عناصر الخطبة
1/الدنيا دار ابتلاء وامتحان 2/العقوبات تضبط أحوال الناس 3/السجن وسيلة تأديب وإصلاح 4/وجوب رعاية الخارجين من عقوبة السجن 5/مؤازرة اللجنة الوطنية لرعايةِ السجناءِ والمفرجِ عنهم وأُسَرِهم 6/رسائل إلى السجناء.اقتباس
إن في كل مجتمع من مجتمعات المسلمين طائفةً من أبنائها زلَّت بها الأقدامُ، واستجابوا لداعي النفسِ والشيطانِ، وآثروا حظوظَ الدنيا الفانيةِ على رضا الرحمنِ، واستهانوا بالنواهي والزواجر، فوقعوا في المعاصي والآثام، وتعدوا حدود اللهِ -جل وعلا- في ظلمِ الآخرين. ابتُلوا في دينهِم وحياتِهم، ضَعفُوا في لحظاتِ ضعفٍ، فهوتْ أقدامُهم إلى غيرِ السبيلِ السويِ للمؤمنين. إنهم فئةٌ دعتْهم أنفُسهم للمعصيةِ فأُصِيبُوا بمحنةٍ، فوقعوا في أَسْرِ الأحكامِ والسجونِ.
الخطبة الأولى:
إنَّ الحمد لله؛ نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله؛ صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه, ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله -جل وعلا-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)[الحشر: 18].
عباد الله: إنَّ مِن حكمة الله -جل وعلا- في هذه الدنيا أنْ جعلَها دار ابتلاء وامتحان لعباده، وجعل الضعف صفةً لازمةً فيهم، وجعل للخطأ والزلل نصيبًا من حياتهم، فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "كل بَنِي آدم خطَّاء، وخير الخاطئين التوابون"؛ (رواه الترمذي)، وهم يقعون في مخالفة أوامرِ اللهِ -جل وعلا- وذلك بالتعدّي على حدوده أو ظلمِ الآخرين.
وقد وضَع الشارعُ الحكيمُ ضوابطَ محكمةً تضبُط حالَ الناس، وتقفُ بالمرصاد لكل من سوَّلت له نفسه التعدِّي على حقوقِ اللهِ -تعالى- أو حقوقِ الآخرين، ورتَّب على ذلك عقوباتٍ وأحكامًا رادعة لوقف تلك المظالمِ والتعدياتِ، ومن ذلك السجنُ الذي وُضِعَ كوَسِيلَة تَأدِيبِ للمُخطِئِ وَالعملِ على إِصلاحِ شَأنِهِ، وَتَنبِيهِهِ مِن غَفلَتِهِ، وَإِيقَاظِهِ مِن رَقدَتِهِ.
وقد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، أنه اتخذ مكانًا "حظيرةً"، بباب المسجدِ كان يحبسُ فيه النساءَ السبايا، أما الرجالُ فكانوا يُحبسون في البيوتِ والمسجدِ والخيامِ كيفما اتفق، من غيرِ أن يُعرَف أن هذا المكانَ مخصَّصٌ للحبس.
وورد أن عمرَ بن الخطاب -رضي الله عنه- كان أوَّل مَن خصَّص مكانًا للحبس، وذلك حين اشترى دارًا بمكة وجعلها سجنًا بعد أن اشتدَّت الرعيةُ، وتتابع الناسُ في المعاصي.
أما عليُّ بنُ أبي طالب -رضي الله عنه- فهو أوّلُ مَن بنى مكانًا للحبسِ في الإسلام، وكان ذلك في الكوفة.
وقد جعل الشارعُ الحكيمُ السجنَ عقوبةً من العقوبات التي تُوقعُ على الجاني في الدنيا، لتكون كفارةً له، فعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فِي مَجْلِسٍ، فَقَالَ: "بَايِعُونِي عَلَى أَنْ لا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلا تَسْرِقُوا؛ وَلا تَزْنُوا؛ وَقَرَأَ هَذِهِ الآيَةَ كُلَّهَا، فَمَنْ وَفَّى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَتُهُ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَسَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ إِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ"؛ (رواه البخاري).
وإذا تقرَّر ذلك فعلينا أن نُغَيِّرَ نظرتَنا للسجين بعد خروجِه من السجن، ونعتبرَه كمن لم يقعْ في هذا الذنبِ؛ لأنه أخذ عقابَه المطهِّرَ لذلك الذنبِ.
عباد الله: إن في كل مجتمع من مجتمعات المسلمين طائفةً من أبنائها زلَّت بها الأقدامُ، واستجابوا لداعي النفسِ والشيطانِ، وآثروا حظوظَ الدنيا الفانيةِ على رضا الرحمنِ، واستهانوا بالنواهي والزواجر، فوقعوا في المعاصي والآثام، وتعدوا حدود اللهِ -جل وعلا- في ظلمِ الآخرين.
