خطبة عيد الأضحى 1444هـ

الشيخ شعيب العلمي

2023-08-12 - 1445/01/25
التصنيفات: الأضحى
عناصر الخطبة
1/من دلالات ومعاني الأضحية 2/صور من تضحية النبي وأصحابه 3/سبب تخلف أمتنا عن الأمم في زماننا 4/التضحية للدين واجب كل مسلم

اقتباس

ألا تغار أن يضحيَ في سبيل الله أعاجمٌ، عاشوا على الكفر ثم دخلوا الإسلام، وأنت العربي المسلم من نعومة أظافرك، ولا تضح ولا تقدّم لدين الله شيئا؟! ألا تغار أن تجتهد حيوانات وعجماوات في سبيل الله، وما قصة الهدهد مع سليمان عنكم ببعيد...

الخُطْبَةُ الأُولَى:

 

عباد الله: ها أنتم في أعظم الأيام عند الله يوم النحر، تقتدون فيه بأبي الأنبياء، وإمام الحنفاء، إبراهيم -عليه السلام-، تضحون كما ضحى، وليس الأضحية كالأضحية، فأنتم تضحون بشيء من مالكم أو أنعامكم، تقربونها إلى بارئكم، ثم تتصدقون بشيء منها لإخوانكم، أمّا أضحية إبراهيم -عليه السلام-، فهي استسلامٌ عظيم ليضحي بابنه وفلذة كبده، الذي انتظره طويلا، فلما وهبه إياه تعلّق قلبه به، وكبر في عينيه، فجاءه الأمر الإلهي بذبحه، فلم يتردد في طاعة خالقه وخالق  ابنه، في سبيل إرضاء ربّه -تعالى-، فلله ما أعطى ولله ما أخذ، فينجح -عليه السلام- في واحد من أصعب أنواع الامتحانات لتكون العاقبة حميدة في الدنيا والآخرة، أرأيت لو كنت مكان إبراهيم -عليه السلام- ماذا كنت فاعلا؟.

 

عباد الله: ما منّا من أحد إلا وقد وضعه الله -تعالى- في موقف كإبراهيم، ليس ذبحا لابنٍ، إنه لأيسر، ومع ذلك ما أكثر من يفشل ويخسر، إن الله -تعالى- يضعنا في مواقف لنذبح أهواءنا وشهواتنا، لنذبح تعلقنا بالدنيا، ونقطع السلاسل التي يقيدنا به الشيطان ويقودنا، لنضحيَ بذلك إرضاءً لله -تعالى-.                        

 

ما أكثر ما يفشل الأبوان أنّ يضحيا بشيء من عاطفتهما في سبيل تربية ابنهما على طاعة الله! ما أكثر ما يفشل بعضنا أن يضحي برغبته في التمتع بالحرام من مسكر أو مخدر، أو نظر لصورة محرمة على المواقع أو الواقع، في سبيل إرضاء الله! ما أكثر من يفشل في التضحية ببضع دقائق في سبيل إقامة الصلاة الركن الركين وعمود الدين! ما أكثر ما تفشل الفتاة في التضحية بجمالها أن تستره إرضاء لله، وتفشل أمهات فترضخ لتبرجها! ما أكثر ما نفشل في التضحية بفرص لمال حرام أن يقع في أيدينا، من ربا أو رشوة أو سرقة أو بيع لشيء محرم خوفا من الله -تعالى-                                                                

عباد الله: إن الأضحية ليست مجرد دم يراق، ولا جلد يسلخ، ولا لحم يؤكل، كلا بل هي أعظم من ذلك بكثير، إنّ هذه الأضاحي التي تذبح في سبيل الله -تعالى- على وجه المعمورة، هي خطوة أولى أرادنا الله أن نخطوَها في طريق التضحية في سبيله، وأن تكون لتلك الخطوات أخوات في شتى المجالات: تضحية لله في سبيل إصلاح النفس والتوبة من تقصيرها، في سبيل تربية الأولاد وتنشئة الطلاب، في مجال المعاشرة الزوجية والجيران والصحب والخلان،  في مجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والبذل لدين الله ونشره والدعوة إليه.

