عناصر الخطبة
1/أداء الحقوق يوم القيامة 2/مرحلة التخاصم بين الخلائق 3/موقف الحساب بين يدي الله تعالى 4/مواقف رهيبة عصيبة يوم القيامة 5/محكمة العدل الإلهي 6/من المشاهد العجيبة عند الحساب 7/أعمال يظهر جزائها على أرض المحشر 8/أهل الحساب اليسير والعسير.اقتباس
فموقف الحساب بين يدي الله -جلَّ جلاله- موقفٌ رهيبٌ عصيب، جليلٌ مهيب.. إذ إنهُ لا حِيلةَ تُغني، ولا عُذرَ يُقبَل، ولا شفيعَ ينفع، ولا مالَ يفدي، ولا سُلطان يَنصر... حيثُ يقفُ كُل عبدٍ بين يدي ربه -جلَّ وعلا- وحيداً منفرداً، فيحاسبه على أعماله وعباداته...
الخُطْبَة الأُولَى:
إن الحمد لله؛ نحمَده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين...
أما بعد: فإن أصدقَ الحديثِ كتابُ الله، وخيرَ الهديِ هديُ رسولِه محمدٍ بن عبدِ الله -صلى الله عليه وسلم-، وشرَ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ محدثةٍ بدعة، وكلَّ بدعةٍ ضلالة، وكلَّ ضلالةٍ في النار، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].
معاشر المؤمنين الكرام: هذه هي الحلقة السابعة عشرة من سلسلة حلقات ودروس الدار الآخرة، وكنا قد تحدثنا في الحلقة الماضية عن مرحلة الجدالِ والتَّخاصُم بين الغرماء؛ حيث يشتدُّ جدالُ المتخاصمين بين يدي أحكمِ الحاكمين -جلَّ وعلا-، وكُلٌّ يتبرأُ من الآخر، كل يشهدُ ضِدَّ خصومه، الاتباع يتبرؤون من أتباعهم، الطواغيت يتبرؤون ممن كان يعبدهم..
(إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ)[البقرة:166-167].
الأممُ الكافرةُ تتنكرُ لرسلها تقولُ: (مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِير وَلَا نَذِير)[المائدة: 19]، فتدعى أمةُ محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- ليشهدوا لهم.. ويقتصُ الله -جلَّ جلاله- للعباد بعضِهم من بعضٍ حتَّى لا يبقى لأحدٍ مظلمةٌ عند أحد، ففي الحديث الصحيح: "من كانت عندَهُ مظلِمةٌ لأخيهِ في دمٍ أو مالٍ, فليتحلَّلْها منْه قبلِ أن يأتي يوم ليسَ فيهِ درْهمٌ ولا دينارٌ, إلا الحسناتِ والسيِّئاتِ فإن كانت لَهُ حسناتٌ أُخِذَ من حسناتِهِ بقدرِ مظلِمتهِ, وإلَّا أخذَ من سيِّئاتِ صاحبِهِ فطُرِحت عليهِ ثمَّ طُرِحَ في النَّارِ".
وفي صحيح مسلم: "لَتُؤَدُّنَّ الحُقُوقَ إلى أهْلِها يَومَ القِيامَةِ، حتَّى يُقادَ لِلشّاةِ الجَلْحاءِ، مِنَ الشَّاةِ القَرْناءِ".. فإذا انتهت مرحلة التخاصم، وتناصفَ الخلق من بعضهم، وأُرجِعت الحقوقُ لأهلها، جاءت مرحلةُ الحسابِ الفردي، وما أدراك ما الحساب الفردي؟! حيثُ يقفُ كُل عبدٍ بين يدي ربه -جلَّ وعلا- وحيداً منفرداً، فيحاسبه على أعماله وعباداته.
