عناصر الخطبة
1/شدة الموت وأهواله وسكراته 2/خروج الناس يوم القيامة من قبورهم 3/ بعض أهوال يوم القيامة 4/الحساب والميزان 5/الصراط 6/الناراهداف الخطبة
اقتباس
أذكرك بصرعة الموت لنفسك، ونزعه لروحك، وكربه وسكراته، وغصصه وغمه. أذكرك -يا أخي- إذا جاءك ملك الموت، لجذب الروح من قدميك، ثم الاستمرار لجذب الروح من جميع بدنك، حتى إذا بلغ منك الكرْب والوجع منتهاه، وعمت الآلام جميع بدنك، وقلبك وجل محزون، منتظر إما البشرى من الله بالرضا، وإما...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الواحد القهار، العزيز الغفار، مقدر الأقدار، ومصرف الأمور على ما يشاء ويختار، ومكور الليل على النهار.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الواحد الأحد، الفرد الصمد، لم يلد ولم يولد، أيقظ من خلقه ما يشاء، فأدخله في جملة الأخيار، ووفق من عبيده فجعله من الأبرار، وبعّد من أحبه من خلقه فزهدوا في هذه الدار، واجتهدوا في مرضاته والتأهب لدار القرار.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وعلى أصحابه، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
عباد الله...
يقول الله -تعالى- في محكم كتابه العزيز: (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ)[الذاريات: 55].
وقال سبحانه: (فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى)[الأعلى: 9- 10].
أذكر نفسي المقصرة أولاً، ثم أذكرك -أخي المسلم-.
أذكرك بصرعة الموت لنفسك، ونزعه لروحك، وكربه وسكراته، وغصصه وغمه.
أذكرك -يا أخي- إذا جاءك ملك الموت، لجذب الروح من قدميك، ثم الاستمرار لجذب الروح من جميع بدنك، حتى إذا بلغ منك الكرْب والوجع منتهاه، وعمت الآلام جميع بدنك، وقلبك وجل محزون، منتظر إما البشرى من الله بالرضا، وإما بالغضب.
فبينما أنت في كربك وغمومك، وشدة حزنك لارتقابك إحدى البشريين، إذ سمعت صوته إما بما يسرك وإما بما يغمك.
أذكرك -يا أخي- بنـزولك القبر، وهول مطلعه، ومجيئ الملكين منكر ونكير، وسؤالهما لك في القبر عن ثلاثة أسئلة: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟.
تصور أصواتها عند ندائهما لك، لتجلس لسؤالهما لك، وتصور جلستك في ضيق قبرك، وقد سقط الكفن عن حقويك، والقطن من عينيك وأذنيك، ثم تخيّل شخوصك ببصرك إليهما، وتأملك لصورتيهما، فإن رأيتهما بأحسن صورة أيقن قلبك بالفوز والنجاة والسرور، وإن رأيتهما بأقبح صورة، أيقنت بالخسارة والهلاك.
تفكر في مشيبك والمآب *** ودفنك بعد عزك في التراب
إذا وافيت قبراً أنت فيه *** تقيم به إلى يوم الحساب
وفي أوصال جسمك حين تبقى *** مقطعة ممزقة الإهاب
خلقت من التراب فعدت حياً *** وعُلمت الفصيح من الخطاب
وعدت إلى التراب فصرت فيه *** كأنك ما خرجت من التراب
أخي المسلم: كيف يكون شعورك، إذا ثبتك الله -جل وعلا- ونظرت إلى ما أعدّ الله لك، تصور فرحك وسرورك بما تعاينه من النعيم، وبهجة الملك.
وإن كانت الأخرى -نسأل الله السلامة والعافية- فتصور ضد ذلك من انتهارك، ومعاينتك جهنم، وقولها لك، هذا منـزلك ومصيرك، فيا لها من حسرة، ويا لها من ندامة، ويا لها من عثرة لا تقال!.
ثم بعد ذلك الفناء والبلاء، حتى تنقطع الأوصال، وتتفتت العظام، حتى إذا تكاملت عدة الأموات، وقد بقي الجبار منفرداً بعظمته وجلاله وكبريائه، ثم لم يفجأك إلا نداء المنادي للخلائق للعرض على الله -جل وعلا-: (وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ * يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ)[ق: 41- 42].
عندها يأمر الله ملكاً أن ينادي أيتها العظام البالية، والأوصال المتقطعة، إن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء.
تصور وقوع الصوت في سمعك ودعائك للعرض على مالك الملك، فيطير فؤادك، ويشيب رأسك للنداء؛ لأنها صيحة واحدة للعرض على الرب -جل وعلا-: (فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ * فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ)[النازعات: 13- 14].
