عناصر الخطبة
1/المشاؤون بالنور وفضلهم يوم القيامة 2/حال المتخلفين عن صلاة الفجراقتباس
اليَومَ صَلاةُ الفَجرِ تَشتَكي جَفاءَ كَثيرٍ مِنَ المُسلمينَ، وَبَعدَ أَقلَ مِن سَاعةٍ تَجدُ النَّاسَ قَد خَرجوا من بُيوتِهم سِراعاً إلى أَعمَالِهم وَأَسوَاقِهم وَمَدَارسِهم وَجَامعَاتِهم، وكَأنَّ شَيئاً لم يَكنْ، يَتَسَابقونَ إلى دَفَاترِ التَّحضيرِ، وَقَد غَفلوا عن التَّحضيرِ الأَعظمِ، عِندَما يَصعدُ الملائكةُ الكِرامُ بصُحُفِهم...
الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ جعلَ الصلاةَ عمادَ الدِّينِ، وكِتَاباً مَوقُوتَاً على المؤمنينَ، وحثَّنا عليها في الذِّكرِ المُبينِ، فَقالَ: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ، نَشهدُ أن لا إله إلا الله وحدَهُ لا شريكَ لَهُ، خَشَعَتْ له القُلوبُ وَرَقَّتْ، وَدَانَت له النُّفوسُ وَخَضَعتْ، وَعنَتْ له الوجوهُ وَذَلَّتْ، ونَشهدُ أنَّ نَبِيَّنَا مُحمَّداً عبدُ اللهِ وَرسولُهُ، النَّاصِحُ الصَّادِقُ الأمينُ، آخِرُ وَصِيَّةٍ لَهُ: الصَّلَاةَ الصَّلَاةَ، وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ، الَّلهمَّ صَلِّ وَسَلِّم على مُحَمَّدٍ الأَمِينِ، المَوصُوفِ بالرَّحمَةِ والْمَحَبَّةِ والِّلينِ، وعلى آلِهِ وأَصحَابِهِ المَيَامِينِ، والتَّابِعينَ لَهم وَمَن تَبِعَهم بِإحسَانٍ إلى يومِ الدَّينِ، أمَّا بعدُ:
أُوصيكَ وَنَفسي بِتَقوى اللهِ؛ (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ).
اليَومَ جِئتُكُم بِكَلِمَاتٍ وبُشرَى غَاليَّةٍ، يَفرَحُ بِهَا أَصحَابُ النُّفوسِ العَاليَّةِ؛ فَالمُبَشِّرُ هو الذي لا يَنطِقُ عَنِ الهَوى، إن هو إلا وَحيٌّ يُوحى، والمُبَشَّرُ هُم أَصحَابُ خُطُواتِ الظَّلامِ، التي كَانتْ تَكسِرُ هُدوءَ الشَّوارعِ وأَكثَرُ النَّاسِ نِيامٌ؛ فَهَا هُم يَتركُونَ الفِرَاشَ قَبلَ طُلوعِ الصَّبَاحِ، وَيَخرُجونَ لِيُجِيبوا نِداءَ الخَيرِ والفَلاحِ؛ فَأبشِروا يَا أَصحابَ صَلاةِ الفَجرِ، بالنُّورِ التَّامِ يَومَ البَعثِ والحَشرِ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسلَّمَ: "بشِّرِ المشَّائِينَ في الظُّلَمِ إلى المساجدِ بالنُّورِ التَّامِّ يومَ القيامةِ".
الخُطُواتُ التي تَمشونَها اليومَ في الظَّلماءِ، سَتَكونُ نُوراً تَاماً عِندَما تَنقَطِعُ الأَضواءُ، فَيَبقى نُورُ الأعمَالِ يُضيءُ لِلنَّاسِ الطَّريقَ، فَمِنهُم مَن يَنجو وَمِنهُم من يَقَعُ في نَارِ الحريقِ، جَاءَ في الحديث: "فَيُعطَونَ نُورَهُم عَلى قَدرِ أَعمَالِهم، فَمِنْهُم مَن يُعطى نُورَه مثلَ الجبَلِ بين يَديْه، ومِنْهُم مَن يُعطَى نُورَه مثل النَّخلةِ بِيَمينه، حتَّى يكونَ آخرُ ذلك يُعطَى نُورَه على إبهامِ قَدَمه، يُضيءُ مَرَّةً ويَطفأُ مَرَّةً، فإذا أضاءَ قدَّمَ قَدَمه، وإذا طَفئ قامَ".
مَا هو شُعورُك عِندَ سَماعِ هَذا الحَديثِ: "مَنْ صَلَّى الصُّبْحَ فَهُوَ في ذِمَّةِ اللهِ"، وَأَنتَ قَد صَليتَ الفَجرَ في المسجدِ، فَحُقَّ لَكَ أَنْ تَفرحَ فَأَنتَ في ذِمَّةِ اللهِ، فَلا يَضرُكَ شيءٌ ولو انطَبقتْ الأرضُ على السَّماءِ، فَكَم نَحتاجُ إلى هذا الأمانِ في هَذا الزَّمانِ الذَي كَثُرتْ فيه الفِتَنُ، وَتَعَاظَمتْ فيه المِحَنُ، وَأَصبَحتْ الأَخطارُ تُحيطُ بالإنسانِ، في كلِ أوانٍ ومكانٍ.
