عناصر الخطبة
1/عقيدة أهل السنة في الإيمان 2/أهمية حسن العهد وفضله 3/وفاء النبي -صلى الله عليه وسلم- مع زوجته خديجة بعد موتها 4/قصص رائعة في وفاء الصحابة وحسن عهدهم 5/أناس يجب صلتهم وحسن التعامل معهم 6/الحث على صلة من كان لنا بهم علاقة سابقةاهداف الخطبة
اقتباس
إن حسن العهد، يكون بحسن العشرة، ورعاية الحرمة، وزيادة المحبة والألفة، ولا يمكن أن يُحسن الإنسان عهده بإنسان وهو لم يحبه أو يألفه، أو يعاشره مدة من الزمان، فإن الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف. إن حسن العهد من الإيمان، بين...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله ...
أما بعد:
عقد البخاري في صحيحه في كتاب الأدب باباً، فقال: "باب حسن العهد من الإيمان".
إن من عقيدتنا أهل السنة: أن الإيمان قول وعمل، وهو اعتقاد بالقلب، وقول باللسان، وعمل بالجوارح، ولهذا الإيمان خصال وشعب أصلها، وأعلاها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق.
ومن تلك الشعب: حسن العهد، ورعاية الحرمة، فإن هذا من شعب الإيمان، ومن خصاله وصفاته.
إن حسن العهد، يكون بحسن العشرة، ورعاية الحرمة، وزيادة المحبة والألفة، ولا يمكن أن يُحسن الإنسان عهده بإنسان وهو لم يحبه أو يألفه، أو يعاشره مدة من الزمان، فإن الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف.
إن حسن العهد من الإيمان، بين زوج بزوجته، وابن بأبيه، وأب بولده، وصديق بصديقه، وجار بجاره، وتلميذ بشيخه.
ولقد حقق النبي الكريم -صلوات ربي وسلامه عليه- هذا المعنى، أتم تحقيق، وكذلك صحابته الكرام -رضوان الله عليهم-، حققوا هذا المعنى تحقيقاً كبيراً.
إن الرسول -صلى الله عليه وسلم-، لم ينس العهد لزوجته خديجة بنت خويلد -رضي الله عنها-، بعد موتها، حفظ عهدها، ولم ينس تلك الأيام التي عاشت معه، تقول عائشة -رضي الله عنها- ما غرتُ على أحد من نساء النبي -صلى الله عليه وسلم- ما غرتُ على خديجة، هلكت قبل أن يتزوجني وما رأيتها، ولكن كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يكثر من ذكرها، وربما ذبح الشاة ثم يقطعها أعضاءً، ثم يبعثها في صدائق خديجة، فيهدى في خلائلها منها ما يسعهن، تقول عائشة فربما قلت له: كأنه لم يكن في الدنيا امرأةٌ إلا خديجة؟ فيقول لها: "إنها كانت وكانت، وكان لي منها الولد".
وتقول عائشة: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا ذكر خديجة لم يكن يسأم من ثنائه عليها واستغفاره لها، فذكرها يوماً، تقول فحملتني الغيرة، فقلت: لقد عوضك الله من كبيرة السن، قالت: فرأيته غضب غضباً، أُسقطتُ في خلدي، وقلت في نفسي: اللهم إن أَذهَبْتَ غضب رسولك عني، لم أعد أذكرها بسوء. فلما رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- ما لقيت، قال: كيف قلت؟
والله لقد آمنت بي إذ كذبني الناس، وآوتني إذ رفضني الناس، ورزقت منها الولد، وحُرمتموه مني، قالت عائشة: فغدا وراح عليّ بها شهراً. شهر كامل يروح ويغدو على عائشة في شأن خديجة، مع أنها قد ماتت وفارقته لكنه لا يرضى أبداً أن يكلمه أحدٌ في تذكره لها، وحفظه ورعايته لعهدها، وعشرتها التي كانت بينهما في سالف الأزمان، وكيف لا يذكرها وهو يرى أولادها وبناتها بعد فراقها بين يديه، وكيف لا يحسن عهدها وقد كانت وكانت.
قال النووي -رحمه الله-: في هذا الحديث دلالة بحسن العهد، وحفظ الود، ورعاية حرمة الصاحب والمعاشرة حياً وميتاً، بل وإكرام معارف ذلك الصاحب.
ولهذا كان عليه السلام يكرم حتى معارف وصواحب خديجة، حباً لها، ورعاية لعهدها، فيرسل إليهن الطعام ما يكفيهن.
