عناصر الخطبة
1/ الاجتماع والائتلاف مطلبٌ ضروريٌّ 2/ الاختلاف ليس سببًا في التفرق 3/ مفاسد التفرق ومضاره على الأمة 4/ واجبات الإعلام المسلم 5/ الحذر من إهدار كرامة من ارتضته الأمة زعيمًا 6/ ضرورة التحلي بآداب الاختلاف 7/ كلمة ونصيحة لحكام المسلميناهداف الخطبة
اقتباس
يتفقُ العُقلاءُ على أن الاجتماع والائتلافَ مطلبٌ ضروريٌّ، لا غِنى عنه لأمةٍ تريدُ الفلاحَ وتبغِي الصلاحَ، ومن هنا جاء الإسلامُ بالتأكيد على وحدة الصفِّ الإسلاميِّ، ورعاية التعاوُن على الخير والاتفاق والتآخي على جلبِ المنافعِ ودرءِ المفاسِدِ. ألا وإن ما تُعانيه الأمةُ اليوم بسببِ الأحداث الأخيرة التي لا تخفَى، كلُّ ذلك يتوجَّبُ على كل مسلمٍ مهما كانت مرتبتُه، وتنوَّعَت ثقافتُه، أن ..
الحمد لله وليِّ الصالحين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إلهُ الأولين والآخرين، وأشهد أن سيِّدنا ونبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه سيدُ الخلق أجمعين، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك عليه وعلى آله وصحبِهِ أجمعين.
أما بعد:
فيا أيها المُسلمون: (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102]؛ فمن اتَّقى الله وقاه من كلِّ شرٍّ ومن كل ضائِقةٍ، وجعلَ له مخرجًا.
أيها المسلمون: يتفقُ العُقلاءُ على أن الاجتماع والائتلافَ مطلبٌ ضروريٌّ، لا غِنى عنه لأمةٍ تريدُ الفلاحَ وتبغِي الصلاحَ، ومن هنا جاء الإسلامُ بالتأكيد على وحدة الصفِّ الإسلاميِّ، ورعاية التعاوُن على الخير والاتفاق والتآخي على جلبِ المنافعِ ودرءِ المفاسِدِ.
ألا وإن ما تُعانيه الأمةُ اليوم بسببِ الأحداث الأخيرة التي لا تخفَى، كلُّ ذلك يتوجَّبُ على كل مسلمٍ مهما كانت مرتبتُه، وتنوَّعَت ثقافتُه، أن يتَّقِي اللهَ -جل وعلا-، وأن تكون توجُّهاتُه مُنطلقةً من مبدأ ما يُجمِّعُ ولا يُفرِّقُ، وما يُؤلِّفُ ولا يُشتِّتُ، مهما وجدَ لذلك سبيلاً.
فالله -جل وعلا- يقول: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا) [آل عمران: 103].
إنه في ظلِّ حركات التغيير العاصِفةِ بالأمةِ اليوم فإنه يجبُ على أهل الحلِّ والعقدِ أن يرحَموا أمَّتَهم وشعوبَهم وبُلدانَهم من شقاء التفرُّق والتحزُّب، ومن الاختلافِ والتشرذُم؛ فالسعادةُ في اجتِماع الكلمةِ، والصلاحُ في وحدة الصفِّ، والرخاءُ في تماسُك المُجتمع المُسلم.
الله -جل وعلا- يقول: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ) [هود: 118، 119].
قال السلفُ في فهم هذه الآية: "فأهلُ الرحمةِ لا يختلِفون اختلافًا يضُرُّهم، وإلا فمتى قادَ الاختلافُ إلى التحزُّبِ والتنابُز فهذا سببٌ لطرد المُختلفين عن رحمة الله دُنيا وأُخرى".
