دعاء المظلومين

ناصر بن محمد الأحمد

2011-08-08 - 1432/09/08
التصنيفات: التربية
عناصر الخطبة
1/ التحذير من دعوة المظلوم 2/ صور ممن دعا على من ظلمه 3/ فوائد الدعاء على الكافرين والمفسدين في الأرض
اهداف الخطبة

اقتباس

وعندما يحاصَر المسلم من كل جهة ويضيّق عليه الخناق فلا يستطيع الانتصار لنفسه ممن ظلمه، ولا يقدر على التخلص من الظلم الصارخ الذي أحاط به من كل جانب، يرفع يديه إلى السماء، فتَفتح له السماء أبوابها، وتأتيه منافذ الفرج ويتنزل عليه المدد، إنه مدد السماء من رب الأرباب وخالق الأسباب، مهلك الجبابرة وقاصم القياصرة، الذي أهلك عادًا الأولى وثمود فما أبقى وقوم نوح من قبل، إنهم كانوا هم أظلم وأطغى ..

 

 

 

 

 

أما بعد: وما يزال حديثنا مستمرًا عن الظلم، وقد انتهينا في الجمعتين الماضيتين من مقدمة ثم حديث عن أنواع الظلم، وسنخصص هذه الجمعة للحديث عن دعاء المظلومين.

أيها المسلمون: لقد وردت أحاديث كثيرة تفيد أن دعوة المظلوم من الدعوات المستجابة، منها ما في صحيح البخاري عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: لما بعث رسول الله معاذًا إلى اليمن وأوصاه قال له في آخر وصيته: "واتق دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينه وبين الله حجاب"، وعند الترمذي والإمام أحمد وأبي داود عن أبي هريرة أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: "ثلاثُ دعواتٍ مُسْتَجَابَاتٌ لا شكَّ فيهنَّ: دَعْوَةُ الوالد، ودعوة المسافر، ودعوة المظلوم".

وقد تحقق هذا الوعد الإلهي منذ آدم -عليه السلام- إلى يوم الناس هذا، فهذا فرعون الذي بلغ من الطغيان والجبروت والظلم ما بلغ، حتى إنه استعبد أهل مصر وبلغ به من صلفه وغروره ما قاله الله -جل وعلا-: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ ياأَيُّهَا الْملاَ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنْ إِلَـاهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هَامانُ عَلَى الطّينِ فَاجْعَل لّي صَرْحًا لَّعَلّى أَطَّلِعُ إِلَى إِلَـاهِ مُوسَى وَإِنّي لأَظُنُّهُ مِنَ الكاذِبِينَ * وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لاَ يُرْجَعُونَ * فَأَخَذْنَـاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَـاهُمْ فِي الْيَمّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَـاقِبَةُ الظَّالِمِينَ * وَجَعَلْنَـاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيـامَةِ لاَ يُنصَرُونَ * وَأَتْبَعْنَاهُم فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ القِيَامَةِ هُمْ مّنَ الْمَقْبُوحِينَ) [القصص:38- 42]، فدعا عليه نبي الله موسى: (وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلاَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الألِيمَ) [يونس:88]، قال الله تعالى بعدها مباشرة: (قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَانّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ) [يونس: 89].

وهذا رسول الله عندما دعا على أعدائه الذين آذوه وحاربوا دينه وظلموه ظلمًا عظيمًا، كان ذات يوم ساجدًا عند الكعبة وكان بقربه جماعة من كفار قريش فيقول بعضهم لبعض: أيكم يقوم إلى سلا جزور بني فلان فيلقيه على ظهر محمد؟! فيقوم عقبة بن أبي معيط ويأخذ السلا ويلقيه على ظهر النبي -صلى الله عليه وسلم-، فيبقى النبي ساجدًا حتى تأتي ابنته وتأخذ السلا من فوق ظهره وهي تبكي، ثم تقبل على المشركين تسبهم، فيقوم النبي قرب الكعبة ويرفع يديه ويقول: "اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بأبي جهل، اللهم عليك بعقبة بن أبي معيط، اللهم عليك بفلان، اللهم عليك بفلان"، ويعد سبعة من صناديد المشركين، كما في الصحيحين، يقول ابن مسعود: فوالله، لقد رأيتهم صرعى يوم بدر، ثم سحبوا إلى قليب بدر فألقوا فيها بعدما انتفخت جثثهم، وأتبع أصحاب القليب لعنة.

