُ ملأت مكانهُ حُبوراً، وكلما نظرت إليهِ ملأت قلبَهُ سروراً ، وكلما تبسمت في وجهه أضاءت أطرافَ جنتهِ نوراً، وكلما حادثتهُ نثرت في أذنيهِ دُراً منثوراً، فسبحانَ من صورها وأنشأها؛ (إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاء * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً * عُرُباً أَتْرَاباً * لِّأَصْحَابِ الْيَمِينِ)[الواقعة:35-38]، (إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ * هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِؤُونَ * لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُم مَّا يَدَّعُونَ)[يس:55-57].
وفي صحيح مسلم أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنَّ في الجنة لسُوقاً يأتونَها كُلَّ جمعةٍ فتَهُبُّ ريحُ الشَّمالِ فتحثو في وجوهِهِم وثيابِهم فيزدادُونَ حُسناً وجَمَالاً، فيرجعونَ إلى أهلِيْهمْ فيقولُونَ لهم: والله لقد ازددتم بعدنا حُسناً وجمالاً فيقولون: وأنتم والله لقد ازددتم بعدَنا حُسناً وجمالاً".
أمَّا أعظمُ نعيمِ أهلِ الجنة، فكما جاءَ في الحديث الصحيح، قال -صلى الله عليه وسلم-: "إذا دخلَ أهلُ الجنةِ الجنةَ، نادىَ منادٍ يا أهلَ الجنةِ، إنَّ لكم عندَ اللهِ مَوْعِداً يريدُ أن يُنْجِزَكُمُوهُ، فيقولونَ: ما هُو، ألَمْ يُثَقِّلْ موازينَنَا، ويُبَيِّضْ وجوهَنا، ويدخلْنا الجنةَ، ويزحْزحْنا عن النار؟ قال: فيكشِفُ لهم الحِجَابَ فينظرونَ إليه، فوالله ما أعطاهُم اللهُ شيئاً أحبَّ إليهمْ من النَّظرِ إليه، ولا أقَرَّ لأعينِهم منهُ".
وفي صحيح البخاري قَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللَّهَ -تَبَارَكَ وَتعَالَى- يَقُولُ لِأَهْلِ الجَنَّةِ: يَا أَهْلَ الجَنَّةِ؟ فَيَقُولُونَ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ، فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: وَمَا لَنَا لاَ نَرْضَى وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، فَيَقُولُ: أَنَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، قَالُوا: يَا رَبِّ، وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي، فَلاَ أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا".
وبعدُ -يا عباد الله- فكلُّ ما ذُكرَ من أوصاف الجنة، ليس إلا تلميحاتٍ وإشاراتٍ، وأمَّا الحقيقةُ فإنَّ نعيمَ الجنةِ أكبرُ منهُ وأعظم، وأجلُّ وأضخم، لأنَّ الله -تعالى-: إنما وصفهُ لنا على قدر عقولنا، وما تستوعبهُ أفهامنا، ففي الحديث القدسي الصحيح، قال الله -تعالى-: "أعْدَدْتُ لِعِبادِي الصَّالِحِينَ ما لا عَيْنٌ رَأَتْ، ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ، ولا خَطَرَ علَى قَلْبِ بَشَرٍ".
وقال -تعالى-: (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[السجدة: 17]، (لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ)[ق: 35]، (وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)[الزخرف: 71].
أيها المباركون الموفَّقون: جنةٌ بكلِّ هذه المزايا والمواصفات، ألا تستحقُ أن نبذُلَ من أجلها كل ما نقدِرُ عليه من الأعمال الصالحات، بلى وربِّ الأرضِ والسموات.
ولعلنا في خطبة قادمة -بإذن الله- نتذاكر أهمَّ وأفضلَ الأعمال التي تُهيئنا لدخول الجنان، والترقي في درجاتها، نسأل الله الكريم من واسع فضله.
ويا ابن آدم عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، البر لا يبلى، والذنب لا يُنْسَى، والديان لا يموت، وكما تدين تدان.
اللهم صلِّ وسَلِّم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
التعليقات