عناصر الخطبة
1/من صور الخلل في عقيدتنا 2/خطورة فصل العقيدة عن الأخلاق والمعاملات 3/شمولية الإسلام لجميع مناحي الحياة 4/الإسلام عقيدة وشريعة ومنهج حياة 5/من مظاهر فصل العقيدة عن السلوك والأخلاق 6/مفاسد التشاؤم والتطير.اقتباس
إن عقيدة المسلم في ربه أنه هو الخالق الرازق المدبّر للأمر المتصرّف في هذا الكون بما يشاء، وأنه ليس شيء يحدث إلا بإذنه وأمره، وأن أي شيء من مخلوقاته لا تجلب نفعًا لم يكتبه الله لك، ولا تدفع ضرًّا قد كتبه الله عليك، وأن المسلم يعقل ويتوكل ويفوّض أمره إلى الله. إن التشاؤم عقيدة فرعونية، وخصلة شركية، وصفة جاهلية....
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي طان بالمؤمنين رحيمًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هدانا بفضله صراطًا مستقيمًا، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أرسله الله حجة وهداية ورحمة ونورًا مبينًا صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن كان على هديه ثابتًا مستقيمًا وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله وآمنوا به، ومن يتق الله يجعل له ربه مخرجًا ويرزقه رزقًا كريمًا.
ألا أنبئكم بصورة من صور الخلل في عقيدتنا حينما قصرنا مفهومها على الشرك وضده، وعندما صنفت أفكارنا وصاغت عقولنا وكوّنت ثقافتنا برامج التواصل ووسائل الإعلان واستطاعت إقناعنا أن العقيدة شيء والحياة شيء آخر. هذا المظهر هو فصل العقيدة عن الأخلاق والمعاملة مع الناس.
إن العقيدة في ميزان الإسلام نظام يستوفي كل جوانب الحياة إيمانًا وعبادة وسلوكًا إن "هذا الدين كله خلق؛ -كما قال ذلك ابن القيم- فمن زاد عليك الخلق زاد عليك في الدين".
إن المتمعن في أحوال الناس اليوم يجد كثيرًا من المسلمين يغفل عن الاهتمام والاحتساب في هذا الجانب، وقد يجهل الصلة الوثيقة بين محاسن الأخلاق وقضية الإيمان والعقيدة، فبينما تجد الإنسان يظن أنه قد حقّق التوحيد ومحَّض الإيمان تراه منطويًا على ركام من مساوئ الأخلاق والنقائص التي تخلّ بإيمانه الواجب أو تحرمه من الكمال المستحب من كبر وحسد وسوء ظن وكذب وفحش وأثرة.
وقد يكون مع ذلك جاهلاً بضرر هذه الأمور على عقيدته وإيمانه أو غافلاً عن شمولية هذا الدين لجميع مناحي الحياة (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ)[الأنعام:162-163]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ)[البقرة:208].
إن تحقيق التوحيد وتكميل الإيمان ليس باجتناب الشرك الأكبر فحسب، بل باجتناب كل ما ينافي العقيدة، وكل ما يقدح أو يخل بكمال التوحيد والإيمان.
ليست العقيدة مُتونًا تُردَّد، ونصوصًا تُحفظ، بل لا بد أن تتحول إلى واقع عملي في الحياة والتعامل بين الناس.
إن الإسلام عقيدة تنبثق منها أعمال وأقوال وأخلاق وشريعة، وليس مجرد معرفة ذهنية وإقرار قلبي، ثم لا أثر له في أعمال العبد وأخلاقه ومواقفه في الحياة كلها.
العقيدة قوة عاصمة عن الدنايا، دافعة إلى المكرمات، والإيمان القوي يلد الخُلق القوي لا محالة، وانهيار الأخلاق مردّه إلى ضعف الإيمان أو فقدانه، فالرجل الصفيق الوجه المعوج السلوك الذي يقترف الرذائل غير آبِهٍ لأحد يقول المصطفى -صلى الله عليه وسلم- في وصف حاله: "الحياء والإيمان قرناء جميعًا؛ فإذا رُفِعَ أحدهما رُفِعَ الآخر".
والرجل الذي يؤذي جيرانه ويرميهم بالسوء يحكم الدين عليه حكمًا قاسيًا، "والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن"، قيل: من يا رسول الله؟ قال: "الذي لا يأمن جاره بوائقه".