ابتُلوا في دينهِم وحياتِهم، ضَعفُوا في لحظاتِ ضعفٍ، فهوتْ أقدامُهم إلى غيرِ السبيلِ السويِ للمؤمنين.
إنهم فئةٌ دعتْهم أنفُسهم للمعصيةِ فأُصِيبُوا بمحنةٍ، فوقعوا في أَسْرِ الأحكامِ والسجونِ.
هم أشخاصٌ غائبونَ بأنفسِهم حاضرون بمآسِيهم وآثارِ جُرمِهم، لا يرون الدنيا وهم من أهلها، أُودعوا غياهبَ السجونِ، وانقطعت صلتهم بإخوانهم وأصدقائهم، وحُجِبُوا عن أهليهم وذويهم.
هُم إخوةٌ لنا حادوا عن طريق الحقِّ، ووقعوا في حدودِ الربِّ -جل وعلا- فأصابهم الهمُّ والغمُّ، والضنكُ والكربُ، والتعاسةُ والحزنُ.
همْ من جملةِ المسلمين، وإخوتهُم ثابتةٌ في الدين، وهجرُهم والتبرؤُ منهم، والتساهلُ في أداءِ حقوقهِم تقصيرٌ فيما أوجبه اللهُ -جل وعلا- علينا تجاهَهَم.
ولقد اعتادَ بعضُ الناسِ احتقارَ إخوانِهم السُّجناءِ والنظرَ إليهم نظرةَ الشماتةِ، أو الاستخفافِ بهم والسخريةِ منهم، وقد غفلَ هؤلاءِ أنه يجب عليهم أن يحمدوا الله -تعالى- على نعمةِ العافيةِ، وألا يحقِروا مسلمًا لأنه كان سجينًا في يومٍ من الأيام لخطأٍ أو زللٍ، فبحسبِ امرئٍ من الشرِ أن يحقر أخاه المسلم؛ يقول -صلى الله عليه وسلم-: "لا تُظهرِ الشماتةَ لأخيك فيرحمُه الله ويبتليك"؛ (رواه الترمذي، وقال: حديث حسن).
ولا يجوزُ لعنُه، أو سبُّه، أو قذفُه، فكل ذلك محرمٌ شرعًا، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قال: أُتِيَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ، قَالَ: "اضْرِبُوهُ"، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-: فَمِنَّا الضَّارِبُ بِيَدِهِ؛ وَالضَّارِبُ بِنَعْلِهِ؛ وَالضَّارِبُ بِثَوْبِهِ؛ فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: أَخْزَاكَ اللَّهُ، فقَالَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تَقُولُوا هَكَذَا لا تُعِينُوا عَلَيْهِ الشَّيْطَانَ"؛ (رواه البخاري).
ولا تنافيَ بين ارْتكابِ النَّهْي وَثُبُوتِ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَرَسُولهِ فِي قَلْبِ منْ وقع في الجُرْمِ؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- أخبرنا بذلك في حديثِ الرجلِ الذي كان يشربُ الخمرَ، بأنه يحبُّ اللَّه ورسوله مع وجود ما صدَر منه.
عباد الله: لا يَحْسُن بالمجتمع أن يرى فردًا من أفرادِه في ضيقٍ وكربٍ، ويريدُ العودةَ إلى الجادة والأوبةَ، ثم لا يجدُ ممن حولَه إلا المؤاخذة بزلّتِه وتعييرَه بهفوتِه، وعدم غفرانِ ما مضى منه.
فعينُ الحكمةِ تُوجبُ علينا ألا نتركَ أولئكَ فَارغينَ رُوحِيًّا أو نَفسِيًّا أَو نتركهم مُفْلِسين ماديًّا، فيعودوا إِلى الماضي الأليم، بل يجبُ على المجتمع أن يشاركَ الجهاتِ الرسمية في إصلاحِ حالِهم، وإعانتِهم على التوبةِ والرجوعِ إلى صراطِ اللهِ المستقيم، ودلالتِهم على مواطنِ الصلاحِ والفلاحِ، وشغلهِم فيما يهذبُ نفوسَهم ويقومُ أخلاقَهم.
وتبشيرُهم بقبولِ الله -جل وعلا- لمن تابَ منهم، وأصلحَ فيما بقي منْ عُمرِه، وعدمِ تنفيرِهم أو تقنيطهم من رحمةِ اللهِ –تعالى-، وفتحِ أبوابِ الأملِ في وجوهِهم؛ ليستبشروا بمستقبلٍ أكثرَ إِشرَاقًا؛ ليساهموا مساهماتٍ طيبةً في مجتمعِهم.
وأن يتعاون معهم في إيجادِ العملِ المناسبِ لتوظيفهم، وإشغالهِم بما يعينُهم على تحمُّلِ ظروفِ الحياةِ القاسيةِ، وليتمكنوا من الإنفاقِ على أهليهِم وذويهِم، وسدّ حاجاتِهم.