إيـاك من ظلم الكريـم فإنه *** مرّ مذاقتـه كطعم العلقم
إن الكريـم إذا رآك ظلمتـه *** ذكر الظلامة بعد نَوم النُّوَّم
فجفا الفراشَ وبات يطلب ثأرَه *** أسفًا وإن أغضى ولم يتكلّم

أيها المسلمون: وعندما يحاصَر المسلم من كل جهة ويضيّق عليه الخناق فلا يستطيع الانتصار لنفسه ممن ظلمه، ولا يقدر على التخلص من الظلم الصارخ الذي أحاط به من كل جانب، يرفع يديه إلى السماء، فتَفتح له السماء أبوابها، وتأتيه منافذ الفرج ويتنزل عليه المدد، إنه مدد السماء من رب الأرباب وخالق الأسباب، مهلك الجبابرة وقاصم القياصرة، الذي أهلك عادًا الأولى وثمود فما أبقى وقوم نوح من قبل، إنهم كانوا هم أظلم وأطغى.

إن رحمة الله -تبارك وتعالى- تتجلى في هذا السلاح الفتاك الذي منحه الله للمظلومين، بل إن الظلمة مهما بلغوا من الطغيان أفرادًا كانوا أم دولاً قد يسقطون بسبب الدعاء.

أما والله إن الظلم شـؤم *** وما زال المسيء هو الظلوم
إلى ديّان يوم الدين نمضي *** وعند الله تجتمع الخصـوم

هل يظن الظالم بأن الله غافل عنه، لا يعلم عنه، لا يقدر عليه، إن الله يمهل الظالم لكن لا يهمله، يصبر -عز وجل- على الظلمة ولكن إذا أخذهم لم يفلتهم، قال الله تعالى: (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ) [النحل:61].

فيا أيها الظالم: اتق دعوة المظلوم، لا تعرض نفسك لدعائه؛ لأن دعوة المظلوم مستجابة. اتق دعوة المظلوم؛ فإنها تُحمل على الغمام، ويقول الله تعالى: "وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين". اتق دعوة المظلوم وإن كان كافرًا؛ فإنه ليس دونها حجاب، فكيف بالمظلوم إن كان مسلمًا؟! كيف بالمظلوم إن كان صالحًا تقيًا؟!

إذا ما الظلوم استحسن الظلم مذهبًا *** ولـجَّ عتوًّا في قبيـح اكتسـابه
فكِله إلى صرف الليـالـي فإنهـا *** ستبدي له ما لم يكن في حسابـه
فكـم قـد رأيـنا ظالمًـا متمرّدًا *** يرى النجم تيهًا تحت ظل ركابـه
فعمّـا قليـل وهو فـي غفلاتـه *** أناخت صروف الحادثات ببابـه
فأصبح لا مال ولا جـاه يرتـجى *** ولا حسنات تلتقـى في كتابـه
وجوزي بالأمر الذي كان فاعـلاً *** وصبّ عليه الله سـوط عذابـه

أيها المسلمون: وقصص المظلومين كثيرة، منهم من دعا على من ظلمه فاستجاب الله دعوته، نذكر بعضها تسلية للمظلومين وتحذيرًا للظالمين:

فهذا سعد بن أبي وقاص، ظُلم فدعا على من ظلمه وكان مجاب الدعوة، وتفصيل القصة أن عمر بن الخطاب عيّن سعد بن أبي وقاص أميرًا على أهل الكوفة، فاشتكوه إلى عمر وقالوا: إن هذا الأمير فيه كذا وكذا، حتى قالوا: إن هذا الأمير لا يحسن الصلاة، فدعاه عمر بن الخطاب فقال له: يا سعد: إن أهل الكوفة شكوك في كل شيء حتى قالوا: إنك لا تحسن أن تصلي، فقال سعد: أما إني أصلي بهم كما رأيت النبي –صلى الله عليه وسلم- يصلي، أطيل في الأوليين وأخفف في الأخريين، فقال له عمر: ذلك الظن بك يا أبا إسحاق، ثم أرسل عمر لجنة إلى الكوفة للتأكد من الأمر وتقصّي الحقائق، فذهبت هذه اللجنة إلى الكوفة وصارت تقف في أسواق الناس وفي مساجدهم وتسألهم: ماذا تقولون في أميركم؟! فيقولون: لا نعلم إلا خيرًا، حتى دخلوا على مسجدٍ لبني عبس فسألوهم: ما تقولون في سعد بن أبي وقاص أميركم؟! قالوا: لا نعلم إلا خيرًا، فقام رجل مرائي فقال: أما أن سألتنا عن أميرنا سعد فإنه لا يقسم بالسوية ولا يسير بالسرية ولا يعدل بالقضية، بمعنى: أنه رجل فيه ظلم وجبن وخوف ولا يساهم في المعارك، فقام سعد بن أبي وقاص وقال: اللهم إن كان عبدك هذا قال رياءً وسمعة فأطل عمره وأطل فقره وعرضه للفتن -والقصة في صحيح البخاري ومسلم-، فاستجاب الله دعوة سعد، وقد كان مظلومًا من قِبَلِ ذلك الرجل، فطال عمره حتى سقطت حاجباه على عينيه من الكبر، وطال فقره حتى إنه كان يمدّ يده يتكفّف الناس، وتعرّض للفتن حتى إنه كان على رغم فقره وشيخوخته وكبر سنه كان يقف بالأسواق يتعرّض للجواري يغمزهنّ، فإذا قيل له في ذلك قال: شيخ كبير مفتون أصابته دعوة سعد.

وهذه قصة أخرى لامرأة يقال لها: أروى بنت أويس، شكت الصحابي الجليل سعيد بن زيد إلى مروان بن عبد الحكم أمير المدينة، وقالت: إنه أخذ شيئًا من أرضها، فقال سعيد بن زيد: أنا آخذ شيئًا من أرضها بعدما سمعت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يقول في ذلك؟! فقال له مروان: وماذا سمعت من رسول الله –صلى الله عليه وسلم-؟! قال: سمعته يقول: "من اقتطع شبرًا من أرض طوِّقه يوم القيامة من سبع أرضين"، فقال مروان بن الحكم: لا أسألك بعد هذا بينة، يكفيني قولك هذا، ثم قام سعيد بن زيد ودعا على هذه المرأة التي ظلمته وكذبت عليه ونسبت إليه ما هو منه بريء، فقال: اللهم إن كانت كاذبة فأعمِ بصرها واجعل ميتتها في هذه الأرض. قال راوي الحديث عروة بن الزبير -والحديث في الصحيحين- قال: فوالله، لقد عمي بصرها حتى رأيتها امرأة مسنّة تلتمس الجدران بيديها، وكانت في هذه الأرض بئر، وكانت تمشي في أحد الأيام فسقطت في البئر، وكان ذلك البئر قبرها، وأجاب الله دعاء سعيد بن زيد وكان مظلومًا.

وما يزال الله -عز وجل- يتقبل دعوات الداعين ويستجيب استغاثة المظلومين.

