عناصر الخطبة
1/من فضل الله على عباده أمرهم بكل خير ونهاهم عن كل شر 2/آية عظيمة جمعت ثلاثة أوامر فيها الخير والصلاح 3/فوائد وإرشادات من قوله تعالى: خذ العفو... 4/أحوال المطاع مع الناس 5/فوائد الإعراض عن الجاهلين وآدابهاقتباس
لَمَّا كان أذى الجاهلين أمرًا محتومًا لا بدَّ منه، ولا سبيلَ إلى مَنعِه، جاء الأمرُ الثالثُ بالإعراض عن الجاهلينَ، فلا يُقابِل جهلَهم بمثله؛ انتقامًا لنفسه، وشفاءً لغيظه، بل يَصبِر على أذاهم، ويَحلُمُ عنهم، وتلك هي الحال الحسنى، والطريقة المثلى، التي كان عليها نبيُّ الرحمة والهدى -صلوات الله وسلامه عليه- مع أوليائه وأعدائه...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي أوضَح لنا معالِمَ الدينِ، وأنزَل على عبدِه الكتابَ المبينَ؛ هُدًى ورحمةً وبُشرى للمسلمين، أحمده -سبحانه- وأشهد ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، الرَّزَّاق ذو القوة المتين، وأشهد أنَّ سيدنا ونبينا محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه، المبعوثُ رحمةً للعالمينَ، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدِكَ ورسولِكَ محمدٍ، وعلى آلِه الطيبينَ الطاهرينَ، وصحابتِه الغُرِّ الميامينِ، والتابعينَ ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعدُ: فاتقوا الله -عبادَ اللهِ-، واسلُكُوا سبيلَ كلِّ تقيٍّ أوَّاهٍ، آخِذٍ من دنياه لأخراه، مبتغٍ رضا ربِّه ومولاه، مُؤْثِرٍ له على حظوظِ نفسِه وهواه.
عبادَ اللهِ: إنَّ مِنْ مِنَن الله الرؤوف بعباده، اللطيف بهم، المتودِّد إليهم بألوانِ النِّعم، أَنْ يأمُرَهم بكلِّ خيرٍ تَسعَد به نفوسُهم، وتطمئنُّ به قلوبُهم، وتَطِيبُ به حياتُهم، ويكون به فَوزُهم وفَلاحُهم في دنياهم وأُخراهم.
وإنَّ من أعظم ذلك نفعًا،، وأقواه وأبقاه أثرًا، ثلاثةَ أوامرَ ربانيَّة، اشتملَتْ عليها آيةٌ في كتاب الله، جمَعَت قواعدَ الشريعة في المأمورات والمنهيَّات كافةً، حتى لم تَبقَ حسنةٌ إلا حَوَتْها، ولا فضيلةٌ إلا أرشَدَتْ إليها، ولا مَكرُمةٌ إلَّا أَتَتْ عليها، ونبَّهَتْ إليها؛ إذ هي تُرسي قواعدَ المعامَلة مع الخَلْق جميعًا، وتُوضِح طُرُقَ الإحسانِ إليهم، والإسعاد لهم، وتدلّ على سبيل السلامة من شرور ذوي الشر منهم، وذلك في قوله -عزَّ اسمُه- مخاطِبًا أشرفَ خَلقِه، وأكرمَ رُسُلِه، -صلواتُ الله وسلامه عليه-: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ)[الْأَعْرَافِ: 199]، فابتدأ -سبحانه- بأمره أن يأخذَ من أخلاق الناس وأعمالهم ما سَهُلَ عليهم قولُه، وخفَّ عليهم وتيسَّر فِعلُه، وما سمَحَتْ به نفوسُهم، وبلغَتْه طاقتُهم، من غير تضييقٍ ولا استقصاءٍ، بطلبِ الأكملِ الأتمِّ، بالبحث في البواطن؛ رفعًا للحرج، ودفعًا للعنت.
ثم الأمر بالعُرْف، وهو كلُّ معروف تَعرِفُه العقولُ السليمةُ، وتُقِرّ بحُسنه ونَفعِه، وأعلاه توحيدُ اللهِ -تعالى-، وكلُّ ما أمَر به -سبحانه- من الأعمال أو ندَب إليه، -كما رجَّح ابنُ جرير -رحمه الله-، ومنه صلةُ مَنْ قطع، وإعطاء مَنْ حرَم، والعفو عمَّن ظلَم.
