عناصر الخطبة
1/حقيقة الحياة البرزخية 2/فتنة الحياة البرزخية 3/من صور عذاب القبر 4/من أسباب عذاب القبر 5/بعض الأحكام المتعلقة بالرؤيا.اقتباس
على العبد تجنب موجبات العذاب في القبر، ولقد حوى الحديث أحكاما كثيرة نمر على بعض منها؛ فمن ذلك: استحباب قص الرؤيا الصالحة على العالم أو المحب، وأن يكون ذلك بعد صلاة الفجر قبل أن ينسى تفاصيل الرؤيا، وأن ما رآه النبي -صلى الله عليه وسلم- هو في المنام وليس في...
الخطبة الأولى:
أما بعد: فيا أيها الناس: لقد قسم الله حياة الإنسان إلى ثلاث مراحل، الحياة الدنيا وهي التي نعيشها فوق الأرض، منذ ولادة الإنسان حتى وفاته، وحياة البرزخ وهي التي يقضيها الإنسان في قبره من دفنه إلى يوم البعث، وحياة الآخرة وهي الحياة الحقيقية التي لا موت بعدها، وتكون بعد البعث و النشور.
وكثير من الناس لا يعرف عن حياة البرزخ شيئا، وهذا ما سنتحدث عنه في هذه الخطبة بإذن الله؛ فالعبد إذا خرجت روحه، غسله أهله وكفنوه، ثم وضعوه في قبره، و هو أول منازل الآخرة؛ فيعيش في قبره ما كتب الله له حتى يبعث الناس، والناس في قبورهم يفتنون، ومن الفتنة السؤال؛ فيسأل عن ربه وعن نبيه وعن دينه، وعندئذ، (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ) [إبراهيم: 27].
ثم المؤمن ينعم، يفتح له في قبره فتحة إلى الجنة؛ فيراها ويأتيه من روحها وريحانها، وأرواحهم تسرح في الجنة، كما تشاء حتى تقوم الساعة، أما الكافر؛ فتفتح له فتحة إلى النار؛ فيأتيه من لهيبها وسمومها ويعرض على النار غدوا وعشيا، حتى تقوم الساعة، وكذا العاصي الذي لم يغفر له يعذب؛ فيعذب على قدر ذنوبه.
ولقد أُرِيَ النبي -صلى الله عليه وسلم- عذاب البرزخ والمعذبين فيه؛ فقد أخرج البخاري عن سَمُرة بن جندب -رضي الله- عنه قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يكثر أن يقول لأصحابه: "هل رأى أحدٌ منكم من رُؤيا، قال: فيَقصُّ عليه ما شاء الله أن يَقصَّ، وإنه قال لنا ذات غداة: "إنه أتاني الليلةَ آتيان، وإنهما ابتعثاني، وإنهما قالا لي انطلق، وإني انطلقتُ معهما، وإنا أتينا على رجل مضطجع، وإذا آخرُ قائم عليه بصخرة، وإذا هو يهوي بالصخرة لرأسه فيَثْلغ رأسَهُ (أي يكسره)؛ فيتدَهدَه الحجر ها هنا، أي يتدحرج)؛ فيتبعُ الحجرَ فيأخُذُه، فلا يَرجعُ إليه، حتى يصحَّ رأسُه كما كان، ثم يعودُ عليه فيفعل به مثلَ ما فَعَلَ به المرّةَ الأولى، قال: قلتُ لهما: سبحان الله ما هذانِ؟ قال: قالا لي: انطلق انطلق، قال: فانطلقنا، فأتينا على رجل مستَلْقٍ لقَفاهُ، وإذا آخرُ قائمٌ عليه بكَلُّوبٍ من حديد، وإذا هو يأتي أحدَ شِقّي وجهه فيُشرشِر شِدْقه إلى قَفاه (أي يشق جانب فمه) ومِنْخَره إلى قفاه، وعينه إلى قفاه، قال: ثم يتحول إلى الجانب الآخر فيفعل به مثل ما فعل بالجانب الأول، فما يَفرُغ من ذلك الجانب حتى يصحَّ ذلك الجانب كما كان، ثم يعودُ عليه فيفعل مثلَ ما فعل المرّة الأولى. قال: قلت: سبحانَ الله ما هذان؟ قال: قالا لي: انطلق انطلق، فانطلقنا؛ فأتينا على مثل التنُّور - قال: وأحسِبُ أنه كان يقول - فإذا فيه لَغَطٌ وأصواتٌ، قال: فاطلعْنا فيه، فإذا فيه رجالٌ ونساءٌ عراة، وإذا هم يأتيهم لَهَبٌ من أسفلَ منهم، فإذا أتاهم ذلك اللهب ضَوْضَوْا، قال: قلتُ لهما: ما هؤلاء؟ قال: قالا لي: انطلق انطلق، قال: فانطلقنا، فأتينا على نهر -حسِبتُ أنه كان يقول- أحمر مثل الدم، وإذا في النهر رجلٌ سابحٌ يَسبَح، وإذا على شَط النهر رجلٌ قد جَمَعَ عندَه حجارةً كثيرةً، وإذا ذلك السابحُ يسبحُ ما يسبحَ، ثم َّ يأتي ذلك الذي قد جمعَ عندَه الحجارةَ، فيفغَر له فاهُ (أي يفتحه) فيلقمُهُ حجراً فينطلقُ يسبَح، ثم يرجعُ إليه، كلما رَجَعَ إليه فغَرَ له فاهُ فألقمه حجراً، قال: قلت لهما: ما هذان؟ قال: قالا لي: انطلق انطلق، قال: فانطلقنا، فأتينا على رجل كريهِ المرآةِ، كأكرهِ ما أنتَ راءٍ رجلا مرآةً، فإذا عندَهُ نار يحُشُّها (أي يوقدها) ويسعى حولها، قال: قلت لهما: ما هذا؟ قال: قالا لي: انطلق انطلق، فانطلقنا، فأتينا على روضةٍ معْتمة (أي شديدة الخضرة) فيها من كل لون الربيع، وإذا بينَ ظهري الروضة رجلٌ طويلٌ، لا أكادُ أرى رأسَه طولاً في السماء، وإذا حَولَ الرجل من أكثرِ ولدانٍ رأيتهم قط، قال: قلت لهما: ما هذا ما هؤلاء؟ قال: قالا لي: انطلق انطلق، قال: فانطلقنا فانتهينا إلى روضةٍ عظيمة، لم أرَ روضةً قط أعظمَ منها ولا أحسن، قال: قالا لي: ارْقَ فيها، قال: فارتقينا فيها، فانتهينا إلى مدينة مبنيّة بلبنِ ذهبٍ ولبنِ فضةٍ، فأتينا بابَ المدينةِ فاستفَتحنا ففتحَ لنا فدخلناها، فتلقانا فيها رجالٌ شطرٌ من خَلْقِهم كأحسنِ ما أنتَ راءٍ، وشطرٌ كأقبحِ ما أنت راءٍ، قال: قالا لهم (أي الملكين) اذهبوا فقَعوا في ذلك النهر، قال: وإذا نهرٌ معترِض يجري كأنَّ ماءه المحضُ من البياض (أي صاف شديد البياض) فذهَبوا فوقعوا فيه، ثمَّ رجعوا إلينا قد ذَهبَ ذلك السوءُ عنهم، فصاروا في أحسَنِ صورة. قال: قالا لي: هذه جنة عدنٍ وهذاك منزلك، قال: فسمَا بصري صُعُداً (أي ارتفع) فإذا قصرٌ مثل الرَّبابةِ البيضاء (أي السحابة البيضاء المنفردة) قال: قالا لي: هذاك منزِلك، قال: قلت لهما: بارك الله فيكما ذراني فأدخُله، قالا: أما الآن فلا، وأنتَ داخِله. قال: قلتُ لهما: فإني قد رأيتُ منذ الليلةِ عَجبا، فما هذا الذي رأيت؟ قال: قالا لي: أما إنا سنُخبرُك".
اللهم قنا عذاب القبر وفتنة القبر أقول قولي هذا..