                                                                             

عباد الله: لقد كان لأمة الإسلام عظيمُ الشأن، في سالف الأزمان، لم تنله إلا بتضحيات متواليات، على طريقٍ تعب فيه آدم، وناح لأجله نوح، ورُمى في النار الخليل، وأُضجع للذبح إسماعيل، وبيع يوسف بثمن بخس، ولبث في السجن بضع سنين، ونُشر بالمنشار زكريا وذُبح السيد الحصور يحيى، وهرب من بني قومه موسى.

 

أمّا عن محمد -صلى الله عليه وسلم- فلا تسل عن تضحياته حتى ينتشر الإسلام ويعلو، ويصل لمشارق الأرض ومغاربها ويزهو، وحتى أصير أنا وأنت من المسلمين، لقد ضحى -صلى الله عليه وسلم- بنفسه وماله وأهله ووطنه.

 

وما أصعب أن تختار نموذجا من حياته عن ذلك فقد كانت كلّها تضحية في سبيل الله، كلّ موقف ينسيك الذي بعده بذلا وشجاعة، صبرا وتضحية، حتى قال عن نفسه -صلى الله عليه وسلم-: "لقد أوذيت في الله، وما يؤذى أحد، وأُخفت في الله، وما يخاف أحد، ولقد أتت علي ثلاثون ليلة من بين يوم وليلة، وما لي ولبلال ما يأكله ذو كبد، إلا ما يواري إبط بلال".                                                    

 

لقد ضحى أبو بكر الصديق في سبيل الله والرسول والدين بكل ما أوتي، حتى قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في حقّه: "إنَّ أمَنَّ النَّاس عليَّ في صحبته وماله أبو بكر"، ومن ذلك أنّه لما خرج -صلى الله عليه وسلم- مهاجرا للمدينة احتمل أبو بكر ماله كلّه وانطلق به معه.                            

 

لقد ضحى مصعب بن عمير بحياة الرفاهية التي كان يعيشها في مكة؛ في سبيل الثبات على الإسلام، كان أترف غلام بمكة، فلما أسلم أصابه ما أصابه من شظف العيش، فلم يقو على ذلك، حتى إن جلده ليتطاير عنه تطاير جلد الحية، ولقد بلغ به الجهد فما يستطيع أن يمشي، فيحملونه على عواتقهم، ولما قتل يوم أحد لم يجدوا ما يكفنونه فيه إلا رداء قصيرا، إن وضعوه على رأسه خرجت رجلاه، وإن وضعوه على رجليه خرج رأسه!.

 

لقد ضحى ثلة من شباب الصحابة -صلى الله عليه وسلم- بأوطانهم، دعاهم تعلّقهم بدين الله إلى أن يختاروا الغربة عن بلادهم على الفتنة في دينهم، فهاجروا إلى الحبشة، بلاد لا يعرفون لسان أهلها، وليس لهم فيها أنيس أو جليس، منهم الزبير بن العوام، وعثمان بن مظعون، وطليب بن عمير، وشماس بن عثمان، وغيرهم -رضي الله عنهم جميعا-، وإن كثيرا من شبابنا ليضحون بأوطانهم وأرضهم وأهلهم ويعرضون أنفسهم للهلاك في قوارب الموت؛ ليهاجروا ليس في سبيل الله والفرار بالدين، بل من أجل حطام الدنيا فشتان بين التّضحيتين.

 

عباد الله: إنّ اليهود والنّصارى والعلمانيين والملاحدة وغيرهم من الكافرين ليضحون من أجل كفرهم، وإنّ أهل الفحش والفجور والمنكرات ليضحون بالأموال والأوقات، من أجل باطلهم، قال -جل وعلا-: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)[الأنفال: 36]، ألم تسمع عن أهل الملاهي ماذا يصرفون في الليلة الواحدة؟! ألم تسمع عن أهل الدنيا ماذا ينفقون في الرحلة الواحدة؟! ألم تسمع عن عشاق الرياضة ماذا يبذلون في دعم التظاهرة الواحدة؟! فما أحرانا أن نحاسب أنفسنا: ماذا قدمنا لديننا؟ وبماذا ضحينا في سبيل ربّنا؟.                                                       

