عناصر الخطبة
1/تأملات في قصة بناء البيت الحرام 2/الأمن والاستقرار أساس بقاء المجتمعات 3/أسس الأمن الحقيقي للمجتمعات 4/الأمن والأمان في مكة والمملكة 5/إتمام نسك الحج.اقتباس
فَكيفَ يستَطيعُ الإنسانُ الاطمِئنانَ في العِبادةِ والطَّاعاتِ، إذا كانَ الخَوفُ يُحيطُ بِهِ من كُلِّ الجِهاتِ، وكيفَ يهنأُ في عَيشٍ أو رِزقٍ أو عافيةٍ، وهو لا يأمنُ عَلى نَفسِه وأهلِه ومَالِه، واسألوا مَن فَقَدَ هذِهِ النِّعمةَ الكُبرى، عَن السَّعادةِ والآمالِ والنِّعَمِ الأُخرى، يُجِيبونَكم بِدَمعِ العَينِ: ذَهبَ معَ الأمنِ، كُلُ طَعمِ الحياةِ....
الخُطْبَةُ الأُولَى:
الحَمدُ للهِ الذي لَهُ المَحَامدُ فَمنْ ذا يُحيطُ بحَمدِهِ، والشُّكرُ لَه والفضلُ، فَكُلُّ النِّعمِ مِنْ عِندِهِ، اللهمَّ لَكَ الحَمدُ بمَا رَزقتَنا وهَديتَنا، لَكَ الحَمدُ بما أَنعمتَ بِهِ عَلينا في قَديمٍ أو حَديثٍ، أو سِرٍّ أو عَلانيةٍ، أو عَامةٍ أو خَاصةٍ.
اللهمَّ لك الحمدُ بَسطتَ رِزقَنا، وأَظهرتَ أَمنَنا، وجَمعتَ فُرقتَنا، وأَحسنتَ مُعافاتِنا، ومِنْ كُلِّ مَا سَألناكَ رَبَّنا أَعطيتَنا، فَلكَ الحَمدُ كَثيرًا كَما تُنعِمُ كَثيرًا.
وأَشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وَحدَهُ لا شَريكَ لَهُ، وأَشهدُ أَنَّ مُحمدًا عَبدُهُ ورَسولُهُ سَقانا اللهُ من حَوضِهِ ووِردِه، وصلَّى اللهُ وسَلَّمَ وبَارَكَ عَليهِ وعَلى آلِهِ الطَّيبينَ الطَّاهرينَ، وصَحابتِهِ الغُرِّ المَيامينِ، والتَّابعينَ ومن تَبعَهم بإحسانٍ إلى يومِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعدُ: فَأوصِيكُم ونَفسي بتَقَوى اللهِ -تَعَالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].
في وسطِ تِلكَ الجِبالِ المُخيفةِ السَّوداءِ، حَيثُ لا بَشرٌ ولا طَعامٌ ولا ماءٌ، تَركَ الخَليلُ عليهِ السَّلامُ امرأةً وطِفلاً رَضيعاً مِن الضُّعَفاءِ، ولكنْ تَركَ مَعَهم ربّاً حافِظاً وجَوامعَ دُعاءٍ.. فَبِماذا رَفَعَ إبراهيمُ يَديهِ إلى السَّماءِ؟، لَقَد سألَ إبرَاهيمُ -عَليهِ السَّلامُ- لِهَذهِ البُقعةِ مِن الأرضِ الرِّزقَ والأمانَ؛ لأنَّهما مُقوِّماتُ الحَياةِ في كُلِّ زَمانٍ ومَكانٍ، والأهمُّ مِن ذلكَ أنَّهُ ذَكرَ أسبابَ وُجودِ وحُصولِ هذهِ المُقَوِّماتِ، ثُمَّ ذَكرَ سَببَ دوامِ النِّعمِ والخَيراتِ، فَتَعالوا نَتَدبَّرُ ما ذَكَرَهُ اللهُ -تَعالى- في الآياتِ، فَدُعاءُ الخَليلِ ليسَ كَسائرِ الدَّعواتِ.
(وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا)[إبراهيم:35]، فالأمنُ سَببُ الاستقرارِ والبِناءِ، وسَببُ المَجدِ والرَّخاءِ، فَكيفَ يستَطيعُ الإنسانُ الاطمِئنانَ في العِبادةِ والطَّاعاتِ، إذا كانَ الخَوفُ يُحيطُ بِهِ من كُلِّ الجِهاتِ، وكيفَ يهنأُ في عَيشٍ أو رِزقٍ أو عافيةٍ، وهو لا يأمنُ عَلى نَفسِه وأهلِه ومَالِه، واسألوا مَن فَقَدَ هذِهِ النِّعمةَ الكُبرى، عَن السَّعادةِ والآمالِ والنِّعَمِ الأُخرى، يُجِيبونَكم بِدَمعِ العَينِ: ذَهبَ معَ الأمنِ، كُلُّ طَعمِ الحياةِ.
إذا رُزِقَ النَّاسُ الأَمانَ فإنَّما *** يَطيبُ لهم عَيشُ الحَياةِ مَعَ اليُمنِ
ولا يَعمرُ الأَرضَ المُخيفةَ عَامِرٌ *** لأنَّ فَسادَ الأرضِ مِنْ غَيبَةِ الأَمْنِ
وعِندَمَا دَعا إبراهيمُ بالأمنِ، ذَكرَ مَعَهُ سببَ الأمنِ، فقالَ: (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ)[إبراهيم:35]؛ فالأمنُ الحقيقيُّ هو ما كانَ مع التَّوحيدِ والإيمانِ، والخَوفُ الحقيقيُّ هو لأهلِ الشِّركِ وعُبَّادِ الأوثَانِ، ولذلكَ قَالَ إبراهيمُ -عَليهِ السَّلامُ- لِقَومِه وهو يُجادِلُهم: (وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ)[الأنعام:81].
ثُمَّ ذَكَرَ الفَريقَ الذي يَحُقُّ لَهُ الأمنَ، فَقَالَ: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ)[الأنعام:82]، يَقولُ عَبْدُ اللَّهِ بنُ مَسعودٍ -رَضيَ اللهُ عَنهُ-: لَمَّا نَزَلَتْ: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ)، شَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَيُّنَا لَا يَظْلِمُ نَفْسَهُ؟، فَقَالَ: "لَيْسَ ذَلِكَ، إِنَّمَا هُوَ الشِّرْكُ، أَلَمْ تَسْمَعُوا إِلَى مَا قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ: (يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)"، فبالتَّوحيدِ والإيمانِ، يَتَحقَّقُ الأمنُ والأمانُ.
إذَا الأيِمَانُ ضَاعَ فَلَاَ أَماَنُ *** وَلَاَ دُنْيَا لِمَنْ لَمْ يُحيِّ دِيْنَا
وَمَنْ رَضِيَ الحَيَاةَ بِغِيْرِ دِيْنٍ *** فَقَدْ جَعَلَ الفَنَاءَ لَهَا قَرِيْنَا
ثُمَّ ذَكرَ إبراهيمُ -عَليهِ السَّلامُ- حَالَ الأرضِ، فَقالَ: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ)[إبراهيم:36]، وحَيثُ إنَّها أرضٌ جَبليةٌ مِن الأحَجارِ، لا يُزرعُ فِيها النَّخيلُ ولا الثِّمارُ، دعا لهم بالرِّزقِ والخَيراتِ، فَقالَ: (وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ)، فالجُوعُ وما أدراكَ ما الجوعُ، وقد استعاذَ منهُ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ- فَقالَ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْجُوعِ، فَإِنَّهُ بِئْسَ الضَّجِيعُ".
وخُصَّ بِالضَّجِيعِ لأَنَّهُ يُلَازِمُ صَاحبَه لَيْلاً، وإن نامَ فإنه لا ينامُ فيه إلا قَليلاً، ثُمَّ ذَكَرَ إبراهيمُ سَببَ الرِّزقِ فَقَالَ: (رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ)، وانظروا لِحَالِ مَريمَ في مِحرابِ صلاتِها، (كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ)[آل عمران: 37]، فإقامةُ الصَّلاةِ مِن أَعظمِ أسبابِ التَّقوى، (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ)[الأعراف:96].
باركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيمِ، أقولُ قولي هذا، وأستغفرُ اللهَ العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولسائرِ المسلمينَ من كلِّ ذَنبٍ فاستغفروه إنَّه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ على فضلِه وإحسانِه، أوجبَ علينا الشُّكرَ عندَ النِّعمِ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شَريكَ له، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه، صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه، وسلمَ تسليماً كثيراً.
أما بعد: هَل رَأيتُم كَيفَ أُعطيَ الأنبياءُ جوامعَ الدُّعاءِ؟، فقَد سألَ إبراهيمُ -عليهِ السَّلامُ- لِهَذِه البلادِ نِعمَتينِ، وذَكَرَ سَببَ حُصولِهما ووجودِهما في آيتينِ، ثُمَّ ذَكرَ في آخرِ الدَّعاءِ، سببَ دوامِ هذهِ النِّعَمِ والرَّخاءِ، فَقَالَ: (لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ)؛ لأنَّ بالشُّكرِ تَدومُ النِّعَمُ، وبالكُفرِ تَحِلُّ النِّقَمُ، وقَد أكَّدَ اللهُ -تعالى- ذَلكَ في قَولِه: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ)[إبراهيم: 7].
وقَد استجَابَ اللهُ -تعالى- لِخَليلِه فَجَعَلَه حَرماً يأَمنُ فيهِ حتى الحيواناتِ والأشجارِ، في الوَقتِ الذي تُحيطُ بالعالمِ الفِتنُ والحُروبُ والأخطارِ، (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ)[العنكبوت:67]، وجَعَلَ الرِّزقَ يُحمَلُ إليهِ من كلِّ البِلادِ، نِعمَةً مِن اللهِ -تَعَالى- للعِبادِ، (أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَّدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ)[القصص:57]، لا يَعلمونَ مَاذا؟، لا يَعلمونَ أنَّ سببَ الأمنِ هو التَّوحيدُ، وأنَّ سَببَ الرِّزقِ هو إقامةُ الصَّلاةِ، ولا يَعلمونَ أنَّ سِرَّ استِمَرارِ وزِيادةِ هَذِهِ النِّعمِ، هو الشُّكرُ بالقلبِ واللِّسانِ والجَوارح.
واليَومُ نَتَذكَّرُ هَذِه النِّعمَ ونَحنُ نُوَدِّعُ حُجاجَ بيتِ اللهِ -تَعالى-، وَقد أدَّوا حَجَّهم في أمنٍ وأمانٍ، وصِحةٍ في الأبدانِ، ورزقٍ وافِرٍ دُونَ نُقصانٍ، سَالمينَ غَانمينَ ولِبلادِهم رَاجعينَ، يَدعونَ لأهلِ وَولاةِ الحَرمينِ، فاللهمَّ لكَ الحَمدُ ربِّ العالمينَ.
اللهمَّ تَقَبَّلْ مِن حُجَّاجِ بيتِكَ الحَرامِ، اللهمَّ اجعل حجَهم مبرورًا، وسعيَهم مَشكورًا، وذنبَهم مَغفورًا، اللهم رُدَّهم إلى أهليهم سَالمينَ، وبلباسِ التَّقوى مُتجملينَ، ولكل خيرٍ وفضلٍ غَانمينَ، وبالمغفرةِ فائزينَ، ومن النَّارِ مَعتوقينَ، ولرضوانِكَ حَائزينَ، اللهمَّ واجعلنا معهم من المرحومينَ المقبولينَ الفائزينَ.
اللهمَّ لا تحرمنا فضلَك وجودَكَ وعطاءَك وكرمَك بسوءِ ما عندنا، اللهم اغفر ذنوبَنا، واستر عيوبَنا، وارحم ضعفَنا، واسلل سخيمةَ صدورِنا، اللهمَّ وفقْ ولاةَ أمرِ المسلمينَ للحكمِ بكتابِك والعملِ بسنةِ نبيِّك، ووفقْ ولاةَ أمرِنا خاصةً للخيرِ.
اللهم خذْ بأيديهم لما فيه خيرُ البلادِ والعبادِ، واجزهم وجَميعَ العاملينَ مَعَهم خيرَ الجزاءِ لِما يُقدمونَه للحجاجِ والمعتمرينَ والزائرينَ، ولما يبذلونَه في خِدمةِ الحرمينِ الشَّريفينِ يا ربَّ العالمينَ، (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ).
التعليقات