فبينما أنت في فزع من الصوت إذ سمعت بانشقاق الأرض، فخرجت مغبراً من غبار قبرك قائماً على قدميك، شاخصاً ببصرك نحو النداء: (يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ)[ق: 44].
وقال تعالى: (خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ)[القمر: 7].
فتصور تعريك ومذلتك وانفرادك بخوفك وأحزانك وهمومك، في زحمة الخلائق خاشعة أبصارهم, وأصواتهم ترهقهم ذلة: (وَخَشَعَت الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا)[طـه: 108].
ثم تصور إقبال الوحوش من البراري، منكسة رؤوسها لهول يوم القيامة، فبعد توحشها من الخلائق، ذلت ليوم النشور: (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ)[التكوير: 5].
وتصور تكوير الشمس، وتناثر النجوم، وانشقاق السماء، من فوق الخلائق، مع كثافة سمكها، والملائكة على حافات ما يتفطر من السماء؛ كما قال تعالى: (وَانشَقَّتِ السَّمَاء فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ * وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ)[الحاقة: 16- 17].
وقال جل جلاله: (فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاء فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ)[الرحمن: 37].
فتصور وقوفك منفرداً عرياناً حافياً، وقد أدنيت الشمس من رؤوس الخلائق، ولا ظل لأحد إلا ظل عرش رب العالمين، فبينما أنت على تلك الحال، اشتد الكرب، واشتد الوهج من حر الشمس، ثم ازدحمت الأمم، وتدافعت وتضايقت، واختلفت الأقدام، وانقطعت الأعناق من شدة العطش والخوف، وانضاف إلى حر الشمس كثرة الأنفاس، وازدحام الأجسام، ولا نوم ولا راحة، وفاض عرقهم إلى الأرض حتى استنقع ثم ارتفع إلى الأبدان، على قدر مراتبهم ومنازلهم عند ربهم، بالسعادة والشقاوة.
ثم جيء بجهنم تقاد، ولها سبعون ألف زمام، ومع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها: (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى)[الفجر: 23].
فلا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل، إلا جثا على ركبتيه، يقول: يا رب نفسي نفسي، فتصور ذلك الموقف المهيل المفزع، الذي قد ملأ القلوب رعباً وخوفاً، وقلقاً وذعراً، يا له من موقف ومنظر مزعج.
وأنت -أخي المسلم- بالتأكيد تكون أحدهم، فتوهم نفسك لكربك، وقد علاك العرق والفزع والناس معك منتظرون لفصل القضاء إلى دار السعادة، أو إلى دار الشقاء.
تصور هذه الخلائق وهم ينادَون، كل واحد بنفسه: (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ)[النحل: 111].
وقال سبحانه: (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ)[عبس: 34- 37].
تصور نفسك وحالتك عندما يتبرأ منك الولد والوالد، والأخ والصاحب، لما في ذلك اليوم من المزعجات والقلاقل، ولولا هول ذلك اليوم، ما كان من الكرم والمروءة، أن تفر من أمك وأبيك، وأخيك وبنيك، لكن عظم الخطر وشدة الكرب، اضطرك إلى ذلك: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ)[الحـج: 1- 2].
فبينما أنت في تلك الحالة، مملوءً رعباً، وقد بلغت القلوب الحناجر من شدة الأهوال، إذ ارتفع عنق من النار، يلتقط من أمر بأخذه، فينطوي عليهم، ويلقيهم في النار فتبتلعهم.
ثم تصور الميزان وعظمته، وقد نصبت لوزن الأعمال، وتصور الكتب المتطايرة في الأيمان والشمائل، وقلبك مملوءً خوفاً، لا تدري أين يقع كتابك في يمينك أو في شمالك؟ (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا)[الإنشقاق: 7- 12].
(فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ)[الحاقة: 19- 21].
(وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ)[الحاقة: 25- 32].
ماذا فعل؟ وما كان جرمه؟
(إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ * لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِؤُونَ)[الحاقة: 33- 37].