ويقول -صلى الله عليه وسلم- مقررًا المبادئ الواضحة في صلة العقيدة بالخُلُق القويّ: "ثلاث من كن فيه فهو منافق وإن صام وصلى، وقال إني مسلم: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤمن خان".
إنه نتيجة لفصل العقيدة عن السلوك والأخلاق لذا فقد سادت بين الناس ظاهرة الأخلاق النفعية، فبعد أن يضمحل أثر الإيمان في النفوس يستمد الناس قيمهم في التعامل من الهوى والمصلحة الشخصية، بل تصبح هذه المصلحة هي الشاغل الأول لأمثال هؤلاء ومن هنا فلا يرجى من أعمالهم خير مهما تلبسوا بالصلاح؛ فالأخلاق النفعية سمة بارزة من سمات الجاهلية المعاصرة.
ويحسن هنا تنبيه المخدوعين من أبناء المسلمين الذين انخدعوا ببعض الأخلاق النفعية التي يجدونها عند الكفار في ديارهم كالصدق في المواعيد والأمانة والوفاء بالعقود. إلى أن هذه الأخلاق لم يكن دافعها الخوف من الله -عز وجل- ورجاء ثوابه في الدنيا والآخرة، وإنما هي أخلاق نفعية مؤقتة يريدون منها تحقيق مصالحهم الخاصة والدعاية لهم ولشركاتهم. تدور معهم حسب مصالحهم، فسرعان ما تضمحل هذه الأخلاق ويحل محلها الأخلاق السيئة من كذب وخداع إذا كانت مصالحهم تقتضي ذلك.
أما المسلم المتربي على العقيدة الربانية فأخلاقه ثابتة معه في ليله ونهاره في سره وعلانيته في سرائه وضرائه.
إن في مجتمعاتنا اليوم مسلمين يستنكر وجود صلة بين العقيدة والأخلاق وبخاصة أخلاق المعاملات فهم يتساءلون أولاً -في استنكار-: ما للإسلام وسلوكنا الشخصي؟، ما للإسلام والاختلاط؟، ما للإسلام ولباس المرأة؟، وهم يتساءلون ثانيًا، بل ينكرون بشدة وعنف أن يتدخل الدين في الاقتصاد، وأن تتصل المعاملات بالاعتقاد أو حتى بالأخلاق من غير اعتقاد، فما للدين والمعاملات الربوية؟، وما للدين والمهارة في الغش والسرقة؟ فأي فرق بين هؤلاء وبين أهل مدين إذ قالوا لشعيب: (أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ)[هود:87].
أيها المسلمون: إنه لا شيء يضبط السلوك ويزكي النفوس، ويؤطر النفس على محاسن الأخلاق وترك سيئها غير توحيد الله -عز وجل-، والخوف منه -سبحانه- ورجاء ثوابه ومراقبته في السر والعلن، والشعور باطلاعه -عز وجل- على خفايا القلوب ومنحنيات الدروب.
وإذا لم يوجد هذا الشعور وهذه التربية على العقيدة فإنه لا تنفع أي محاولة مهما كانت في تهذيب سلوك الناس مهما وُضِعَ من النظم والقوانين والعقوبات، فغاية ما فيها ضبط سلوك الفرد أمام الناس، فإذا غاب عن أعينهم ضاعت الأخلاق واضطربت القيم.
ألم تر إلى المرأة تلتزم بحجابها في بلدها وبين مجتمعها، فإذا ركبت الطائرة مسافرة إلى خارج أرضها خلعت الحجاب وتجردت من كل حياء وخُلُق!! فعلى أي شيء يدل هذا؟
إنه والله يدل على رقة الدين وضعف العقيدة، فضعفت الأخلاق أو ضاعت؛ إذ لو تربت الأمة على غرس العقيدة والخوف من الله في القلوب لما تغيّر السلوك بمجرد تغير البيئة وزوال الرقيب من الناس، ولكنها العادات والتقاليد المنبتة عن العقيدة والتي لا تنشئ إلا النفاق والتربية المشوهة والازدواجية الكريهة.
حينما نريد أن نعتز بسلامة عقيدتنا وصفائها فلننظر إلى سلوكنا وأخلاقنا وتعاملنا وبعدها سيظهر من بكى ممن تباكى وستتضح الحقيقة والله بصير بالعباد.