وهذه قصة ثالثة فيها عجب وعبرة، ذكرها عدد من المؤرّخين، وقد حصلت في بلاد الأندلس، ذكروا أن حاكمًا من حكام الأندلس يقال له: ابن جهور، وكان أميرًا على قرطبة إحدى المدن الأندلسية الكبرى، حاول بعض جيرانه أن يعتدي عليه وهو يحيى بن ذي النون، حاول أن يعتدي عليه ويأخذ ملكه، فاستنجد ابن جهور بأحد حكام الأندلس يقال له: المعتمد بن عباد، وكان ملكًا قويًا شاعرًا أديبًا مشهورًا، فجاء المعتمد بن عباد وساعده وقضى على عدوه، ولكن المعتمد بن عباد لما رأى قرطبة وما فيها من المياه والبساتين والخضرة والأموال والترف طمع فيها وبدأ يخطّط للسيطرة عليها، فأدرك ذلك أمير قرطبة ابن جهور، فذكّر المعتمد بن عباد بالعهود والمواثيق التي بينهم، وذكّره بالله، لكن المعتمد بن عباد كان مصرًّا على احتلال قرطبة، وفعلاً تحقق للمعتمد بن عباد الاستيلاء على قرطبة بعد طول كيد وتدبير وتخطيط، فاستولى عليها وأخذ أمراءها وطردهم منها وصادر أموالهم، وقتل منهم من قتل، وسجن من سجن، وخرج أمراء بنو جهور من قرطبة بلا مال ولا جاه ولا سلطان أذلاء خائفين مذعورين، وبعدما خرجوا منها التفت ابن جهور إلى قرطبة، هذه المدينة التي طالما تمتع بحكمها، وعرف أنه ما أخرج منها ولا تسلط عليه ابن عباد إلا بسبب دعوات المظلومين وبسبب الدماء التي أسالها ظلمًا وعدوانًا، وبسبب الأموال التي أخذها بغير حق، وبسبب ظلمه للناس وحيفه في معاملته لهم، عرف ابن جهور هذا فالتفت إلى قرطبة ورفع يديه إلى السماء وقال: يا رب: اللهم كما أجبت الدعاء علينا فأجب الدعاء لنا، فإننا اليوم مسلمون مظلومون، فدعا الله -عز وجل- على المعتمد بن عباد، وخرج بنو جهور، وظل ابن عباد يحكم قرطبة ردحًا من الزمن يتمتع بما فيها من الترف، وقد بلغ الترف بالمعتمد أنه كان عنده جارية جميلة تسمى: اعتماد، وكان المعتمد يحبّها، أطلّت هذه الجارية في يوم من الأيام من أحد نوافذ القصر فشاهدت بعض النساء القرويات يحملن على ظهورهنّ القرب وفيها السمن وغيره، يذهبن ليبعنه في الأسواق، وقد هطل المطر من السماء وأصبحت الأرض فيها من الوحل والطين، فكانت هؤلاء النساء يطأن في الوحل والطين وعلى ظهورهنّ القرب، فأَعجب هذا المنظر هذه الجارية فقالت للمعتمد بن عباد: أريد أن أفعل مع الجواري والبنات مثل ما يفعل هؤلاء النساء، فقال ابن عباد: الأمر هين، فأمر بالكافور والمسك وماء الورد فخلط بعضه ببعض حتى صار مثل الطين في أرض القصر، طين ليس من الماء والوحل والتراب، لكنه طين من المسك والكافور وماء الورد، إلى هذا الحد بلغ به الترف، ثم جاء بقرب وحزمها بالإبريسم وهو نوع من الحرير، ثم حملتها هذه الجارية ومن معها وبدأن يطأن في هذا الطين أو بالأصح في هذا الورد والكافور والمسك، وتم لهنّ ما أردن، لكن تلك الدعوات التي خرجت من المظلوم ابن جهور ما تزال محفوظة، فما هي إلاّ فترة من الزمن وإذا بملك النصارى يهدد المعتمد بن عباد، وطلب منه مع دفع الجزية التخلّي عن بعض القصور والدور فرفض، ووجد نفسه مضطرًا أن يستعين بأحد حكام المرابطين وهو يوسف بن تاشفين، فأرسل إليه يستنجد به، فجاء يوسف بن تاشفين ودخل قرطبة وخاض معركة ضد النصارى وانتصر عليهم وطردهم، وبعدما انتصر على النصارى وجد يوسف بن تاشفين نفسه مضطرًا إلى السيطرة على قرطبة، فقبض على المعتمد بن عباد وأولاده فقتل بعضهم على مرأى من أبيهم، وأودع المعتمد السجن في مدينة في المغرب تسمى: أغمات، فبقي مسجونًا فيها عشر سنوات، ثم انتهت هذه السنوات العشر بموته، وكان فترة سجنه مجرّدًا من كل شيء والقيود في يديه ورجليه، ويرى بناته اللاتي كُنَّ بالأمس يطأن في المسك والكافور يطأن اليوم في الطين والوحل، وهنّ يغزلن للناس من أجل كسب العيش ولا يملكن شيئًا، فبكى بكاءً مرًّا ثم قال يخاطب نفسه في إحدى المناسبات وقد فرح الناس واستبشروا بالعيد:

فيما مضـى كنت بالأعيـاد مسرورًا *** فساءك العيد في أغماتَ مأسورًا
ترى بناتـك في الأطمـار جـائعة *** يغزلن للناس ما يملكن قطميـرًا
برزن نـحوك للتـسليـم خـاشعة *** أبصارهن حسيـراتٍ مكاسيرا
يطأن فِي الطـيـن والأوحال حافية *** كأنـها لَم تطأ مسكًا وكافورًا
مـن بـات بعدك فِي ملكٍ يُسَرّ به *** فإنـما بـات بالأحلام مغرورًا

إنها دعوات المظلومين، فدعوة المظلوم قد تصيبك في نفسك، دعوة المظلوم قد تصيبك في مالك، دعوة المظلوم قد تصيبك في ولدك، دعوة المظلوم تقلب صحتك سقمًا، دعوة المظلوم تقلب سعادتك شقاءً، دعوة المظلوم تجعلك بعد العز والغنى ذليلاً حقيرًا فقيرًا، والله على كل شيء قدير.

بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة...

 

 

الخطبة الثانية:

أما بعد:

الدعاء على الظالم أمر مشروع، لا سيما إذا كان الظلم واقعًا على المسلمين، وتزداد هذه المشروعية إذا كان الظالم كافرًا، وربما يقال بوجوب الدعاء على الظالم الذي يحارب الإسلام وأهله إذا لم يكن ثمّة سبيل لإيقاف عدوانه على الإسلام وكفّ شره عن المسلمين، قال الله تعالى: (لاَّ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوء مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا) [النساء: 148].

لقد قنت رسول الله شهرًا يدعو على أحياء من العرب، ففي صحيح البخاري عن أنس بن مالك قال: إن رعلاً وذكوان وعُصيَّة وبني لحيان استمدّوا رسول الله على عدو فأمدّهم بسبعين من الأنصار كنا نسميهم القراء في زمانهم، كانوا يحتطبون بالنهار ويصلون بالليل، حتى كانوا ببئر معونة قتلوهم وغدروا بهم، فبلغ النبي فقنت شهرًا يدعو في الصبح على أحياء من أحياء العرب؛ على رعل وذكوان وعصية وبني لحيان.

وفي غزوة الخندق لما حاصر الأحزاب المسلمين في المدينة واشتغل النبي وبعض أصحابه في مدافعة المشركين قال بعد ذلك: "شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس، ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارًا". رواه الجماعة عن علي بن أبي طالب.

فواعجبًا من هؤلاء الظلمة! ألم يتفكروا في مصائر من قبلهم؟! أين الأمم السوالف؟! أين عاد وثمود؟! أين فرعون والنمرود؟! أين القياصرة؟! أين الجبابرة؟! أين كسرى والروم؟! (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُواْ الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْاْ فِي الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُواْ فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) [الفجر:6- 14].

كتب أحدهم إلى بعض الولاة الظلمة: "أما بعد: فإنكم ملكتم فأسرتم، وقدِرتم فأشرتم، ووسع عليكم فضيّقتم، وعلمتم عاقبة الدعاء فاحذروا سهام السحر؛ فإنها أنفذ من وخز الإبر، لا سيما وقد جرحتم قلوبًا قد أوجعتموها، وأكبادًا أجعتموها، وأحشاءً أنكيتموها، ومقلاً أبكيتموها، ومن المحال أن يهلك المنتظِِرون ويبقى المنتظَرون، فاعملوا إنا عاملون، وجوروا إنا بالله مستجيرون، واظلموا فإنا إلى الله متظلِّمون، (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ) [الشعراء:227]".

أيها المسلمون: من أوجب الواجبات في وقتنا هذا الدعاء على أعداء الدين من اليهود والنصارى وأذنابهم ومن شايعهم، ممن تسلطوا على بلدان المسلمين وأزهقوا النفوس ونهبوا الخيرات وخربوا ودمروا، فظلمهم من أعظم الظلم.