عباد الله: إن الإسلامَ جعلَ المجتمعَ المسلمَ كأسرةٍ واحدةٍ، يتفقدُ بعضُه بعضًا، ويشعرُ كلُّ فردٍ فيه بمن حوله، ويربطهُ التكافلُ الاجتماعيُ الذي هو من أعظمِ سماتِ دينِنا الحنيف.
وإذا أمعنا النظرَ إلى أُسرِ المسجونين وجدناها -ضحيةً بلا ذنب- قد غابَ عنها عائُلها، وغَفل عنها مَن يعيشون حولها، وهذه الأُسَرُ تحتاجُ إلى مزيدِ رعايةٍ لفقدها من يقومُ عليها.
وإذا توفرتْ تلك الرعايةُ كان لها المردودُ الإيجابيُّ على السجين وعلى أُسْرته، أما إذا تم إهمالُها، فربما ترتَّب على ذلك انحرافُ أغلبِ أفرادِها، وكان ذلك عبئًا ثقيلاً على المجتمع.
فعلى أهلِ الخيرِ وأصحابِ الفضلِ والإحسانِ أن يبحثوا عن هذهِ الأُسَرِ في أحيائهِم، ويعملوا جادين على رفعِ معاناتِهم وتفريجِ كرباتِهم، وكما قال -صلى الله عليه وسلم-: "واللهُ في عونِ العبدِ ما كان العبدُ في عونِ أخيهِ" (رواه مسلم).
أَلا فَاتَّقُوا اللهَ -أَيُّهَا المُسلِمُونَ- وَأَعِينُوا إِخوَانَكُم وَلا تُعِينُوا عَلَيهِم، وَكُونُوا مَعَهُم وَلا تَكُونُوا حجر عثرة في حياتهم، وخذِوا بِأَيدِيهِم لما فيه الخير لهم في العاجل والآجل.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)[الحجرات: 10].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما سمعتم فاستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على فضلهِ وإحسانِه، والشكرُ له على توفيقِه وامتنانِه، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهدُ أن محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه الداعي إلى جنتهِ ورضوانِه، صلى الله عليه وآله وصحبه ومن سار على نهجِه إلى يومِ الدِّين وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فاعلموا -رحمكم الله- أن الدولةَ -حرسها الله- وضعتْ لجنةً وطنيةً لرعايةِ السجناءِ والمفرجِ عنهم وأُسَرِهم، والتي تهدف لمساعدتهم، وتقديمِ الخدماتِ الماديةِ والمعنويةِ لأسرهم، وتذليلِ المشكلاتِ التي تواجهُهم، وتحسينِ بيئةِ الإصلاحياتِ والسجونِ، وبذلِ كلِّ الأسبابِ لتهذيبِ النزلاءِ وإرشادِهم.
ونجاحُ هذه اللجنةِ مرهونٌ بتعاون المجتمع معهم، ومدِّ يدِ العونِ لهم وتفهُّمِ دورهِم وعدمِ نَبْذِ السجينِ بعد خروجِه بل استقطابِه حتى يتماثلَ للاستقامةِ والانخراطِ في المجتمع.
ورسالتي إلى أخي السجين أقول له: اعلم أنك على نفسِك جنيتْ، وبذنبك أُخِذْتَ، وأن ما نزل بك من مصابٍ سببُه الذنوبُ والمعاصي، وما دفَع اللهُ عنك أعظم، فاصطبرْ للقضاءِ، وارضَ بالقَدَرِ، وليكن السجنُ فرصةً لك لمراجعةِ حساباتِك.
ومهما كان جُرمُك فعفو الله أعظمُ، ومهما كانت سوابقُك فبابُ التوبةِ أوسع، وأيًّا كانت همومُك وغمُومك فبذكرِ الله يطمئنُّ قلبُك، وبطاعتِك لربك تنالُ رضاه ورحمتَه، وعليك بكثرةِ الاستغفارِ.
واعلم أن الفَرَجَ مع الكربِ، وأن مع العسر يسرًا، وجاهِدْ نفسكَ على تجاوزِ الخطأِ، وإبدالِ الماضي السيئ بالمستقبلِ الحسنِ.
واستحضرْ في نفسِك أنَّ البلايا كفاراتٌ ورفعةٌ للدرجاتِ لمن تابَ وأنابَ، وأنَّ الله -جل وعلا- برحمتِه يُبِّدلُ سيئاتِ التائبين الصادقين حسناتٍ.
واعلم أن أُسرتُك أمانةٌ في عنقكِ وصلاحك مؤشرٌ لصلاحِهم -بإذن الله-، وإياك أن تكون كثرةُ جرائِمك وترددُك على السجنِ سببًا في ضياعِهم وتشتتِهم وانحرافهِم.
أسأل الله -تعالى- أن يمنَّ علينا وعليكم بالعفوِ والعافيةِ في الدنيا والآخرة.
هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى، فقد أمرَكُم الله بذلك؛ فقال -جل من قائل عليمًا-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب:٥٦].
التعليقات