فيا لها من مواقف، ويا لها من أهوال، إن مجرد تصور هذه الأمور يبكي المؤمن منها حقاً؛ عن الحسن -رضي الله عنه-أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان رأسه في حجر عائشة -رضي الله تعالى عنها-، فنعس، فتذكرت الآخرة فبكت، فسالت دموعها على خد النبي -صلى الله عليه وسلم-، فاستيقظ بدموعها، فرفع رأسه، فقال: "ما يبكيك؟" فقالت: يا رسول الله، ذكرت الآخرة، هل تذكرون أهليكم يوم القيامة؟ قال: "والذي نفسي بيده في ثلاثة مواطن، فإن أحداً لا يذكر إلا نفسه: إذا وُضعت الموازين، ووزنت الأعمال حتى ينظر ابن آدم أيخف ميزانه أم يثقل، وعند الصحف حتى ينظر أبيمينه يأخذ أم بشماله، وعند الصراط".
تصور -أخي المسلم- بينما أنت واقف مع الخلائق الذين لا يعلم عددهم إلا الله -جل وعلا وتقدس-، إذ نودي باسمك على رؤوس الخلائق من الأولين والآخرين: أين فلان بن فلان؟ هلم إلى العرض على الله -عز وجل-؟
فقمت أنت لا يقوم غيرك، فقمت ترتعد فرائصك، وتضطرب رجلاك، وقلبك مرتفعٌ إلى الحنجرة: (وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ)[غافر: 18].
فيا له من يوم، قال الله -جل جلاله- عنه: (فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا)[المزمل: 17].
تصور نفسك وبيدك صحيفة، مُحّص فيها الدقيق والجليل، لا تغادر صغيرة ولا كبيرة، فقرأتها بلسان كليل وقلب منكسر، وداخلك من الخجل والجبن والحياء من الله، فبأي لسان تجيبه حين يسألك عن قبيح فعلك، وعظيم جرمك وبأي قدم تقف غداً بين يديه؟ وبأي طرف تنظر إليه؟ وبأي قلب تحتمل كلامه العظيم وتوبيخه؟ فكم من كبيرة قد نسيتها أثبتها عليك الملك؟ وكم من بلية أحدثتها فذكرتها؟ وكم من سريرة قد كنت كتمتها، قد ظهرت وبدت؟
فيا حسرة قلبك، وتأسفك على ما فرطت في طاعة ربك: (أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ)[الزمر: 56].
وقال تعالى: (وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ)[مريم: 39].
فاتقوا الله -أيها المسلمون-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر:18]
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه...
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه...
أما بعد:
عباد الله: ورد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "ليقفنّ أحدكم بين يدي الله-تبارك وتعالى- ليس بينه وبينه حجاب يحجبه، ولا بينه وبينه ترجمان يترجم عنه، فيقول: ألم أنعم، ألم آتك مالاً، فيقول: بلى، فيقول: ألم أرسل إليك رسولاً، فيقول: بلى، ثم ينظر عن يمينه فلا يرى إلا النار، ثم ينظر عن شماله فلا يرى إلا النار، فليتق أحدكم النار، ولو بشق تمرة، فإن لم يجد فبكلمة طيبة"[رواه البخاري].
فأعظم به من موقف، وأعظم به من سائل.
أيها المسلمون: ثم هناك الصراط، وهو الجسر المنصوب على متن جهنم، أدق من الشعر وأحد من السيف، فكيف بك -يا أخي- لو نظرت إليه بدقته، وجهنم تضطرب، وتتغيض بأمواجها من تحته، فيا له من منظر ما أفظعه، ويا له من مشهد ما أهوله، ثم قيل لك وأنت تنظر إلى الجسر: اركب يا فلان بن فلان، فتصور حالتك، وخفقان قلبك، ورجفان جسمك، ولما قيل لك: اركب، طار عقلك رعباً وخوفا، ثم إذا رفعت رجلك وأنت تنتفض لتركب الصراط، فوقع قدمك على حدته ودقته، فازداد فزعك، وازداد رجفان قلبك، ورفعت رجلك الأخرى، وأنت مضطرب، وقد أثقلتك الأوزار، وأنت حاملها على ظهرك، وأنت تنظر إلى الناس يتهافتون في النار من بين يديك، ومن خلفك، فتصور مرورك عليه بضعفك وثقلك وأوزارك، وقلة حيلتك وأنت مندهش مما تحتك وأمامك، ممن يسقطون وقد تنكّست هاماتهم، وارتفعت أرجلهم، وآخرون يُتخطفون بالكلاليب، وتسمع العويل والبكاء بأذنيك، والأصوات المزعجات بين ناظريك.
فيا له من منظر ما أفظعه، ومرتقىً ما أصعبه، ومجاز ما أضيقه، ومكان ما أهوله، وموقف ما أعظمه.