الاختلافُ لا يكونُ في الإسلام سببًا للتفرُّق، ولا سبيلاً للعداوة. الاختلافُ لا يكونُ في الإسلام سببًا لتهديد الوَحدة ولا شلِّ حركة المُجتمع والحياة؛ بل الاختلافُ -عند الضرورة إليه- ظاهرةٌ صحيَّةٌ يجبُ أن يقودَ إلى البحث عن كل وسيلةٍ لترجيحِ الآراء فيما يجلبُ المصالحَ ويدرأُ المفاسِدَ، فبذلك يتحقَّقُ رِضا الله -جل وعلا- على المُجتمع؛ لأنه يحصُلُ بذلك الأُلفة والاجتماعُ، وتُنبَذُ الفُرقةُ والنِّزاعُ.
قال -صلى الله عليه وسلم-: "إن اللهَ يرضَى لكم ثلاثًا..."، وذكرَ منها: "وأن تعتصِموا بحبل الله جميعًا ولا تفرَّقُوا". رواه مسلم.
البركةُ في بُلدان المُسلمين، وظهورُ الخيرات في مُجتمعاتهم لا يحصُل إلا بالتنازُل عن الآراء للاجتماع والاتِّحاد، وصدقَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- فيما رُوِي عنه: "البركةُ في ثلاثة..."، وذكرَ منها: "الجماعة".
فيا معاشر المُسلمين: إياكم والتفرُّقَ والخِصامَ، واحذَروا التحزُّبَ وعدمَ الوِئام؛ فربُّنا -جل وعلا- يقول: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [الأنفال: 46].
وفي منظومةِ عقائد المُسلمين: أن الجماعةَ حقٌّ وصوابٌ، والفُرقةَ زيغٌ وعذابٌ.
فيا مَن تجتهِدون لمصالحِ الأمةِ باجتِهادٍ ترونَه صوابًا: حمِدَ اللهُ صنيعَكم، ولكن حينَما يُخالِفُ رأيُكم الجماعةَ فاعلَموا أن مصالحَ الوَحدة ومنافعَ الاجتِماع تفوقُ بأضعافٍ المفاسِدَ التي تنشأُ عن الافتِراقِ والاختِلافِ والشُّذوذِ والتمسُّك بالآراء.
قال شيخُ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله، وقد عاصرَ الاختلافَ والافتراقَ في الأمة-: "وإذا تفرَّقَ القومُ فسَدوا وهلَكوا، وإذا اجتَمعوا صلَحوا وملَكوا؛ فإن الجماعةَ رحمةٌ، والفُرقةَ عذابٌ".
فيا أهلَنا في مصرَنا العزيزة، ويا أحبابَنا في فلسطين، وفي تونس، وفي ليبيا، وفي اليمن، وفي جميع بُلدان المُسلمين التي أصابَها القلاقِل، وأحاطَت بها الفتن: عُودوا إلى وَحدة الصفِّ واجتِماع الكلمة، احذَروا التفرُّقَ بكل أشكاله، والتنازُع بشتَّى صُوره، تصافَوا وتحاوَروا، افتَحوا جُسور التواصُل لحلِّ كل مشكلةٍ تُوجِبُ التنازُع؛ فالإسلامُ جعل الشُّورَى مبدأً من المبادئِ التي تصلُحُ بها حياةُ الجماعة، وجعل أسلوبَ الحوار سببًا للوُصول للنتائج الطيبة.
فمع السعيِ والإرادة الحسنةِ والمقاصِد الطيبةِ يجمعُ اللهُ الشَّتاتَ، ويُؤلِّفُ القلوبَ.
اسلُكوا الأساليبَ الجميلةَ في الإقناع والمُحاورة، تمثَّلوا وأنتم تُدلُون بآرائكم أنكم من تلامِذة محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- الذي أضاءَت وصلُحَت واستنارَت بمسالِكِه وبسُنَّته الدُّنيا.
الله -جل وعلا- يقول لكم: (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [الإسراء: 53]؛ أي: أن يقولوا كلَّ كلمةٍ طيبةٍ. ثم قال الله -جل وعلا- في تعليلِ ذلك: (إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ) [الإسراء: 53].