الخطبة الثانية:
أما بعد:
فيا أيها الناس: ولما فرغ النبي -صلى الله عليه وسلم- والملكان من مشاهد البرزخ؛ فسرا له ما رأى فقالا: "أما الرجلُ الأولُ الذي أتيتَ عليه يُثلَغ رأسه بالحجر؛ فإنه الرجلُ يأخذ القرآن فيرفضه وينام عن الصلاة المكتوبة، وأما الرجلُ الذي أتيتَ عليه، يُشرشَرُ شِدقُهُ إلى قفاه، ومنخَرُه إلى قفاه، وعينه إلى قفاه، فإنه الرجلُ يغدو من بيته، فيكذب الكِذبَةَ تبلغُ الآفاق، وأما الرجالُ والنساءُ العراةُ الذين في مثل بناءِ التنور؛ فإنهم الزُّناة والزواني، وأما الرجل الذي أتيتَ عليه يَسبح في النهر ويُلقم الحجارة، فإنه آكِلُ الرِّبا، وأما الرجلُ الكريه المرآةِ، الذي عند النار يحشُّها ويسعى حولها، فإنه مالكٌ خازن جهنم، وأما الرجلُ الطويلُ الذي في الروضة فإنه إبراهيم عليه السلام، وأما الولدانُ الذين حَوله فكلُّ مولودٍ ماتَ على الفطرة. قال: فقال بعضُ المسلمين: يا رسول الله، وأولاد المشركين؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: وأولاد المشركين، وأما القوم الذين كانوا شَطرٌ منهم حسناً وشطرٌ قبيحا، فإنهم قوم خلطوا عملاً صالحا وآخرَ سيئا، تجاوز الله عنهم".
عباد الله: هذا حديث عظيم، يحذر الناس من العذاب في القبر؛ فعلى العبد تجنب كل موجبات العذاب في القبر، ولقد حوى الحديث أحكاما كثيرة نمر على بعض منها؛ فمن ذلك:
استحباب قص الرؤيا الصالحة على العالم أو المحب، وأن يكون ذلك بعد صلاة الفجر قبل أن ينسى تفاصيل الرؤيا.
ومنها: أن ما رآه النبي -صلى الله عليه وسلم- هو في المنام وليس في اليقظة، كما أخرج الطبراني بسند جيد عن أبي أمامة، قال: "خرج علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد صلاة الصبح؛ فقال: إني رأيت الليلة رؤيا هي حق فاعقلوها".
ومنها: أن رؤيا الأنبياء حق، وهي من طرق الوحي الإلهي.
ومنها: أن النوم عن الصلاة من أسباب عذاب القبر، كما جاء في الرجل الذي يضرب بحجر في رأسه؛ فقد جاء في تفسيره، أنه الرجل يأخذ القرآن؛ فيرفضه، أي: لا يعمل به، وينام عن الصلاة المكتوبة.
ومنها: خطر الكذب، خصوصا في وسائل التواصل؛ فإنها تبلغ الآفاق في ثوان، والكذب من أسباب عذاب القبر.
ومنها: أن الزنا والربا من أسباب عذاب القبر، وقد وردت أحاديث صحيحة تبين أن هناك معاص أخرى توجب عذاب القبر على صاحبها إن لم يتب منها، كالنميمة وعدم التنزه من البول، والغلول من أموال المسلمين وغيرها.
ومنها: أن الجزاء من جنس العمل؛ فالزنى شهوته من أسفل؛ فجاءهم العذاب من أسفل، وأن آكل الربا شهوته من بطنه؛ فكان عقابه أكل الحجارة، والسباحة في الدم.
ومنها: أن من مات من أولاد المسلمين قبل البلوغ؛ فهو من أهل الجنة لأنه لم يدرك التكليف
ومنها: أن من عمل صالحا وآخر سيئا؛ فهو من أهل الجنة -بإذن الله-، كما قال -سبحانه-: "وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم"، وعسى في كلام الله للتحقيق.
معاشر المسلمين: لقد قدر الله على نبيه أن يرى هذه الرؤيا، ويقصها على أصحابه ليحذر الناس من الذنوب التي توجب عذاب القبر على مرتكبها ليحذر العبد؛ فإن عمر الإنسان في قبره أطول من عمره في حياته بمئات السنين؛ فليحذر أن يؤثر العاجلة الفانية على الباقية.
اللهم حبب إلينا الإيمان.
التعليقات