عبادَ اللهِ: ولَمَّا كان أذى الجاهلين أمرًا محتومًا لا بدَّ منه، ولا سبيلَ إلى مَنعِه، جاء الأمرُ الثالثُ بالإعراض عن الجاهلينَ، فلا يُقابِل جهلَهم بمثله؛ انتقامًا لنفسه، وشفاءً لغيظه، بل يَصبِر على أذاهم، ويَحلُمُ عنهم، وتلك هي الحال الحسنى، والطريقة المثلى، التي كان عليها نبيُّ الرحمة والهدى -صلوات الله وسلامه عليه- مع أوليائه وأعدائه؛ استجابةً منه لأمر الله؛ فإن الله -تعالى-كما قال ابن القيم -رحمه الله-: "أمَرَه أَنْ يصبرَ نفسَه، مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه وألا تعدو عيناه عنهم، وأمره أَنْ يعفوَ عنهم، ويستغفرَ لهم، ويُشاوِرَهم في الأمر، وأن يُصلِّيَ عليهم، وأمَرَه أن يَهجُرَ مَنْ عصاه وتَخلَّفَ عَنْهُ حتى يتوبَ ويُراجِع طاعتَه، كَما هَجَرَ الثلاثةَ الذين خُلِّفُوا، وأمَرَه أن يُقيمَ الحدودَ على مَنْ أتى مُوجِباتِها منهم، وأَنْ يكونوا عِنْدَه في ذلكَ سواءً، شرِيفُهم ودنيئُهم، وأمَرَه -عَزَّ وَجَلَّ- في دَفْع عدوه من شياطِين الإنس، بأن يدفع بالتِي هي أحسن، فيُقابِلَ إساءةَ مَنْ أساء إليه بالإحسان، وجَهْلَه بالحِلْم، وظُلْمَه بالعفو، وقَطِيعَتَه بالصلة، وأخبَرَه أنه إنْ فعَل ذلك عادَ عَدُوُّه كأنه ولِيٌّ حميمٌ، وأمَرَه في دَفعِه عدوَّه من شياطِينِ الجنِّ بالِاستعاذة باللَّه منهم، وجمَع لَه هذينِ الأمرينِ في ثلاثةِ مواضعَ من القرآن؛ فقال سبحانه: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ * وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)[الْأَعْرَافِ: 199-200]، فأمَرَ -سبحانه- نبيه -صلى الله عليه وسلم- باتقاء شرِّ الجاهلينَ بالإعراض عنهم، وباتقاء شرِّ الشَّيطانِ بالاسْتِعَاذةِ منه، وجمَع له في هذه الآية مكارمَ الأخْلَاقِ والشِّيَمَ كلَّها".
والمطاع -يا عبادَ اللهِ- له مع الناس ثلاثة أحوال: فإنَّه لا بدَّ له مِنْ حقٍّ عليهم يَلزَمُهم القيامُ به، ومن أمرٍ يأمُرُهم به، ولابد من تفريطٍ وعُدوانٍ يقع منهم في حقه، فأُمِرَ أن يأخذ من الحق الذي عليهم ما طَوَّعَتْ به أنفسُهم، وسمَحَت به، وسَهُلَ عليهم ولم يَشُقَّ، وهو العفو الذي لا يَلحَقُهم ببذله ضررٌ ولا مشقةٌ، وأُمِرَ أن يأمرهم بالعُرْف، وإذا أمَر به أَنْ يأمُرَ بالمعروف أيضًا، لا بالعُنف والغلظة، وأمَرَه أن يُقابِل جهلَ الجاهلينَ منهم بالإعراض عنه دونَ أن يُقابِلَه بمثله؛ وبذلك يكتفي شرَّهم، فقال عزَّ وجلَّ: (قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ * رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ * ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ * وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ)[الْمُؤْمِنَونَ: 93-98].
وَقالَ -سبحانه-: (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)[فُصِّلَتْ: 34-36]، فهذه سيرتُه -صلى الله عليه وسلم- مع أهل الأرض، إنسِهم وجِنِّهم، مؤمنِهم وكافرِهم، وبه القدوة في كل ذلك، فقد قال سبحانه: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا)[الْأَحْزَابِ: 21].