الواجبُ على الإعلام المُسلم: السعيُ بما يُطفِئُ الفتن، ويُجنِّبُ إغارةَ الصدور، والبُعد عما يُسبِّبُ العداوةَ والبغضاءَ بين أبناء أمةِ محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-؛ فلا خيرَ في الجدل الباطل، ولا نفعَ في اللَّغَطِ واللَّغوِ والتحاليل التي لا تُبنَى على براهين عقليَّة، ولا نُقولٍ صحيحةٍ، ولا أدلةٍ شرعيَّةٍ.
فكفَى الأمةَ ما أصابَها من تفرُّقٍ ونِزاعٍ وشَتاتٍ جلبَ لها العارَ، وولَّدَ لها الدمارَ.
ولنعلَم أنه لا معصومَ من حاكمٍ ومسؤولٍ إلا الأنبياءُ؛ فالبشرُ مُعرَّضون للجهل وللهوى وللزَّلَل، ولكن مع التشاوُر بنوايًا حسنةٍ يجعلُ الله بعد الفُرقةِ أُلفةً، وتصلُحُ الأحوالُ، وتسعَدُ المُجتمعاتُ؛ فالنقدُ الهادِفُ مطلبٌ حضاريٌّ، والبيانُ الناصحُ ضرورةٌ دينيَّةٌ، وعلى أمةِ الإسلام أن تستلهِمَ من مبادئ دينِها ونُصوص شريعتِها ما ينشُرُ بين أبنائِها من ثقافة الإصلاح، ثقافة احتِرام الأكابِر من حُكَّامٍ وعُلماء ووُجهاء.
قال سعيدُ بنُ المُسيَّبِ -وهو من مدرسة الصحابة-: "ليس من شريفٍ ولا عالِمٍ ولا ذي فضلٍ إلا وفيه عيبٌ، ولكن من الناس من لا ينبغي أن تُذكَر عيوبُه؛ فمن كان فضلُه أكثرَ من نقصِه وُهبَ نقصُه لفضلِه".
والحذَر -أيها المُسلمون- من أن تُهدَر مكانةُ من رضِيَه المُسلِمون للزَّعامة؛ فذلك مما يفتحُ شرًّا عظيمًا، ويُولِّدُ فسادًا عريضًا، وما أعظمَها عند الله -أيها المُسلِمون-، ما أقبحَها في شرعِه أن يتولَّد بين أبناء المُسلمين عند الاختِلاف في أمور الدنيا إزهاقُ الأرواح، وكثرةُ الجِراح، وإفسادُ الأموال والمقدَّرات.
أليس لكم قرآنٌ يحكُم مسالِكَكم؟! أليس لكم نبيٌّ عظيمٌ بيَّن لكم كل ما تصلُحُ به أحوالُكم في الدنيا والآخرة؟!
فتلك المسالِكُ التي تخرجُ عن سبيل الوحيَيْن مسالِكُ شيطانية، وسُبُلٌ عدوانيةٌ، لا يُقِرُّها شرعٌ مُطهَّرٌ، ولا تتماشَى مع حضارةٍ فاضلةٍ، ومُجتمعاتٍ راقِيةٍ.
يقول -صلى الله عليه وسلم-: "لا ترجِعوا بعدي كُفَّارًا يضرِبُ بعضُكم رِقابَ بعضٍ". فأين أبناء الأمةِ من هذه التوجيهات العظيمة؟!
يا أبناء الإسلام: حينما يشيعُ نزاعٌ تبدأُ منه بوادِرُ الافتِراق؛ فعلى العُقلاء من الحُكَّام والعلماء والمُثقَّفين والمُفكِّرين أن يسعَوا بكل وسيلةٍ للإصلاح ورأبِ الصَّدع، وتذكَّروا واجِبَكم: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) [الحجرات: 10].
فما الذي يجعلُ المُسلمين أمامَ العالَم مُتفرِّقين ومُتنازِعين، وقد فُرِضَ عليهم في دينهم -فرضًا جازِمًا- أن يتوحَّدوا على الوحيَيْن، وأن تجمعُهم سُنَّةُ سيد الثَّقَلَيْن -عليه أفضلُ الصلوات والتسليم-.