في الحديث الصحيح: "ما مِنكُم أحَدٌ إلَّا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ ليسَ بيْنَهُ وبيْنَهُ تُرْجُمانٌ، فَيَنْظُرُ أيْمَنَ منه فلا يَرَى إلَّا ما قَدَّمَ مِن عَمَلِهِ، ويَنْظُرُ أشْأَمَ منه فلا يَرَى إلَّا ما قَدَّمَ، ويَنْظُرُ بيْنَ يَدَيْهِ فلا يَرَى إلَّا النَّارَ تِلْقاءَ وجْهِهِ، فاتَّقُوا النَّارَ ولو بشِقِّ تَمْرَةٍ".
وما أكثرُ الآياتِ والأحاديث التي تبينُ أنَّ الانسانَ سيُسألُ عما كُلِّفَ به من واجباتٍ وعبادات، وعمَّا استرعاهُ اللهُ من رعيهٍ وأمانات.. فيُسألُ الإنسانُ عن دينه وإيمانه، قال -تعالى-: (وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ)[الشعراء :92-93]، ويُسألُ عن صدقه وكذبه، قال -تعالى-: (وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ)[العنكبوت: 13].
ويُسألُ الرجل عن رعيته، في الحديث الصحيح: "إنَّ اللهَ سائلٌ كلَّ راعٍ عمَّا استَرعاهُ، حفِظَ أم ضيَّعَ، حتَّى يَسألَ الرَّجلَ عن أهلِ بيتِهِ"، وفي صحيح البخاري: قال -صلى الله عليه وسلم-: "أَلا كُلُّكُمْ راعٍ وكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عن رَعِيَّتِهِ".. ويُسألُ عن جوارحه، قال -تعالى-: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا)[الإسراء: 36]..
ويُسألُ عن عُمره وعن عِلمه وعن ماله وعن بدنه، ففي الحديث المشهور: "لا تَزُولُ قَدَمَا عبدٍ حتى يُسْأَلَ أربع: عن عُمُرِهِ فِيمَ أَفْنَاه، وعن علمِه ما فعل فيه، وعن مالِه مِن أين اكتسبه وفِيمَ أَنْفَقَهُ، وعن جِسْمِه فِيمَ أَبْلَاه"، ويُسألُ عن النعيم وعمَّا أعطي من الدنيا.
قال -تعالى-: (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ)[التكاثر: 8]، وصح عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إنَّ أوَّلَ ما يُسأَلُ عنهُ العبدُ يومَ القيامةِ من النَّعيمِ أنْ يُقالَ لهُ: ألمْ نُصِحَّ لكَ جِسمَكَ، ونُرْوِيكَ من الماءِ البارِدِ".
ويُسألُ كذلك عن عُهوده ومواثقه، قال -تعالى-: (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا)[الإسراء: 34]؛ فموقف الحساب بين يدي الله -جلَّ جلاله- موقفٌ رهيبٌ عصيب، جليلٌ مهيب.. إذ إنهُ لا حِيلةَ تُغني، ولا عُذرَ يُقبَل، ولا شفيعَ ينفع، ولا مالَ يفدي، ولا سُلطان يَنصر، (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)[الشعراء:88-89]، وقال -تعالى-: (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ)[غافر: 18]، وقال -سبحانه-: (يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ)[الطور: 46].
إنها يا عباد الله: محكمةُ العدلِ الإلهي؛ "لا ظلم اليوم"، (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ)[الأنبياء: 47]..
وإذا كنا نتعجب من حواسيب اليوم العملاقة، وكيف يمكن لها أن تُجري مليارات العمليات في الثانية الواحدة، فكيف بأسرع الحاسبين -سبحانه وتعالى-، إنها والله يا عباد الله لفتةٌ قرآنيةٌ مُعجزة، تأمل: (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ)[الأنعام: 62]، وقال -جلَّ وعلا-: (وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ)[الرعد: 41]..
ثم إن من عدل اللهِ -جلَّ وعلا- أن يُعطيَ كُلَّ عبدٍ كتابَ أعماله، فيرى فيه كلَّ ما عمِلهُ بمنتهي الدقة، (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا)[الكهف: 49].