نفعني اللهُ وإياكم بهديِ كتابِه، وبسُنَّةِ نبيِّه -صلى الله عليه وسلم-، أقول قَوْلِي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم، ولكافة المسلمين من كل ذنب، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الكريم المنَّان، أحمده -سبحانه-، وأشهد ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، ربُّ الثقلينِ من إنسٍ وجَانٍّ، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه، سيدُ ولدِ عدنانَ، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدِكَ ورسولِكَ محمدٍ، وعلى آلِه وصحبِه، والتابعينَ ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ.
أما بعدُ، فيا عبادَ اللهِ: إنَّ الإعراضَ عن الجاهلينَ؛ وهم السفهاءُ بتَرْك معاشَرَتِهم، وعدم مماراتهم، لا علاجَ أقوى لأذاهم، وأدحَرُ لعدوانهم، وأشدُّ على قلوبهم، من الإعراض عنهم، وإنما يجب هذا الإعراض -كما قال أهل العلم-؛ لأنهم لا يَطلُبُون الحقَّ إذا فَقَدُوه، ولا يأخذون فيما يُخالِف أهواءهم إذا وجَدُوه، ولا يَرعَوْن عهدًا، ولا يَحفَظُون وُدًّا، ولا يَشكُرُون من النعمة إلا ما اتصل مددُه، فإذا انقطع عادَ الشكرُ كُفرًا، واستحال المدحُ ذمًّا، والوصلُ هَجرًا، والوُدُّ بُغضًا؛ فاتقوا الله -عباد الله-، ولتكن الاستجابةُ لأوامر الله بأخذِ العفوِ، والأمرِ بالعُرفِ، والإعراضِ عن الجاهلينَ أحسنَ ما تعتَدُّونه لنَيْل كلِّ خيرٍ ودفعِ كلِّ شرٍّ، والسعادةِ في الدنيا، والفوزِ والفَلَاحِ والرفعة في الآخرة.
واذكروا على الدوام أن الله -تعالى- قد أمركم بالصلاة والسلام على خير الأنام، فقال في أصدق الحديث وأحسن الكلام: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56]، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارِكْ على محمد وعلى آل محمد، كما باركتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنكَ حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين، الأئمة المهديين؛ أبي بكر، وعمر، وعثمان وعلي، وعن سائر الآل والصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك، يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، واحمِ حوزة الدين، ودمِّر أعداء الدين، وسائر الطغاة والمفسدين، وألِّف بين قلوب المسلمين، ووحِّد صفوفهم، وأصلِح قادتهم، واجمَعْ كلمتَهم على الحق يا رب العالمين.
اللهم انصر دينك وكتابك وسُنَّةَ نبيكَ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وعبادكَ المؤمنينَ المجاهدينَ الصادقين، اللهم آمنَّا في أوطاننا، وأصلِحْ أئمتَنا وولاة أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا ووليَّ أمرنا، وهيِّئ له البطانة الصالحة، ووفِّقه لما تحب وترضى، يا سميع الدعاء، اللهم وفِّقه ووليَّ عهده إلى ما فيه خير الإسلام والمسلمين، وإلى ما فيه صلاح البلاد والعباد، يا مَنْ إليه المرجع يوم التناد.
اللهم آتِ نفوسنا تقواها، وزكِّها أنتَ خيرُ مَنْ زكَّاها، أنتَ وليُّها ومولاها، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلِح لنا آخرتَنا التي إليها معادُنا، واجعل الحياةَ زيادةً لنا في كل خير، واجعل الموتَ راحةً لنا من كل شر.
اللهم أحسِن عاقبتَنا في الأمور كلها، وأجِرْنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحوُّل عافيتك، وفُجاءة نقمتك، وجميع سخطك.
اللهم إنا نسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لنا وترحمنا، وإذا أردت بقوم فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين، اللهم اكفنا أعداءك وأعداءنا بما شئت يا رب العالمين، اللهم إنا نجعلك في نحور أعدائك وأعدائنا ونعوذ بك من شرورهم.
اللهم اشفِ مرضانا، وارحم موتانا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا، واختم بالباقيات الصالحات أعمالنا، اللهم إنا نعوذ بك من البرص والجنون والجذام، وسيئ الأسقام.
(رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[الْأَعْرَافِ: 23]، (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[الْبَقَرَةِ: 201]، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
التعليقات