إخوة الإسلام: من مبادئ الشريعةِ: الدعوةُ لسماعِ وجهةِ الآخر، والاختِلافُ في رأيٍ لا يُفسِدُ في قانون الشريعة مبدأَ الاجتِماع والاتِّحاد، وإلا فهل يعلمُ العالَم أن أولَ من سبقَ إلى التأليف في فقهِ الاختِلاف وأدبِ الجدلِ والمُناظرة هم علماءُ الإسلام؟! بل وألَّفُوا في آداب الاختلافِ ما أبهَرَ العقولَ البشريَّةَ جمعاء.
فيا أبناء الإسلام: لم يكن العُنفُ بأشكاله المُتعدِّدة القولية والفعلية سبيلاً لإدارة حِوارٍ، أو طريقًا لإنهاء اختِلافٍ؛ فأساليبُ الفُحش والدَّهاء والتآمُر لا تُولِّدُ إلا شرًّا ودمارًا وفسادًا لا يُقِرُّه الإسلامُ البَتَّة.
معاشر المُسلمين: إن أيَّ مُجتمعٍ إسلاميٍّ لا بُدَّ أن يقعَ له من الأزَمات والصُّعوبات ما يستوجِبُ اختلافَ وجهات النظر، ولكن عندما يحلُّ الانفِعال والتعصُّب محلَّ العقلِ الراجحِ؛ فإن أيَّ حوارٍ حينئذٍ سيسيرُ به الهوى إلى تهاتُرٍ وسِبابٍ، وتراشُقٍ بالشِّعارات، وانتِصارٍ للاتِّجاهات، فحينئذٍ تقعُ داهِيةُ التفرُّق والتنافُر، فتنطلقُ وقتَها حملاتُ التشهير والافتراق؛ فيُصبِحُ الخِلافُ في الرأي حينئذٍ انشِقاقًا مذمومًا في الإسلام، يستحِلُّ حينئذٍ معه الحوارُ البنَّاءُ المُثمِرُ صلاحًا وإصلاحًا.
فأين أهلُ الإسلام من توجيهاتِ القُرآن؟! (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) [آل عمران: 159].
فيا تُرى متى يستلهِمُ المُسلِمون -على شتَّى مُستوياتهم- الآدابَ الإسلاميَّةَ؟! فتكونُ اختِلافاتُهم تُدارُ بنفوسٍ مُطمئنَّةٍ مُخلِصةٍ، تُدلِي بآرائها وفقَ رأي منطقيٍّ يستنِدُ إلى البراهين، مُستمِعةً لرأي الآخر علَّهُ يجِدُ تصحيحًا لرأيِه بما يحصُلُ معه الخيرُ للجميع.
يقول الشافعيُّ -رحمه الله-: "ما ناظرتُ أحدًا -أي: ما جادَلتُ أحدًا- إلا سألتُ اللهَ -جل وعلا- أن يجعلَ الصوابَ على لسانه".
فأين هذا ممن ينطلقُ -بادِئَ ذي بدءٍ- على أن المُخالِفَ هو عدوُّه الألدُّ، وخصمُه المُبطِل؟!
فيا أيها المسلمون: برهِنوا للعالَم بمسالِكِكم أنه لا يستقيمُ غِلظَةٌ وشِدَّةٌ وعُنفٌ مع المُخالِفِ في الرأي في مبادئ الإسلام وتشريعاته، وإلا فقد جنيتُم على الإسلام، والويلُ لكم حينئذٍ!
الإسلامُ جاء بالرِّفقِ في القول والفعلِ؛ فهو قاعدةٌ كُبرى في الدين. العدلُ والإنصافُ أصلٌ من الأصول العُظمى، الأدبُ واللِّينُ والتواضُع مبدأٌ من المبادئ الكُبرى في الإسلام؛ فمع نيَّةٍ صادقةٍ، وإخلاصٍ باطنٍ، وتحقيقٍ لمبدأ الشُّورى وفقَ مُناقشاتٍ منطقيَّةٍ، وحواراتٍ بنَّاءةٍ، وقُدرةٍ على اختِيار البديل من الآراء المطروحة يصِلُ أهلُ الإسلام إلى ما فيه الخيرُ لبُلدانهم وأهلِهم وشُعوبهم.
