عناصر الخطبة
1/ خطأ الاحتفال بذكرى الإسراء والمعراج 2/ ومضات إيمانية وتربوية من الإسراء والمعراج 3/ فضيلة التبرع بالدم للمحتاجيناهداف الخطبة
اقتباس
الإسراء من البيت الحرام إلى بيت المقدس، دليل على الربط التاريخي الوثيق بين المسجدين، فقد ثبت في صحيح مسلم أن أبا ذر -رضي الله عنه- قال: يا رسول الله: أي مسجد وضع في الأرض أولُ؟! قَالَ: "الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ". قَالَ: ثُمَّ أي؟! قَالَ: "ثُمَّ الْمَسْجِدُ الأَقْصَى". قال: كَمْ بَيْنَهُمَا؟! قَالَ: "أَرْبَعُونَ سنة". وصلاة الرسول -صلى الله عليه وسلم- فيه، واتخاذه قبلة أول الأمر، دليل على إسلاميته، وأحقية المسلمين به، وضرورة الدفاع عنه بالغالي والنفيس، في وجه اليهود الغاصبين، والنصارى المتواطئين...
الخطبة الأولى:
يحل شهر رجب، ويتذكر المسلمون رحلة الإسراء والمعراج التي أكرم الله بها رسوله -صلى الله عليه وسلم- عيدًا له عاداته وتقاليده، كما قد يفعل بعض الناس، ولكن ليستخلصوا العبرة من وقائعها، ويستفيدوا من دروسها، التي سنذكر سبعة من ومضاتها.
أولاً: عظم جزاء الصابر المحتسب، الذي يشتغل بالدعوة إلى الله تعالى، فيتحمل في سبيلها الأذى والمشقة؛ لأنه لا يقصد إلى لعاعة فانية، ولا إلى شهرة مهلكة، ولا إلى مكانة زائلة، فقد توالت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الأحزان والآلام؛ حاصره قومه في شِعب أبي طالب ثلاث سنوات، لاقى فيها هو وأصحابه الجوع والحرمان، ثم فقد رِدءه ومؤازِره: زوجته خديجة -رضي الله عنها-، ومات مناصره ومسانده: عمه أبو طالب، فازدادت جراءة كفار قريش عليه، حتى كان أبو لهب يلاحقه في الأسواق والمجامع، يسبه، ويسفهه، ويرميه بالحجارة، ويخبر بأنه كذاب، وبعد أن عرض دعوته على ثقيف بالطائف، لعله يجد منهم النصير والمساعد، فما وجد منهم إلا الصدود والاستهزاء، بل سلطوا عليه سفهاءهم وصبيانهم وعبيدهم، فسخروا منه، ورجموه بالحجارة حتى أدموا قدميه الشريفتين، فجاء الإسراء والمعراج ليكون تسلية له لأحزانه وتعويضًا، ورفعًا من معنوياته وتعضيدًا.
فإذا كان قد ذهب إلى الطائف ماشيًا، فقد حمل إلى بيت المقدس على البراق، الذي أتي به -صلى الله عليه وسلم- "مُلْجَمًا مُسْرَجًا، فَاسْتَصْعَبَ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: أَبِمُحَمَّدٍ تَفْعَلُ هَذَا؟! فَمَا رَكِبَكَ أَحَدٌ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْهُ، فارْفَضَّ عَرَقًا". صحيح سنن الترمذي.
وإذا كان صاحبه إلى الطائف خادمه زيد بن حارثة، فإن صاحبه في رحلة الإسراء والمعراج كان جبريل -عليه السلام- سيد الملائكة وأشرفهم.
وإذا استقبله أهل الطائف بالسخرية والاتهام والتكذيب، فقد استقبله أنبياء الله في السماوات العلى وآمنوا به وصدقوه: آدم في السماء الدنيا، ويحيى وعيسى في السماء الثانية، ويوسف في السماء الثالثة، وإدريس في السماء الرابعة، وهارون في السماء الخامسة، وموسى في السماء السادسة، وإبراهيم في السماء السابعة، كلهم يقول: "مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح".
وإذا ضاقت به الأرض في الطائف، فخرج منها مهمومًا هائمًا على وجهه، ففي الإسراء والمعراج انفتحت له أرجاء السماوات، وكان الفضاء كله له مأوى، حتى قُدم على أهل السماء: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) [الزمر: 10].
