عناصر الخطبة
1/حصار المؤمنين في المدينة 2/تأملات في غزوة الأحزاب 3/ثبات المؤمنين ووقاحة المنافقين 4/دروس وعِبَر من غزوة الأحزاب 5/الحرب خدعة 6/الثبات والتفاؤل والدعاء.اقتباس
الدُّعاءُ واستِنزَالُ النَّصرِ مِن السَّماءِ، فَقَد دَعَا النَّبيُّ -صَلى اللهُ عليهِ وسلمَ- عَلى المَشركينَ، لَمَّا رَأى الكَربَ قَد أَصابَ المُسلمينَ، فَقَالَ: "اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ، سَرِيعَ الْحِسَابِ، اهْزِمِ الأَحْزَابَ، اللَّهُمَّ اهْزِمْهُمْ وَزَلْزِلْهُمْ"، كَلِماتٌ صَادِقاتٌ اختَرَقَتْ السَّمَاواتِ....
الخُطْبَة الأُولَى:
الحمدُ للهِ؛ نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ باللهِ من شُرورِ أنفسِنا ومن سيئاتِ أعمالِنا، من يهدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومن يُضْلِلْ فلا هادِيَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شَريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإنَّ أحسنَ الحديثِ كلامُ اللهِ -تعالى-، وخيرَ الهدي هديُ مُحمدٍ -صَلى اللهُ عليهِ وسلمَ-، وشرَّ الأمورِ مُحْدثاتُها، وكُلَّ مُحْدَثةٍ بِدْعَةٌ، وكُلَّ بِدْعَةٍ ضلالةٌ، وكلَّ ضَلالةٍ في النَّارِ.
ما الذي يَحدثُ عِندَما تُحَاصَرُ فئةٌ مُؤمنةٌ في مَكانٍ ضَيِّقٍ مِنَ الأرضِ؟، اسمَعوا للقُرآنِ وَهو يَقُصُّ الحَقَّ.
حَدَثَ هَذا في شَهرِ شَوالٍ مِنَ السَّنةِ الخَامسةِ للهِجرةِ عِندَما حَاصرَ عَشرةُ آلافِ مُقَاتلٍ مِنْ مُشركي العَربِ المَدينةَ مِن أَمامِها، ونَقَضَ يَهودُ بَنو قُريظةَ العَهدَ مِن خَلفِها، كَما وَصَفَ اللهُ -تَعالى- هَذا المَوقِفَ بِقَولِهِ: (إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا)[الأحزاب: 10].
وفي مِثلِ هَذهِ المَواقفِ الثَّقيلةِ، تَظهَرُ المَعادِنُ الأصِيلةُ، فَأما المُنَافِقونَ فَقَالوا: (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا)[الأحزاب: 12]، وأَما المؤمنونَ فَقَالوا: (وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا)[الأحزاب: 22]، وهَكَذا في المَواقِفِ العَصيبةِ لِلمُسلِمينَ، تَرى ثَباتَ المُؤمنينَ، وتَعجبُ مِن وَقَاحةِ المُنَافقينَ.
في ذلكَ الحِصارِ دُروسٌ لأولي الألبابِ، ظَهَرتْ فِيها شَمسُ الحَقيقةِ بَعدَ أن كُشفَ عَنها السَّحابُ، وإليكُم بَعضُها:
مِن الدُّروسِ: ذَلكَ التَّفاؤلُ والأمَلُ الكَبيرُ في قُلوبِ المُؤمنينَ؛ لأنَّهم يَعلَمونَ أنَّ النَّصرَ مِن عِندِ اللهِ -تَعالى- مَهما كَانَ العَدَدُ والعَتادُ، حَتى إنَّ النَّبيَّ -صَلى اللهُ عليهِ وسلمَ- ضَربَ صَخْرَةً عَظِيمَةً شَدِيدَةً، وَقَالَ: "بِاسْمِ اللَّهِ"؛ فَكَسَرَ ثُلُثَهَا، وَقَالَ: "اللَّهُ أَكْبَرُ، أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الشَّامِ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُبْصِرُ قُصُورَهَا الْحُمْرَ السَّاعَةَ"، ثُمَّ ضَرَبَ الثَّانِيَةَ فَقَطَعَ ثُلُثًا آخَرَ، فَقَالَ: "اللَّهُ أَكْبَرُ، أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ فَارِسَ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُبْصِرُ قَصْرَ الْمَدَائِنِ الْأَبْيَضَ"، ثُمَّ ضَرَبَ الثَّالِثَةَ، فَقَالَ: "بِاسْمِ اللَّهِ"، فَقَطَعَ بَقِيَّةَ الْحَجَرِ، وَقَالَ: "اللَّهُ أَكْبَرُ، أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الْيَمَنِ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُبْصِرُ أَبْوَابَ صَنْعَاءَ مِنْ مَكَانِي هَذَا".