وإذا العِنَايةُ لاحَظَتْكَ عُيُونُها *** نَمْ فالمَخَاوفُ كُلُّهُنَّ أَمَانُ
وعندما يُؤتى بجهنمَ تُقادُ من الملائكةِ العِظامِ، لها سبعونَ ألفَ زمامٌ، فَلَكُم الأَمانُ يَا أَصحَابَ خُطُواتِ الظَّلامِ؛ كَماَ قَالَ النَّبيُّ -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-: "لنْ يَلِجَ النَّارَ مَن صلَّى قبْلَ طُلوعِ الشَّمسِ، وقبْلَ غُروبِها"، بَلْ أَنتُم مَعَ ذلكَ الوَفدِ الكَريمِ، القَادِمِ إلى مَولاهُ الرَّبِّ الرَّحيمِ؛ (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا)؛ لأنَّ النَّبيَّ -صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلمَ-؛ قَالَ: "مَنْ صَلَّى الْبَرْدَيْنِ دَخَلَ الْجَنَّةَ"، والبَردَانِ: صَلاةُ الفَجرِ والعَصرِ.
وَلَيسَ دخولَ الجنةِ فقط، بل تحصيلُ أعظمَ ما فيها النعيمِ، وهو النظرُ إلى وجهِ العزيزِ الرحيمِ، يقولُ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذْ نَظَرَ إِلَى الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ؛ فَقَالَ: "أَمَا إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا لَا تُضَامُّونَ أَوْ لَا تُضَاهُونَ فِي رُؤْيَتِهِ فَإِنْ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لَا تُغْلَبُوا عَلَى صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا فَافْعَلُوا"، وانتبِه إلى قولِه: "فَإِنْ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لَا تُغْلَبُوا"، وكأنَ الأمرَ سيكونُ مُغالبةً ومنافسةً بينَ المسلمينَ، وتزاحماً شديداً على أبوابِ المساجدِ، إذا علموا فضلَ صلاةِ الفجرِ، واللهُ المُستَعانُ.
نَحتاجُ في هَذا الزَّمانِ إلى الطَّالبِ النَّشيطِ، ونَحتَاجُ إلى المَوظَفِ الطَّيبِ النَّفسِ؛ فَكَيفَ تَتَحققُ تِلكَ الأخلاقُ إذا لم يَبدأْ صَاحبُها يَومَهُ بِصَلاةِ الفَجرِ؟، قالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ عَلَى قَافِيَةِ رَأْسِ أَحَدِكُمْ إِذَا هُوَ نَامَ ثَلاَثَ عُقَدٍ، يَضْرِبُ كُلَّ عُقْدَةٍ عَلَيْكَ لَيْلٌ طَوِيلٌ فَارْقُدْ، فَإِنِ اسْتَيْقَظَ فَذَكَرَ اللَّهَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَإِنْ تَوَضَّأَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَإِنْ صَلَّى انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ فَأَصْبَحَ نَشِيطًا طَيِّبَ النَّفْسِ، وَإِلاَّ أَصْبَحَ خَبِيثَ النَّفْسِ كَسْلاَنَ".
بَلْ هَلْ يَستطيعُ المسلمُ العَزيزُ أَنْ يَتَخيَّلَ مُجَردَ تَخَيُّلٍ ذلك الموقفَ المَهِينَ، مِنْ ذَلكَ العَدوِّ الحَقيرِ، عِندَمَا يَنَامُ عَن صَلاةِ الفَجرِ، ذُكِرَ رَجُلٌ عِنْدَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نَامَ لَيْلَةً حَتَّى أَصْبَحَ، قَالَ: "ذَاكَ رَجُلٌ بَالَ الشَّيْطَانُ فِي أُذُنِهِ".
يقولُ ابنُ عمرَ -رضيَ اللهُ عنهما-: "كنا إذا فقدنا الرجلَ في صلاةِ الفجرِ أسأنا به الظنَ"، أتعلمونَ لماذا؟ لأن النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لَيْسَ صَلَاةٌ أَثْقَلَ عَلَى الْمُنَافِقِينَ مِنْ الْفَجْرِ وَالْعِشَاءِ"، فإيَّاك وصِفَاتِ المنافقينَ، فإن منازلَهم في الدَّركِ الأسفلِ في نَارِ ربِّ العالمينَ.