ثانيًا: إن الإسراء من البيت الحرام إلى بيت المقدس، دليل على الربط التاريخي الوثيق بين المسجدين، فقد ثبت في صحيح مسلم أن أبا ذر -رضي الله عنه- قال: يا رسول الله: أي مسجد وضع في الأرض أولُ؟! قَالَ: "الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ". قَالَ: ثُمَّ أي؟! قَالَ: "ثُمَّ الْمَسْجِدُ الأَقْصَى". قال: كَمْ بَيْنَهُمَا؟! قَالَ: "أَرْبَعُونَ سنة". مسلم.
وصلاة الرسول -صلى الله عليه وسلم- فيه، واتخاذه قبلة أول الأمر، دليل على إسلاميته، وأحقية المسلمين به، وضرورة الدفاع عنه بالغالي والنفيس، في وجه اليهود الغاصبين، والنصارى المتواطئين، فتلويث المسجد الأقصى بأقدام المشركين، تهديد للبيت الحرام نفسه، وسبيل إلى تقويض عقيدة التوحيد فيه.
فأين بيت المقدس اليوم؟! يرزح تحت وطأة الأرجاس الأدناس، الذهاب إليه بالتأشيرة، والصلاة فيه بالبطاقة، والمسلمون لا يستطيعون له حيلة، وقد كانوا ينعمون بالصلاة فيه بلا قيد ولا شرط، لا يمنعهم مانع، ولا يصدهم مُدافع.
ظَفِرَتْ بِنَا الأَعْدَاءُ يَوْمَ وَدَاعِكُمْ *** فَدِمَاؤُنَا فَـوْقَ الدِّمَاءِ تُرَاقُ
هُتِـكَ السِّتَارُ وَقُطِّعَتْ أَوْصَالُنَا *** وَنِسَاؤُنَا نَحْوَ الْهَوَانِ تُسَاقُ
أَوَ هَكَـذَا يَنْسَى الْحَبِيبُ حَبِيبَهُ *** بِحُطَـامِ دُنْيِا مَا لَهَا مِيثَاقُ
ثالثًا: إن صلاة النبي -صلى الله عليه وسلم- بالأنبياء إمامًا لهم في بيت المقدس، دليل على وحدة الأديان السماوية، وأنها كلها من مشكاة واحدة، وأن الدين الخاتم، الذي نسخ الأديان قبله، وأصبح على كل من عرفه أن يؤمن به هو الإسلام، قال تعالى: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [آل عمران: 85]، ويقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "والذي نفسي بيده، لو كان موسى حيًّا، ما وسعه إلا أن يتبعني". حسّنه في الإرواء. ويحسم هذه المسألة قول النبي -صلى الله عليه وسلم- الصريح: "وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لاَ يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ: يَهُودِيٌّ وَلاَ نَصْرَانِي، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ، إِلاَّ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ". مسلم.
فهل هو دين واحد، نسعى لإقناع غيرنا به بالتي هي أحسن، أم هو التعايش بين الإسلام وأديان أخرى تناقض التوحيد، وتشرك برب العالمين؟!
رابعًا: تعظيم ركن الصلاة، التي فرضت عليه -صلى الله عليه وسلم- في السماء، حين بلغ مستوى يسمع فيه صريف الأقلام، وكانت خمسين صلاة، ثم خففها الله علينا فصارت خمس صلوات، فقال تعالى له: "أَمْضَيْتُ فَرِيضَتِي، وَخَفَّفْتُ عَنْ عِبَادِي". متفق عليه. وعند البخاري: "فَهْي خَمْسُونَ فِي أُمِّ الْكِتَابِ، وَهْي خَمْسٌ عَلَيْكَ".
فالصلاة عمود الدين، وسمة المسلمين. قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّهُمْ لاَ يَحْسُدُونَنا عَلَى شَيءٍ كَمَا يَحْسُدُونَنا عَلَى يَوْمِ الْجُمُعَةِ الَّتِي هَدَانَا اللَّهُ لَهَا وَضَلُّوا عَنْهَا، وَعَلَى الْقِبْلَةِ الَّتِي هَدَانَا اللَّهُ لَهَا وَضَلُّوا عَنْهَا، وَعَلَى قَوْلِنَا خَلْفَ الإِمَامِ آمِينَ". الصحيحة.
خامسًا: وفي الإسراء والمعراج مبشرات عظيمة للمؤمنين الصالحين، فقد قال سيدنا إبراهيم للنبي -صلى الله عليه وسلم-: "يا محمد: أقرئ أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، وأنها قيعان، وأن غراسها: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر". الترمذي. وفي رواية قال له: "يا محمد: مر أمتك فليكثروا من غراس الجنة، فإن تربتها طيبة، وأرضها واسعة. قال: وما غراس الجنة؟! قال: لا حول ولا قوة إلا بالله". صحيح الترغيب.