وجاءت الآياتُ صريحةً واضحةً, أنَّ الانسانَ سيقرأُ كتابَ أعمالهِ قبل أن يُحاسب، ليعلم أنَّ اللهَ لم يظلمه، (وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا)[الكهف: 49]، وأنَّ كلَّ ما سُجِّلَ عليهِ حقٌّ وعدل، بلا زيادةٍ ولا نقصان، قال -تعالى-: (وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا)[الإسراء: 13-14].
ثم إنَّ من المشاهد العجيبةِ عند الحساب، أنَّ جزاءَ بعضِ الأعمالِ الصالحةِ أو السيئة يجسدُ بصورةٍ يمكنُ ملاحظتها، ففي الحديث الصحيح: "ما مِن أحدٍ لا يؤدِّي زَكاةَ مالِهِ إلَّا مُثِّلَ لَه يومَ القيامَةِ شُجاعًا أقرعَ حتَّى يطوِّقَ عنقَهُ"، ثمَّ قرأ -صلى الله عليه وسلم- قوله -تعالى-: (سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)[آل عمران: 180]، وقال -تعالى-: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ)[التوبة: 34-35].. و"ما مِن صَاحِبِ إبِلٍ، وَلَا بَقَرٍ، وَلَا غَنَمٍ لا يُؤَدِّي زَكَاتَهَا إلَّا جَاءَتْ يَومَ القِيَامَةِ أَعْظَمَ ما كَانَتْ، وَأَسْمَنَهُ تَنْطَحُهُ بقُرُونِهَا وَتَطَؤُهُ بأَظْلَافِهَا"، و(الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ)[البقرة:275].
وفي الأحاديث الصحيحة: "ثَلاثَةٌ لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَومَ القِيامَةِ ولا يُزَكِّيهِمْ، ولا يَنْظُرُ إليهِم، ولَهُمْ عَذابٌ ألِيمٌ: شيخٌ زانٍ، ومَلِكٌ كَذّابٌ، وعائِلٌ مُسْتَكْبِرٌ" .. و"ثلاثةٌ لا ينظُرُ اللَّهُ إليهِم يومَ القيامةِ: العاقُّ لوالديهِ, ومدمِنُ خَمرٍ, والمنَّانُ بما أعطَى".. و"ثلاثةٌ لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يومَ القيامةِ، ولا ينظرُ إليهم، ولا يزَكِّيهم، ولَهُم عذابٌ أليمٌ: المسبِلُ إزارَهُ، والمنَّانُ عطاءَهُ، والمنفِّقُ سِلعتَهُ بالحلفِ الكاذبِ".
وجاء في حديثٍ صحيح: "يُرفَعُ لِكُلِّ غادرٍ لواءٌ بِقَدرِ غدرتِهِ يومَ القيامةِ ألا ولا غدرَ أَكْبرُ مِن غدرِ أميرِ عامَّةٍ"، وفي روايةٍ صحيحة: يقال: "هذِه غَدْرَةُ فُلانِ بنِ فُلانٍ".
وفي محكم التنزيل: (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)[آل عمران: 161]، فكل من سرق أو اختلس من أموال المسلمين العامة، سيأتي يوم القيامة وهو يحمله على رقبته، (وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ)[الأنعام: 31].
وفي الحديث الصحيح: "لا ألفيَنَّ أحدَكم يجيءُ يومَ القيامةِ على رقبتِهِ بعيرٌ له رُغاءٌ أو بقرةٌ لها خوارٌ أو شاةٌ لها ثُغاءٌ"، ومن الصور العجيبة يوم القيامة، أن يرى بعض الناس وله وجهان، ففي الحديث الصحيح: "إنَّ من شرِّ النَّاسِ عندَ اللَّهِ يومَ القيامةِ ذا الوجْهينِ".