والمُنَافقِونَ كَانوا عَلى عَكسِ ذَلكَ تَماماً؛ يَقولونَ: "يَعِدُنَا مُحمَّدُ أَنْ نَفتَحَ كُنوزَ كِسرَى وَقَيصرَ، وَأَحدُنَا اليَومَ لا يَأَمَنُ عَلى نَفسِهِ أَنْ يَذهبَ لِقَضاءِ الحَاجةِ".
ومِن الدُّروسِ: العِزةُ بالإسلامِ والصَّبرُ والثَّباتِ، وعَدمُ قَبولِ المُسَاوَماتِ والتَّنَازلاتِ، فَقَد استَشَارَ النَّبيُّ -صَلى اللهُ عليهِ وسلمَ- سَعدَ بنَ مُعَاذٍ وسَعدَ بنَ عُبَادةَ سَيِّدا الأوسِ والخَزرَجِ، عَلى أن يُصالحَ غَطَفَانَ عَلى ثُلثِ ثِمَارِ المَدينةِ وَيَرجَعوا، شَفقةً بِحَالِ المُسلمينَ، فَقَالا: يَا رَسولَ اللهِ، إنْ كَانَ اللهُ أَمَركَ بهذا فَسمعًا وَطاعةً، وإنْ كَانَ شَيء تَصنعَه لَنَا فَلا حَاجةَ لَنَا فِيهِ، قَد كُنَّا نَحنُ وَهؤلاءِ عَلى الشِّركِ وعِبادةِ الأوثانِ، لا نَعبدُ اللهَ ولا نَعرِفُهُ، وَهُم لا يَطعَمونَ مِنَّها ثَمَرةً إلا بِيعًا أو قِرًى، أَفَحِينَ أَكرَمَنَا اللهُ بالإسلامِ وَهَدَانا إليهِ وأَعزَّنَا بِكَ وَبِهِ نُعطِيهم أَموالَنا؟!، واللهِ مَا لَنا بهذا مِنْ حَاجةٍ، واللهِ لا نُعطِيهم إلا السَّيفَ حَتى يَحكُمَ اللهُ بَينَنا وبَينَهم، فَفرِحَ -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامِ- بِما رَأى من الثَّباتِ والصُّمودِ.
ومِن الدُّروسِ: الحَذرُ مِن بَثِّ الأخبَارِ التي تُضْعِفُ المُؤمنينَ، وتَنشِرُ الخَوفَ بَينَهم، فَعِندَما سَمِعَ النَّبيُّ -صَلى اللهُ عليهِ وسلمَ- عَن نَقضِ يَهودِ بني قُريظَةَ لِلعَهدِ، بَعَثَ بَعضاً مِن أَصحَابِهِ ليَتَثَبَّتُوا مِن الخَبرِ، وَقَالَ لَهم: "انْطَلِقُوا حَتَّى تَنْظُرُوا، أَحَقّ مَا بَلَغَنَا عَنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ أَمْ لَا؟، فَإِنْ كَانَ حَقًّا فَالْحَنُوا لِي لَحْنًا أَعْرِفُهُ، وَلَا تَفُتُّوا فِي أَعْضَادِ النَّاسِ، وَإِنْ كَانُوا عَلَى الْوَفَاءِ فِيمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ فَاجْهَرُوا بِهِ لِلنَّاسِ"، فَلَما رَجَعوا قَالوا: "عَضَلٌ وَالْقَارَّةُ"، أَيْ: غَدْرٌ كَغَدْرِ عَضَلٍ وَالْقَارَّةِ بِأَصْحَابِ الرَّجِيعِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلى اللهُ عليهِ وسلمَ، الوَاثِقُ دَائمًا بِوَعدِ اللهِ تَعالى-: "اللَّهُ أَكْبَرُ، أَبْشِرُوا يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ".