ومرة استأذنت هالة بنت خويلد وأصلها في الصحيحين، أخت خديجة، على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فعرف استئذان خديجة، لشبه الصوت بينهن فتذكر خديجة، قالت عائشة فارتاع لذلك، أي فزع، وفي رواية فارتاح لذلك أي سروراً بسماع صوت يشبه صوت خديجة، فقال: اللهم هالة، أي اللهم اجعلها هالة، وعائشة تنظر لهذا التغير في النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقالت: فغرت، وقلت، ما تذكر من عجوز من عجائز قريش، حمراء الشدقين قد سقطت أسنانها، وقد أبدلك الله خيراً منها. فغضب النبي -صلى الله عليه وسلم- غضباً شديداً، فعرفت عائشة وقالت: والذي بعثك بالحق لا أذكرها بعد هذا إلا بخير.
ومرة جاءت عجوز إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فأحسن النبي -صلى الله عليه وسلم- استقبالها، فقال لها، كيف أنتم؟ كيف حالكم ؟كيف كنتم بعدنا؟ قالت: بخير بأبي أنت وأمي يا رسول الله، فلما خرجت، قلت: يا رسول الله تُقبل على هذه العجوز هذا الإقبال؟ فقال: "يا عائشة إنها كانت من صواحب خديجة، وإنها كانت تأتينا زمان خديجة، وإن حسن العهد من الإيمان".
أما الصحابة -رضي الله عنهم-، فإنهم تعلموا من النبي -صلى الله عليه وسلم- أن حسن العهد من الإيمان، يخرج أبو بكر الصديق مع علي بن أبي طالب -رضي الله عنهما- من صلاة العصر، بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- ، فإذا به يرى الحسن يلعب مع الصبيان، فيتذكر حبيبه صلوات ربي وسلامه عليه، فيأخذه ويحمله، ويقول: "بأبي شبيه بالنبي لا شبيه بعلي".
ثم يذهب ويحمله، كما كان يحمله عليه السلام رعاية، وحسن عهد لعشرته عليه الصلاة والسلام.
وكان أسامة بن زيد أحب الناس إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلما مات النبي -عليه السلام-، أحبه الصحابة أكثر من أولادهم؛ لأنه كان أحب الناس إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال عليه السلام: "من أحبني فليحب أسامة".
وهذا من رعاية الحرمة، وحسن العهد، بالذي كان بينهم وبين النبي -صلى الله عليه وسلم-.
فيا عباد الله: من كان بينه وبين إنسان آخر مودة، ومحبة وألفة، فإن من الإيمان وحسن العهد أن لا ينساه ولو كان ميتاً.
فيا أخي الحبيب: أما كانت لك علاقة ومودة مع إنسان ما؟ فما هي أخباره الآن، هل نسيته، هل سألت عنه؟ قد تكون العلاقة، علاقة زوج بزوجته، فماتت وتركته، فمن حسن العهد ورعاية الحرمة والعشرة أن لاّ ينساها، بل يتصدق عنها، ويرسل إلى صديقاتها ومعارفها، ويدعو لها، خصوصاً إذا كان له منها ولد، يُذكره بها عندما يراه، كما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يرى فاطمة ورقية وزينب وأم كلثوم بنات خديجة، كان يراهن بين يديه فيذكر الزمن السالف مع خديجة، فيُحسن عهدها وذكرها، ويتصدق عنها، ويرسل إلى معارفها، فإن حسن العهد من الإيمان.
وقد تكون العلاقة بينك وبين إنسان ما، علاقة أب بابنه، أبٌ فقد ابنه أو بنته إما بسبب مرض أو غيره من عوارض الدنيا. فبقيت الذكريات، وبقيت أشياء عالقة في ذهن الأب لا يمحها الدهر، ولا تنسيه الزمن عن ابنه، فمن حسن العهد ومن رعاية تلك الذكريات ألا يُنسى هذا الابن، بل يُدعى له ويُستغفر عنه، ويُتصدق عنه، ولا ينسى الإنسان حبيبه وأليفه من أهل الدنيا، فإن حسن العهد من الإيمان.
وقد تكون العلاقة، علاقة ابن بأبيه، بالأمس القريب كان ذلك الأب يملأ البيت بذكره بالأمس القريب كان ذلك الأب يلتف حوله الأبناء والأحفاد، ذكريات لا تُنسى، ووشائج قربى لا تُبلى، فيا أيها الابن: هل تذكر أباك الآن أم أنك لا تذكره؟ من حسن العهد ألا تنساه، بل تدعو له، وتستغفر له، وتتصدق عنه، وتسأل عن أصدقائه، كيف هم؟ وما هي أخبارهم؟ حباً لأبيك، ورعاية لما كان بينك وبينه، قال صلى الله عليه وسلم: "إن أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه"[رواه مسلم].
فيا أيها الابن البار: جدد العهد، واحمي الذكريات الحسنة السالفة بينك وبين أبيك.