وفي صحيح البخاري: "مَن أَخَذَ مِنَ الأَرْضِ شيئًا بغيرِ حَقِّهِ خُسِفَ به يَومَ القِيَامَةِ إلى سَبْعِ أَرَضِينَ".. و"من سألَ ولَهُ ما يُغنيهِ جاءت مسألتُهُ يومَ القيامةِ خُدوشًا أو خُموشًا أو كُدوحًا في وجْهِه".. و"مَن تَحَلَّمَ بحُلْمٍ لَمْ يَرَهُ كُلِّفَ أنْ يَعْقِدَ بيْنَ شَعِيرَتَيْنِ، ولَنْ يَفْعَلَ، ومَنِ اسْتَمع إلى حَديثِ قَوْمٍ وهُمْ له كارِهُونَ، أوْ يَفِرُّونَ منه؛ صُبَّ في أُذُنِهِ الآنُكُ يَومَ القِيامَةِ"..
و"مَنْ سُئِلَ عن عِلْمٍ فَكَتَمَهُ جاء يومَ القِيامَةَ مُلْجَمًا بِلِجَامٍ من نارٍ، ومَنْ قال في القرآنِ بغيرِ عِلْمٍ جاء يومَ القيامةِ مُلَجَّمًا بِلِجَامٍ من نارٍ" .. و"إنَّ أشَدَّ النَّاسِ عَذابًا عِنْدَ اللَّهِ يَومَ القِيامَةِ المُصَوِّرُونَ"..
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)[فصلت: 46].
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم...
الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى، وصلاةً وسلاماً على عباده الذين اصطفى...
أما بعد فاتقوا الله وكونوا مع الصادقين، وكونوا من (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ)[الزمر: 18].
معاشر المؤمنين الكرام: كانت تلك بعضُ الأعمالِ السيئة التي سيظهرُ بعضُ جزائها مجسداً على أرض المحشر، وفي المقابل: فـ(مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ)[النمل: 89].
والأمثلةُ على ذلك أيضاً كثيرة، فقد صح عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إنَّ أمَّتي يأتونَ يومَ القيامةِ غرًا مُحجلينَ من آثارِ الوضوءِ"، و"إنَّ المتحابِّينَ في اللهِ على منابرَ من نورٍ يومَ القيامةِ"، و"للشَّهيدِ عِندَ اللَّهِ ستُّ خصالٍ" ذكر منها: "ويُوضعُ علَى رأسِه تاجُ الوقارِ، ويُشفَّعُ في سبعينَ مِن أقاربِه".
"ومن مات مرابطًا في سبيلِ اللهِ أمِنَ من الفزعِ الأكبرِ"، و"لا يُكْلَمُ أحَدٌ في سَبيلِ اللهِ، إلَّا جاءَ يَومَ القِيامَةِ وجُرْحُهُ يَثْعَبُ، اللَّوْنُ لَوْنُ دَمٍ، والرِّيحُ رِيحُ مِسْكٍ"، و"الصِّيامُ والقرآنُ يشفَعانِ للعبدِ يومَ القيامةِ"، و"طوبى لِمن وجدَ في صَحيفتِهِ استغفارًا كثيرًا"، و"كَلِمَتانِ خَفِيفَتانِ علَى اللِّسانِ، ثَقِيلَتانِ في المِيزانِ، حَبِيبَتانِ إلى الرَّحْمَنِ: سُبْحانَ اللَّهِ العَظِيمِ، سُبْحانَ اللَّهِ وبِحَمْدِهِ".
و"مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ الندَاءَ: اللّهُمّ رَبّ هَذِهِ الدّعْوَةِ التّامّةِ ... إلخ الدعاء، حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ"، و"من نفَّسَ عن مسلمٍ كُربةً مِن كُربِ الدُّنيا نفَّسَ اللَّهُ عنهُ كربةً مِن كُرَبِ يومِ القيامةِ"، و"مَن شاب شيبةً في الإسلامِ كانتْ له نورًا يومَ القيامةِ"، و"الْمُؤَذِّنُونَ أطْوَلُ النَّاسِ أعْنَاقًا يَومَ القِيَامَةِ"، و"إنَّ المُقْسِطِينَ عِنْدَ اللهِ علَى مَنابِرَ مِن نُورٍ".