تفكر في حالك -يا أخي- بعقلك ما دمت على قيد الحياة قبل أن يحال بينك وبينه، لعلك أن تتلافى تفريطك، وكلنا مفرط، وتحاسب نفسك، وكلنا مقصر، فيفوت الأوان، وتبوأ بالخيبة والحرمان، فكيف بك إذا بُؤت بالخسران، وزلّت رجلك عن الصراط، ووقعت فيما كنت تخاف منه، فلم تشعر إلا والكلاليب قد دخل في جلدك ولحمك، فجذبت به، وسمعت لنداء النار بقوله -عز وجل-: (هَلِ امْتَلَأْتِ)[ق: 30].
وسمعت إجابتها له: (هَلْ مِن مَّزِيدٍ)؟
وهي تلتهب في بدنك، لها قصيف في جسدك، ثم لم تلبث أن تَمزّقَ جسمك، وتساقط لحمك، وبقيت عظامك.
ثم كيف بك إذا سقيت من شراب أهل النار -والعياذ بالله-، كلما قربته إلى فمك لتشرب، شوى وجهك، وتساقط لحمه، ثم تجرعته فسلخ حلقك ثم وصل إلى جوفك، فقطع أمعاءك؛ كما قال سبحانه: (وَسُقُوا مَاء حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ)[محمد: 15].
وقال تعالى: (مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِن مَّاء صَدِيدٍ)[إبراهيم: 16].
تصور هذه حالتك، وتزداد عذاباً، لو تذكرت الجنان وما فيها من النعيم المقيم، والعيش السليم، فهاجت غصة في فؤادك، على ما فاتك من رضى الله -عز وجل-، وحزناً على نعيم الجنة، فكيف بك لو تذكرت بعض أقاربك وأصدقائك وقد منّ الله عليهم بدخول الجنة، فزادك ذلك حسرةً وأسفا؟
قال الله -تعالى-: (وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ)[الأعراف: 50].
فيا خيبة من هذا حاله، وهذا مآله.
تصور نفسك كلما أردت أن تنطق بكلمة جاءك الجواب: (اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ)[المؤمنون: 108].
وأشد منها حسرة حين تسمع وقع أبوابها، وقد أطبقت على أهلها: (إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ * فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ)[الهمزة: 8- 9].
عند ذلك يعلم أهل النار أن لا فرج ولا مخرج، ولا محيص لهم من عذاب الله، خلود فلا موت، أحزان لا تنقضي، وهموم لا تنتهي، وسقم لا يبرأ، وقيود لا تُحل، وأغلال لا تُفك؛ كما قال تعالى: (إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ)[غافر: 71].
وقال تعالى: (هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ)[الحـج: 19- 20].
لا يُرحم بكاؤهم، ولا يجاب دعاؤهم، ولا تقبل توبتهم، ولا تقال عثرتهم، وهم ينادُون بالويل والثبور، ويصرخون بالبكاء والعويل؛ كما قال سبحانه: (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ)[فاطر: 37].
وقال تعالى: (وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا)[الفرقان: 13].
فنظرت إلى النار وهي تشتعل في أجزاء بدنك، تدخل أذنيك وعينيك، ولا تقدر على إبعادها عنك: (إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا * إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا)[الفرقان: 65- 66].
فاتقوا الله -أيها المسلمون-، ضعوا في بالكم هذه الأهوال والعظائم بعقل واعٍ، وعزيمة صادقة، فإنها حقائق لا خيال، وراجعوا أنفسكم ما دمتم على قيد الحياة، وتوبوا إلى الله توبة نصوحا، وابكوا من خشية الله لعله أن يرحمكم، ويقيل عثرتكم، فإن الخطر عظيم، والبدن ضعيف، والنار محرقة، والموت قريب.
مثل لنفسك يوم الحشر عريانا *** مستعطفاً قلق الأحشاء حيرانا
النار تزفر من غيظٍ ومن حنقٍ *** على العصاة وتلق الرب غضبانا
اقرأ كتابك يا عبدي على مهلٍ *** وانظر إليه ترى هل كان ما كانا
لمّا قرأتُ كتاباً لا يغادر لي *** حرفاً وما كان في سرٍ وإعلانا
قال الجليل خذوه يا ملائكتي *** مُرّوا بعبدي إلى النيران عطشانا
يا رب لا تخزنا يوم الحساب ولا *** تجعل لنارك فينا اليوم سلطانا
اللهم إنا نعوذ من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال.
اللهم إنا نسألك الجنة، وما قرب إليها.
اللهم وأبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر.
اللهم رحمة اهد بها قلوبنا، واجمع بها شملنا، ولمَّ بها شعثنا، ورد بها الفتن عنا.
اللهم صل على محمد ...
التعليقات