أستغفرُ اللهَ العظيمَ الجليلَ، لي ولكم ولسائرِ المسلمينَ من كلِ ذنبٍ، فاستغفروه إنه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ الذي فرضَ الصلاةَ على العبادِ رحمةً بهم وإحساناً، وجعلها صلةً بينه وبينهم ليزدادوا بذلك إيماناً، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له خالقُنا ومولانا، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه أخشى الناسِ لِربِّهِ سِراً وإعلاناً، الذي جَعلَ اللهُ قُرةَ عينِه في الصلاةِ فنعمَ العملُ لمن أرادَ من ربِه فَضلاً ورِضواناً، صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه ومن تبعَهم بإحسانٍ وسلمَ تسليماً كثيراً، أما بعدُ:
عبادَ اللهِ، قَالَ النَّبيُّ -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- يَومَاً لأَصحَابِهِ: "إنَّه أتانِي اللَّيْلَةَ آتِيانِ، وإنَّهُما ابْتَعَثانِي، وإنَّهُما قالا لي انْطَلِقْ، وإنِّي انْطَلَقْتُ معهُما، وإنَّا أتَيْنا علَى رَجُلٍ مُضْطَجِعٍ، وإذا آخَرُ قائِمٌ عليه بصَخْرَةٍ، وإذا هو يَهْوِي بالصَّخْرَةِ لِرَأْسِهِ فَيَثْلَغُ رَأْسَهُ، فَيَتَدَهْدَهُ الحَجَرُ ها هُنا، فَيَتْبَعُ الحَجَرَ فَيَأْخُذُهُ، فلا يَرْجِعُ إلَيْهِ حتَّى يَصِحَّ رَأْسُهُ كما كانَ، ثُمَّ يَعُودُ عليه فَيَفْعَلُ به مِثْلَ ما فَعَلَ المَرَّةَ الأُولَى، قالَ: قُلتُ لهما: سُبْحانَ اللَّهِ ما هذانِ؟، قَالا: أمَّا الرَّجُلُ الذي أتَيْتَ عليه يُثْلَغُ رَأْسُهُ بالحَجَرِ، فإنَّه الرَّجُلُ يَأْخُذُ القُرْآنَ فَيَرْفُضُهُ، ويَنَامُ عَنِ الصَّلَاةِ المَكْتُوبَةِ"؛ فَهَذَا عَذابُه في البَرزخِ حَتى قِيامِ السَّاعةِ.
اليَومَ صَلاةُ الفَجرِ تَشتَكي جَفاءَ كَثيرٍ مِنَ المُسلمينَ، وَبَعدَ أَقلَ مِن سَاعةٍ تَجدُ النَّاسَ قَد خَرجوا من بُيوتِهم سِراعاً إلى أَعمَالِهم وَأَسوَاقِهم وَمَدَارسِهم وَجَامعَاتِهم، وكَأنَّ شَيئاً لم يَكنْ، يَتَسَابقونَ إلى دَفَاترِ التَّحضيرِ، وَقَد غَفلوا عن التَّحضيرِ الأَعظمِ، عِندَما يَصعدُ الملائكةُ الكِرامُ بصُحُفِهم البَيضَاءِ، ويَقِفُونَ بِينَ يَدي خَالقِ الأرضِ والسَّماءِ، وَعَالمِ الجَهرِ والخَفَاءِ، "فَيَسْأَلُهُمُ - وَهُوَ أعْلَمُ بِهِمْ - كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادي؟، فَيقُولُونَ: تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ، وَأتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ"؛ فَلا إلهَ إلا اللهُ، مَنْ غَابَ عن ذلكَ التَّحضيرِ فَمَاذا يُفيدُه؟، وَمَن سَقطَ اسمُه مِن تِلكَ الصُحُفِ فمن يُعيدُه؟.
مَنَائِرُكُمْ عَلَتْ في كُلِّ سَاحٍ *** وَمَسجِدُكُم مِنَ الْعُبَّادِ خَالي
وَجَلْجَلةُ الأَذَانِ بِكُلِّ حَيٍّ *** وَلَكِنْ أَينَ صَوتٌ مِنْ بِلاَلِ
رَبَّنَا اجعَلنَا مُقِيميِّ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَاتِنَا، اللهم أيقظَ قلوبَنا من الغَفَلاتِ، وطهِّر جوارحَنا من المعاصي والسيئاتِ، ونقِّ سرائرَنا من الشُرورِ والبلِّياتِ، اللهم اختمْ بالصالحاتِ أعمالَنا، وثبتنا على الصراطِ المستقيمِ بالقولِ الثابتِ في الحياةِ الدنيا وفي الآخرةِ، اللهم اجعلنا من المتقينَ الذاكرينَ الذين إذا أساؤوا استغفروا، وإذا أحسنوا استبشروا، اللهم انصر إخوانَنا المجاهدينَ في سبيلِكَ في كلِ مكانٍ، الذين يريدونَ أن تكونَ كلمتُك هيَ العُليا، اللهمَّ ثَبتْهُم وَسددْهُم، وفَرِّجْ هَمَّهم وَنَفِّسْ كَربَهم َوارفَعْ دَرجَاتِهم، اللهم آمِنّا في أوطانِنا، وأصلح ووفق أئمتَنا وولاةَ أمورِنا، وآخرُ دعوانا أن الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ.
التعليقات