وحينئذٍ بعد ذلك؛ فعلى المُجتمع التسليمُ بقرارات ذوي الحلِّ والعقدِ استِجابةً لقول المولَى: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) [آل عمران: 159].
ولنعلَم أن الأجرَ يعظُم والمكانةَ ترتفعُ حينما تكونُ -أيها المسلم- سببًا لجمع الكلمة، وتوحيد الصفِّ.
ألا يتذكَّر المُسلِمون عام الجماعة؟! حينما تنازلَ الحسنُ -وهو سيدُ شباب أهل الجنة- لمُعاوية -رضي الله عنه-، فسُمِّي عام الجماعة، سعِدَ الناسُ وحصُل لهم الرَّغَدُ والاستِقرارُ.
وليتذكَّروا أن القدسَ ما استُرِدَّ من احتلال الصليبيين إلا حينما وحَّد صلاحُ الدين مصر مع الشام، وما حصَلَت النُّصرةُ للمُسلمين -بعد إذن الله جل وعلا- إلا حينما توحَّدَت الموصِلُ وحلبُ في عهد عماد الدين زَنكي، وحينما توحَّد جميعُ الشام في عهد نور الدين محمود؛ فالتاريخُ أكبر عِبرة، وأعظمُ واعِظ.
إخوة الإسلام: إن تخلُّصَ المُسلمين من شبَح الاستِبدادِ والقمعِ على السبيل السياسيِّ، وإن نجاتَها من المُستوى المُنحَطِّ اقتصاديًّا، وإن خلاصَها من انتِشار التحلُّل والفساد الأخلاقيِّ اجتماعيًّا، كلُّ ذلك لا يكونُ إلا حينما تتَّحِدُ كلمتُها على التعاوُن المُنطلِق من الوحي الإلهي، والتعليم النبوي، وحينما يجتمعُ صفُّها على المُشاركة البنَّاءة في سبيل الإصلاح الشامل لكلِّ ما يُحقِّقُ لها الرَّخاءَ والاستِقرارَ والأمنَ والاطمئنان، (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) [المائدة: 2].
بارك الله لي ولكم فيما سمِعنا، أقول هذا القول، وأستغفرُ الله لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفِروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
أحمدُ ربي وأشكرُه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه.
أيها المسلمون: إننا في بلاد الحرمين -بحمد الله- في ظلِّ بناءِ هذه البلادِ على التوحيد وتحكيم الإسلام، نعيشُ في أمنٍ وأمانٍ واستِقرارٍ ووَحدة صفٍّ واجتِماعِ كلمةٍ.
فعلى أهل هذه البلاد أن يتَّقُوا اللهَ -جل وعلا-، وأن يُحافِظوا على هذه النِّعَم التي لا يعرِفُ كبيرَ قدرها إلا من اكتوَى بفقدِها. احرِصوا على بلادِكم؛ فهي بلادُ جميع المُسلمين الذين يفِدون للحرمين الشريفين. إياكم ودُعاةَ التفرُّق والُنادِين بالتحزُّب. على كل مسؤولٍ من أميرٍ أو وزيرٍ أو مُديرٍ أن يتَّقِي اللهَ -جل وعلا-، وأن يعلمَ أنه نائبٌ عن وليِّ الأمر، وهي أمانةٌ عظيمةٌ، فليُعطِ لجميع المُجتمع حظَّه من العناية والاهتِمام، وليحرِص على أن يصِلَ كلٌّ إلى حقِّه.
وعلى هؤلاء المسؤولين -المُلقاة عليهم المسؤولية من الله جل وعلا أولاً، ثم من وليِّ الأمر ثانيًا، ثم من المُجتمع ثالثًا- أن يتَّقُوا اللهَ، وأن يُظهِروا للمُجتمع الصورةَ المُشرِقةَ التي أرادها وليُّ الأمر منهم؛ من خدمةِ كلِّ مواطنٍ ومُقيمٍ، وأن يُؤدُّوا الأمانةَ حقَّ أدائِها، وأن يجتهِدوا لجمع الكلمة، وأن يحرِصوا على أن لا يكونوا بعملهم وتفريطِهم في مسؤولياتهم سببًا للشيطان بإغواء شبابنا.