ثم إن هناك من يدخل الجنة بلا حسابٍ ولا عذاب، فقد جاء في الحديث الصحيح: "وعدَني ربِّي أن يُدْخِلَ الجنَّةَ مِن أمَّتي سبعينَ ألفًا لا حسابَ علَيهِم ولا عذابَ، معَ كلِّ ألفٍ سبعونَ ألفًا، وثلاثُ حثَياتٍ مِن حَثَياتِه"، وفي الحديث الصحيح: "ليسَ أحَدٌ يُحاسَبُ يَومَ القِيامَةِ إلَّا هَلَكَ"، فَقُالتُ عائشة: يا رَسولَ اللَّهِ، أليسَ قدْ قالَ اللَّهُ -تعالى-: (فَأَمَّا مَن أُوتِيَ كِتابَهُ بيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِسابًا يَسِيرًا)[الانشقاق: 8]، فقالَ رَسولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّما ذَلِكِ العَرْضُ، وليسَ أحَدٌ يُناقَشُ الحِسابَ يَومَ القِيامَةِ إلَّا عُذِّبَ".
وأهل الحساب اليسير كما جاء في الآية الكريمة: (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ)[النجم: 32]، وكما جاء في الحديث الصحيح: "يَدْنُو أحَدُكُمْ مِن رَبِّهِ حتَّى يَضَعَ كَنَفَهُ عليه، فيَقولُ: عَمِلْتَ كَذَا وكَذَا؟ فيَقولُ: نَعَمْ، ويقولُ: عَمِلْتَ كَذَا وكَذَا، فيَقولُ: نَعَمْ، فيُقَرِّرُهُ، ثُمَّ يقولُ: إنِّي سَتَرْتُ عَلَيْكَ في الدُّنْيَا، فأنَا أغْفِرُهَا لكَ اليَومَ"..
وهناك مَن يعاتب عتاباً يسيراً، كما جاء في الحديث الصحيح: "إنَّ اللَّهَ -عزَّ وجلَّ- يقولُ يَومَ القِيامَةِ: يا ابْنَ آدَمَ، مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي، قالَ: يا رَبِّ، كيفَ أعُودُكَ وأَنْتَ رَبُّ العالَمِينَ؟! قالَ: أَمَا عَلِمْتَ أنَّ عَبْدِي فُلانًا مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ؟ أمَا عَلِمْتَ أنَّكَ لو عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ؟" إلخ الحديث...
وأما أهل الحساب العسير فهم أهل الرياء والمصرّون على الكبائر، هؤلاء يُشدَّد عليهم، ففي الحديث الصحيح: "إنَّ أوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَومَ القِيامَةِ عليه رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ، فَأُتِيَ به فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَها، قالَ: فَما عَمِلْتَ فيها؟ قالَ: قاتَلْتُ فِيكَ حتَّى اسْتُشْهِدْتُ، قالَ: كَذَبْتَ، ولَكِنَّكَ قاتَلْتَ لأَنْ يُقالَ: جَرِيءٌ، فقَدْ قيلَ، ثُمَّ أُمِرَ به فَسُحِبَ علَى وجْهِهِ حتَّى أُلْقِيَ في النَّارِ"، وهكذا العالم، المرائي بعلمه، وصاحب المال، الذي ينفق ماله رياءً ..
وبعد مرحلة الحساب الفردي، تأتي مرحلة الميزان وهذا ما سنتحدث عنه في الحلقة القادمة بإذن الله.
فاتقوا الله عباد الله، (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)[البقرة: 281].
ويا ابن آدم عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، البر لا يبلى والذنب لا ينسى، والديان لا يموت، وكما تدين تدان ..
اللهم صلِّ على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين..
التعليقات