أقولُ قَولي هذا، وأستغفرُ اللهَ العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولسائرِ المؤمنينَ فاستغفروه إنَّهُ هو الغَفورُ الرَّحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ على إحسانِه، والشُّكرُ له على توفيقِه وامتنانِه، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شَريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه، صلى اللهُ عليه وآلِه وصَحْبِه، وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: وَبَعدَ قُرابةِ الشَّهرِ مِن الحِصارِ في جُوعٍ وبَردٍ شَديدٍ، بَدأتْ بَشَائرُ الفَرَجِ تَلوحُ في سَماءِ الكَربِ، وَذلكَ لأمرينِ:
الأولُ: أَتَى نُعيمٌ بنُ مَسعودٍ لِرَسولِ اللهِ -صَلى اللهُ عليهِ وسلمَ- فَقَالَ لَهُ: "يا رَسولَ اللهِ، إنِّي أَسلَمتُ، وإنَّ قَومي لم يَعلمُوا بإسلامي، فَمُرني بِمَا شِئتَ"، فَقَالَ -صَلى اللهُ عليهِ وسلمَ-: "إنَّمَا أَنْتَ فِينَا رَجُلٌ وَاحِدٌ، فَخَذِّلْ عَنَّا إنِ اسْتَطَعْتَ، فَإِنَّ الْحَرْبَ خُدْعَةٌ"، فَنَقلَ كَلاماً بينَ اليَهودِ وبينَ المُشركينَ مِمَّا سَبَّبَ بِهُ الشَّكَّ والفُرقَةَ والاختِلافَ بينَهم، وَهَكَذا يَنبغي في الحَربِ استِخدَام الحِيَلِ السِّياسيةِ، والضُّغوطِ الاقتِصَاديةِ، التي تُسَبِّبُ فُرقةَ الأعداءِ، ونُصرةَ الأصدِقاءِ.
الثَّاني: الدُّعاءُ .. الدُّعاءُ .. الدُّعاء، واستِنزَالُ النَّصرِ مِن السَّماءِ، فَقَد دَعَا النَّبيُّ -صَلى اللهُ عليهِ وسلمَ- عَلى المَشركينَ، لَمَّا رَأى الكَربَ قَد أَصابَ المُسلمينَ، فَقَالَ: "اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ، سَرِيعَ الْحِسَابِ، اهْزِمِ الأَحْزَابَ، اللَّهُمَّ اهْزِمْهُمْ وَزَلْزِلْهُمْ"، كَلِماتٌ صَادِقاتٌ اختَرَقَتْ السَّمَاواتِ، فَمَا الذي حَدثَ؟، أَرسلَ اللهُ عَليهم جُندًا من الرِّيحِ، فَجَعَلتْ تُقَوِّضُ خِيامَهم، ولا تَدعُ لهم قِدرًا إلا كَفَأتَها، ولا طُنُبًا إلا قَلَعتْهُ، ولا يَقِرُّ لَهم قَرارٌ، حَتى إنَّ الرَّجلَ مِنهم لم يَكَدْ يَهتدي إلى رَحلِهِ، قَالَ -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-: "نُصِرْتُ بِالصَّبَا، وَأُهْلِكَتْ عَادٌ بِالدَّبُورِ".
وَأَرسلَ اللهُ جُندًا مِنَ المَلائكةِ يُزلزلونَهم، وَيُلقونَ في قُلوبِهم الرَّعبَ والخَوفَ، كَمَا قَالَ: -تَعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا)[الأحزاب: 9]، فَتَحَقَّقَ نَصرٌ عَظيمٌ بالدُّعاءِ، ومَا أدراكَ ما الدَّعاءِ!
أَتَهْزَأُ بِالدُّعَاءِ وَتَزْدَرِيهِ *** وَمَا تَدْرِي بِما صَنَعَ الدُّعَاءُ؟
سِهَامُ اللَّيلِ لا تُخْطِي وَلَكِنْ *** لها أمدٌ وللأمدِ انقضاءُ
اللهمَّ يَا جَامعَ الشَّتاتِ، ومُخرجَ النَّباتِ، وَسَامعَ الأصواتِ مِنْ فَوقِ سَبعِ سَمواتٍ، اللهمَّ يَا مُجيبَ الدَّعواتِ، وَيَا قَاضيَ الحَاجاتِ، ويَا فَارجَ الكُرباتِ، يَا عَليماً بِحَالِنا وَحَالِ إخوانِنا في فِلسطينَ.
اللهمَّ اجعَلْ لَهم مِن كُلِّ هَمٍّ فَرَجاً، وَمِن كُلِّ ضِيقٍ مَخرَجاً، اللهمَّ وَحِّدْ صُفوفَهم، وَسَدِّدْ رَميَهم، وأَعلِ كَلمتَهم، وانصرهم على عَدوكِ وَعدوهم.
اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ، سَرِيعَ الْحِسَابِ، اهْزِمِ اليَهُودَ وَأعوَانَهم، اللَّهُمَّ اهْزِمْهُمْ وَزَلْزِلْهُمْ، اللهمَّ شَتِّتْ شَملَهم، وفَرِّقْ جَمعَهم، واجعلِ الدَّائرةَ عَليهم.
اللهمَّ أَنزلْ عَليهم رِجزَكَ وَغَضبَكَ وَمَقتَكَ وَبَأسَكَ وعَذابَكَ إلهَ الحَقِ، اللهمَّ خَالِفْ بينَ كَلمتِهم، وَسَلِّطْ عَليهم عَدواً مِنْ أَنفسِهم يَسومَهم سُوءَ العَذابِ، يَا رَبَّنا وإلهَنَا ومَولانا.
التعليقات