فلقد حرِصَ خادمُ الحرمين الشريفين في كلِّ مواقفِهِ على أبنائِه المُواطنين ورِعاية مصالِحهم، وتفقُّد أحوالهم، وسدِّ حاجاتهم. وذلك واجبٌ دينيٌّ.
فمن ضيَّع هذه المقاصِد من وزيرٍ مُولَّى، أو مسؤولٍ مُعيَّنٍ؛ فقد سعَى في أسباب الفتن، وكان نذيرَ شرٍّ، وداعيةَ فسادٍ ينبغي مُساءلتُه، وتطبيقُ ما يستحقُّ في شرع الله بسبب خيانتِه وتفريطِه.
فبلادُنا غاليةٌ، ووَحدة صفِّها واجتِماعُ كلمةِ أبنائِها مقصِدٌ عظيمٌ وهدفٌ كبيرٌ. فعلينا أن نُحقِّقَ قولَه -صلى الله عليه وسلم-: "لا يُؤمِنُ أحدُكم حتى يُحبَّ لأخيه ما يُحبُّ لنفسه".
يا حُكَّام المُسلمين: اتَّقوا اللهَ -جل وعلا- في شُعوبِكم، تفقَّدوا أحوالَهم، راعُوا مصالِحَهم، اغنُوهم عن العوَز والحاجة والفقر، ارفُقوا بهم، لِينُوا لهم، وَلُّوا عليهم أهلَ الصلاح والتَّقوَى، احذَروا بِطانةَ السُّوء -يا حُكَّامَ المُسلمين-؛ فهم سببُ كل خرابٍ ودمارٍ، وشواهِدُ التاريخ أكبرُ عِبرةٍ.
اجمَعوا -أيها الحُكَّام- كلمةَ المُسلمين، ولا تُفرِّقُوا بين وَحدة الصفِّ، لا تكونوا سببًا للتفرُّق والاختِلاف، ليكُن القضاءُ على البَطالة همَّكم الأكبر، وشُغلَكم الأعظم بعد الحِفاظ على الدين، والأمر بالمعروف، والنهي عن المُنكَر؛ فالبَطالةُ مهلَكةُ الشعوب، وسببُ الفتن والثورات والقلاقِل والفتن.
سدَّد الله خُطاكم على الخير، ووفَّقَكم للبرِّ والتقوى.
أيها المُسلمون: إن الله -جل وعلا- أمَرَنا بأمرٍ عظيمٍ، ألا وهو: الصلاةُ والسلامُ على النبي الكريم، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك وأنعِم على نبيِّنا ورسولِنا وحبيبِنا محمدٍ، وارضَ اللهم عن الصحابةِ أجمعين، وعن الآل ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
اللهم أصلِح أحوالَ المسلمين، اللهم اجمَع كلمتَهم، اللهم اجمَع كلمتَهم، اللهم وحِّد صفَّهم، اللهم وحِّد صفَّهم.
اللهم اجمَع كلمةَ المُسلمين في مصر، اللهم اجمَع كلمةَ المُسلمين في فلسطين، اللهم اجمَع كلمةَ المُسلمين في ليبيا، وفي تونس، وفي اليمن، وفي سائر بُلدان المُسلمين.
اللهم فرِّج هُمومَ إخواننا في سُوريا، اللهم اجعل لهم من كلِّ ضيقٍ مخرَجًا، ومن كلِّ همٍّ فرَجًا، اللهم يا حي يا قيوم، اللهم يا ذا الجلال والإكرام، نسألُك أن تكتُب السعادةَ والصلاحَ والخيرَ لجميع بُلدان المُسلمين.
اللهم اغفر للمُسلمين والمُسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات.
التعليقات