لكن لا يهولنّكم قوة عدوكم، ولا كثرة عتادهم، ولا طول طغيانهم، اجأروا إلى ربكم واستنصروه على هؤلاء الأعداء الظلمة، فلن يغلب عسر يسرين، ولن يُنصر في الأرض من حورب من السماء. أقرب الأشياء صرعة الظلوم، وأنفذ السهام دعوة المظلوم.

أتهزأ بالدعـاء وتزدريـه *** ولا تدري بما صنع الدعاء
سهام الليل لا تخطي ولكن *** لَها أمد وللأمد انقضـاء
وقد شـاء الإله بمـا تراه *** فما للملك عندكم بقـاء

إن للدعاء على أعداء الدين الظالمين من اليهود والنصارى والمنافقين والعلمانيين وأذنابهم فوائد جمة، منها أن الدعاء في حد ذاته عبادة عظيمة، بل هو لب العبادة وروحها، ولذا ثبت في الحديث الصحيح عن النعمان بن بَشير عن النبي –صلى الله عليه وسلم- في قوله: (وَقَالَ رَبُّكُـمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)، قَالَ: "الدُّعاء هو العبادة" وقرأ: (وَقَالَ رَبُّكُـمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دخِرِينَ) [غافر:60]، فالداعي لا يدعو الله صادقًا إلا وقد انقطع من كل من سوى الله -جل وعلا-، وتعلق نياط قلبه بالله وحده تعلقًا أشد من أي وقت آخر، ولا يتم له ذلك إلا إذا شهد أن الله هو رب الأرباب، ومصرف الأكوان، ومالك كل شيء، والمعبود وحده لا إله إلا هو، (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [الفاتحة:4].

فتحقيق هذا اليقين والتوحيد الذي حصل بهذا الدعاء على الظلمة والمتجبرين يخلع الخوف الذي تولّد في قلوب المسلمين من قوة المتجبرين وطغيان الكافرين، ويجعلهم يحتقرون القوى كلها بجانب قوة العزيز القهار، ويعلمون أن ميزان القوى الحقيقي هو: (أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا) [البقرة:165]، فتصغر في عيونهم كل قوة مهما عظمت إذا هم استمدوا قوتهم من الله رب العالمين.

والدعاء على أعداء الدين بشتى أنواعهم تعبيرٌ صادقٌ عن عقيدة الولاء والبراء التي هي الرحى الذي تدور عليه عقيدة التوحيد، فأوثق عُرى الإيمان الحبُّ في الله والبغض في الله، وهي العقيدة التي توجد المفاصلة في العقائد والأفكار والمناهج، ومن ثم تمايز الصفوف والنّصرة عند القتال.

والدعاء على معسكر الكفر وأهله إذكاءٌ لروح اليقين في حياة المسلمين؛ ليعلموا أنّ الأمر كله لله، (وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) [آل عمران:126]، فتمتلئ قلوبهم بمعية الله، فلا يشكّون في نصره ولا يخالجهم تردّدٌ في صدق وعده، (وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَـالِبُونَ) [الصافات:173]، (قَـاتِلُوهُمْ يُعَذّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ) [التوبة:14]، (كَم مّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ) [البقرة:249].

والدعاء على من اعتدى على المسلمين وبغى عليهم علامةٌ ظاهرةٌ على إيمان العبد وتضامنه مع إخوانه المسلمين: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) [الحجرات:10]، "مَثَلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد؛ إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسّهر والحمى".

والدعاء على من يحارب المسلمين إحياءٌ لمعاني الجهاد في النفس؛ إذ إنّ مَن لم يحدّث نفسه بالغزو مات ميتة جاهلية، فلا بدّ من تهيئة الفؤاد لأحوال القتال وساعات النزال، فهو استحضار للمعركة المتواصلة بين الحق والباطل، (وَلاَ يَزَالُونَ يُقَـاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ) [البقرة: 217]، فالدعاء يربّي قوة العزيمة وشدة البأس في نفس المسلم؛ ليكون مستعدًّا لدكّ حصون الباطل، ويبعث فيه الإرادة الجازمة على محاربة كيد الكافرين الذين يبتغون العزة عند الشياطين، والله -جل وتعالى- يقول: (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَـانِ كَانَ ضَعِيفًا) [النساء: 76].
 

 

 

 

 

 

المرفقات
دعاء المظلومين.doc
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life