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية
أما بعد: فيتواصل مسلسل الانحرافات العقدية لنصل إلى عادة جاهلية ظلت تسري في الأمم حتى يومنا هذا، يغذيها جهل بالدين وقلة تعظيم لرب العالمين وضعف يقين وتأثر بالمسلسلات والبرامج التي تبث هذا المنكر وتغذيه.
إنه التشاؤم والتطير بالأشخاص أو الأماكن أو المسموعات أو الأصوات أو المرئيات أو الحادثات أو الأوقات أو غيرها من المخلوقات؛ بحيث إذا عرض له شيء من ذلك في أول أمره تشاءم به ورجع عنه.
إن عقيدة المسلم في ربه أنه هو الخالق الرازق المدبّر للأمر المتصرّف في هذا الكون بما يشاء، وأنه ليس شيء يحدث إلا بإذنه وأمره، وأن أي شيء من مخلوقاته لا تجلب نفعًا لم يكتبه الله لك، ولا تدفع ضرًّا قد كتبه الله عليك، وأن المسلم يعقل ويتوكل ويفوّض أمره إلى الله.
إن التشاؤم عقيدة فرعونية، وخصلة شركية، وصفة جاهلية، ذمَّ الله -تعالى- بها المشركين وتوعدهم عليها في كتابه المبين؛ زجرًا للمخاطبين واللاحقين، قال -تعالى- عن آل فرعون: (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ)[الأعراف:131]، وقال عن قوم صالح: (قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ)[النمل:47]، وقال عن أصحاب القرية أنهم قالوا لرسلهم: (قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ)[يس:18-19].
فتضمنت الآيات ذم المتطيرين المتشائمين، ووصفهم بالجهل والفتنة والإسراف، وكلها أوصاف تدل على السَّفه ونقص العقل والسعي في الهلاك والخسران، وكفى بذلك تشنيعًا على المتشائمين، وخزيًا لهم بين العالمين، لما هم عليه من الشرك المبين والحنث العظيم.
إن خير الهدي هدي رسولنا -صلى الله عليه وسلم- والذي كان يعجبه الفأل وينهى عن التشاؤم والتطير فيقول: "لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر، ومن ردته الطيرة -أي: التشاؤم- عن حاجته، فقد أشرك".
وإن شهر صفر من شهور الله، وزمن لكل عمل، وظرف لكل حدث وتقدير، لا تأثير له في صنع الأحداث وتغييرها من حسن إلى سوء، وإنما المقدر هو الله بحكمته وعدله.
وثمة كلمات تردد وأفعال وتصرفات تحدث من بعض الناس تنبئ عن وجود هذا الخلل العقدي كقول بعضهم: "خير يا طير"، للشيء الطارئ أو الجديد. وقول بعضهم للمسافر: "على الطائر الميمون"، والتشاؤم بحركة العين أو طنين الأذن. واعتقاد بعض العوام أنه إذا سمي باسمه أحد من أولاده أو أحفاده أنه سبب لموته. ومثله استفتاح بعضهم بالبيع على أول مشتر يأتيه أول النهار؛ لاعتقاده أن رده شؤم.
وكذلك التشاؤم بشهر صفر أو شهر شوال أو يوم الأربعاء ونحو ذلك. ومنه أن بعض الحمقى إذا فتح أحدهم متجره فجاءه رجل أعمى أو أعور أو صاحب عاهة تشاءم ذلك اليوم. وفنون الناس في التشاؤم لا حصر لها؛ لأن جهلهم وتصرفاتهم بمقتضى الجهل لا حصر لها.
فإن وقع في نفسك - أخي المسلم - شيء من التشاؤم بسبب وساوس الشيطان، فجاهد نفسك عنه، وامض لحاجتك متوكلاً على ربك، محسنًا الظن به، متضرعًا إليه بصادق الدعوات، قائلاً: "اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك".
وقل: "اللهم لا خير إلا خيرك، ولا طير إلا طيرك، ولا إله غيرك"، وقل: "آمنت بالله ورسله"، ولا تسترسل مع وساوس الشيطان؛ بل اشتغل بما ينفعك، ومنه: أن تمضي لحاجتك، وتكثر من ذِكْر ربك، واعلم أن الله يحب المتوكلين.
اللهم صَلِّ وسَلِّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
التعليقات