 

 

الخطبة الثانية:                                                               

 

عباد الله: وأنت تقرأ قوله -تعالى-: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)[آل عمران: 110]، تشعر بالفخر بهذه الشهادة الربانية، وبقدر ما تشعر بالفخر، بقدر ما يصيبك الأسى، فإنّ الأمة التي شهد الله لها بالخيرية هي تلك الأمة التي قدّمت وضحّت وأمرت ونهت؛ فهمت (كُنْتُمْ) التي في بداية الآية أنها للاستمرار والثبات، والآن آل أمرها إلى ذل وهوان، أبت إلا أن تفهم (كُنْتُمْ) على أصلها وأنها فعل ماض ناقص، أي: أن الخيرية كانت في الماضي، وهي في الحاضر غائبة.

 

غابت التضحية فغابت الخيرية، قال -صلى الله عليه وسلم-: "كيف بكم إذا تداعت عليكم الأمم كتداعي الأكلة على قصعتها؟"، قالوا: أومن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: "بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ينزع الله المهابة من قلوب أعدائكم منكم ويقذف في قلوبكم الوهن"، قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟، قال: "حبّ الدنيا وكراهية الموت".

                                                                           

ألا فاعلموا -عباد الله- أنّ التضحية في سبيل إعلاء كلمة الله -عز وجل-، وإعزاز دينه ليست نافلة من العمل، إنما هو واجب خلقتَ من أجله، فإما أن تقوم به وإما أن يستبدلك بغيرك ليقوم به، يقول -جل وعلا-: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ)[التوبة: 38].

 

عباد الله: ليست التضحية في سبيل الدين ونشره والدفاع عنه، مهمة العلماء والدعاة فحسب، ليست مهمة الرجال دون النساء، بل هي مهمة كل من عقد قلبه على الشهادتين، وقال أنني من  المسلمين، كلٌ من موقعه، وكلٌ بحسب مقدرته، قال -صلى الله عليه وسلم-: "بلغوا عني ولو آية".

 

ألا تغار أن يضحي في سبيل الدين أطفال صغار، وأنت كبير ولا تضح ولا تقدم لدين الله شيئا؟! ألا تغار أن يضحيَ في سبيل الله أعاجمٌ، عاشوا على الكفر ثم دخلوا الإسلام، وأنت العربي المسلم من نعومة أظافرك، ولا تضح ولا تقدّم لدين الله شيئا؟! ألا تغار أن تجتهد حيوانات وعجماوات في سبيل الله، وما قصة الهدهد مع سليمان عنكم ببعيد، وأنت الذي أكرمك الله بالعقل والفهم، قاعد لم تحرك ساكنا أمام ما تسمع وترى، من منكر طغى، وفحش سرى، وأمة تُهان؟!.

 

لو تأملت حياتك وعمرك، مالك وجهدك، لوجدت نفسك تضحي في سبيلٍ ما، في سبيل الدراسة أو الوظيفة، بل سبيل لعب أو لهو أو في سبيل عشيقة أو رفيق، أفلا يستحق الدين والآخرة الباقية أن تبذل لأجله كما تبذل للدنيا الفانية؟!.                       

 

عباد الله: احمدوا الله على ما هداكم، وضحوا تقبل الله ضحاياكم، واجعلوها خطوة أولى لتصحيح المسار، اجعلوها بداية لحياة ملؤها  التضحية في سبيل عتق النفس من النار، وإعزاز دين الإسلام أمام الكفار والفجار.

 

اللهم يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام، أصلح لنا شأننا كله، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، اللهم ارحمن موتانا، واشف مرضانا، وعاف مبتلانا، وفك أسرانا، واكشف عن الكروب، وأزل عنا الهموم، اللهم تقبل توبتنا واغسل حوبتنا واسلل سخيمة قلوبنا وألف بيننا واجمع كلمتنا، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.

 

 

 

 

المرفقات
storage
storage
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life