وقال عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود -رضي الله عنه-: "لَمَّا أُسْرِىَ بِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- انْتُهِيَ بِهِ إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، فَأُعْطِيَ ثَلاَثًا: أُعْطِيَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ، وَأُعْطِيَ خَوَاتِيمَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَغُفِرَ الْمُقْحِمَاتُ -الذنوب العظام التي تقحم أصحابها في النار- لِمَنْ لَمْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ مِنْ أُمَّتِهِ شَيْئًا". مسلم.
سادسًا: وكما تضمنت الرحلة مبشرات، تضمنت كذلك تحذيرات، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لَمَّا عُرِجَ بِي، مَرَرْتُ بِقَوْمٍ لَهُمْ أَظْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ، يَخْمِشُونَ وُجُوهَهُمْ وَصُدُورَهُمْ، فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلاَءِ يَا جِبْرِيلُ؟! قَالَ: هَؤُلاَءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ، وَيَقَعُونَ فِي أَعْرَاضِهِمْ". أبي داود.
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "مَرَرْتُ لَيْلَةَ أُسْرِي بِي عَلَى قَوْمٍ تُقْرَضُ شِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنْ نَارٍ. قُلْتُ: مَنْ هَؤُلاَءِ يا جبريل؟! قَال: خُطَبَاءُ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا، كَانُوا يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ يَعْقِلُونَ". صحيح الجامع.
الخطبة الثانية:
سابعًا: رحلة الإسراء والمعراج دليل على صراع التصديق والتكذيب، ونصرة التصديق وأهله، فقد أسري بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وعرج به في ليلة واحدة، بروحه وجسده، ولذلك اعتقد كفار قريش المكذبون أنهم وجدوا مغمزًا للطعن على دعوة النبي -صلى الله عليه وسلم-، فأخذوا يشنعون عليه، ويسخرون من قوله، واعتقدوا أنهم سيشعلون فتيل العداوة بينه وبين صاحبه أبي بكر الصديق، فجاؤوه فقالوا له: "هل لك في صاحبك؟! يزعم أنه جاء إلى بيت المقدس، ثم رجع إلى مكة في ليلة واحدة؟! فقال أبو بكر: أو قال ذلك؟! قالوا: نعم. قال: فأنا أشهد لئن كان قال ذلك لقد صدق. قالوا: فتصدقه في أن يأتي الشام في ليلة واحدة ثم يرجع إلى مكة قبل أن يصبح؟! قال: نعم، أنا أصدقه بأبعد من ذلك، أصدقه بخبر السماء". الصحيحة.
قال تعالى: (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) [الزمر: 33].
معاشر المسلمين والمسلمات: يعتبر الرابع عشر من شهر يونيو يومًا عالميًا للتبرع بالدم، حيث يتطوع كثير من الناس بالتصدق ببعض دمهم -يقدر بـ8%- والذي يعوض بفضل الله خلال ساعات لإنقاذ أرواح المرضى والجرحى، هدفهم أن يدخلوا ضمن قول الله تعالى: (وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا) [المائدة: 32].
ولعل ثقافة التصدق بالدم لهذا الهدف الشريف لم تجد بعد صدى كبيرًا في كثير من البلدان، حيث أثبتت منظمة الصحة العالمية أن تسعة وسبعين بلداً نامياً، من أصل ثمانين بلداً تنخفض فيها معدلات التبرّع بالدم إلى أقلّ من 10 تبرّعات لكل ألف ساكن، وأن أربعين بلداً لا تزال تعتمد على المتبرعين من أفراد أسر المرضى.
قال تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) [المائدة: 2].
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل". مسلم.
فاللهم لا تدع لنا مريضًا إلا شفيته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا ذنبًا إلا غفرته، ولا دينًا إلا قضيته، ولا هماً إلا فرجته، ولا مبتلى إلا عافيته، ولا عسيراً إلا يسرته، ولا كرباً إلا نفسته، ولا حاجة من حوائج الدنيا والآخرة إلا يسرتها يا رب العالمين.
اللـهم إن أردت بالناس فتنة فاقبضنا إليك غير خزايا ولا مفتونين، ولا مغيرين، ولا مبدلين.
التعليقات