كان عبد الله بن سلام مآخياً لأبي الدرداء، بينهما أخوة، ومحبة ومودة، فلما مات عبد الله بن سلام ذهب ولده يوسف إلى الشام ليسأل عن أبي الدرداء لم يذهب إلا تجديداً للعهد، ورعاية للحرمة والألفة، وتأدية للحقوق، فإن أبا الدرداء كان محباً لعبد الله بن سلام، فجاءه يوسف وهو يحتضر، قد قارب مفارقة الدنيا، ففرح به أبو الدرداء.
ومرة كان ابن عمر يمشي في الصحراء على دابته فقابله أعرابي فتوقف ابن عمر ونزل، ووقف معه، وقال: ألست فلان بن فلان؟ قال: بلى، ثم ألبسه عمامة كانت عليه، وقال: له اشدد به رأسك، ثم أعطاه دابته، وقال: اركب هذا، فتعجب أصحاب ابن عمر، وقالوا له: إن هذا من الأعراب، وهم يرضون بالقليل، فقال: إن أبا هذا كان وِدّاً لعمر، وإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن من أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه، بعد أن يولي".
والقصة في صحيح مسلم.
وقد مات عمر، لكن ابنه عبد الله، قد حفظ العشرة والمودة لأبيه، وهذا من حسن العهد، وإن حسن العهد من الإيمان.
أيها المسلمون: وليس كل الأبناء هكذا مع آبائهم، بل إن منهم من لم يذكر أباه أو أمه، بعد وفاتهما حتى الآن، ولم يشغل نفسه بحفظ الذي كان بينهما، من عشرة وعطف وحنان، فليست هذه أخلاق أهل الإيمان، وليس هذا من حسن العهد بالوالدين.
والناس مختلفون في هذا بحسب إيمانهم.
ومن الرجال معالمٌ ومجاهل *** ومن النجوم غوامضٌ ودراري
والناس مشتبهون في إيرادهم *** وتفاضل الأقوام في الإصدار
فيا أهل الإيمان: قد تكون العلاقة علاقة أخ بأخيه أو علاقة قريب بقريبه، إما بخال لا ينساه، أو بعم قد أحبه وواساه، أو ابن عم بينه وبينه من المودة والمعزة الشيء الكثير، ثم فرقت الأيام بينهما، إما بسفر أو بموت، كيف عهدك به، هل سألت عنه، هل أحسنت عهده، فإن حسن العهد من الإيمان؟
أقول هذا القول، وأستغفر الله ...
الخطبة الثانية:
الحمد لله ...
أما بعد:
فيا أيها الإخوة المسلمون: اعلموا -رحمني الله وإياكم- بأن حسن العهد من الإيمان، وهي خصلة من خصال الأوفياء والصالحين، وله صور عديدة، وأشكال متنوعة، ذكرت لكم نماذج منها، ومنها: أيضاً ما يكون بين الجيران علاقة وأي علاقة، يكون بينك وبين جار لك تآلفتما وتحاببتما، فترة من الزمن، ثم تفارقتما.
كان بينك وبينه معروف وصلات، زيارات ولقاءات، الآن ما هي أخباره؟ وما هي أحواله؟ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليكرم جاره".
فأين هو هذا الجار؟ وماذا جرى عليه؟
وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه، وهو يعلم به"[رواه الطبراني بسند صحيح].
أين حسن العهد، ورعاية الحرمة والألفة بينكما، اسأل عنه، فإن هذا من حسن العهد، واعلم بأن حسن العهد من الإيمان.
وقد تكون العلاقة، علاقة صديق بصديقه، ألجأتك ظروفك العملية أو الدراسية أن تلتقيا، ثم تفترقا فكيف أنت معه الآن، هل اتصلت به؟
لربما دخل المستشفى وخرج، ولم تعلم بذلك، ولربما رزق بمولود فلم تهنئه، ولربما مات له ولد فلم تعزيه، ولربما مات هو بنفسه، فلم تتصل عليه، فما هذا الجفاء؟ وأين حسن العهد، أما علمت بأن حسن العهد من الإيمان؟
قال الشافعي -رحمه الله-: "الحر من راعى وداد لحظة".
لو جرت بينك وبين صديق وحبيب مودة لحظة، فإن الحر يراعي ذلك، ويحسن عهد صاحبه بسبب تلك اللحظة، فكيف بمن صداقتك معه سنين، وجرت بينكم أحداث وذكريات.
إذا المرء لا يرعاك إلا تكلفا *** فدعه ولا تكثر عليه التأسفا
ففي الناس أبدال وفي الترك راحة *** وفي القلب صبر للحبيب ولو جفا
فما كل من تهواه يهواك قلبه *** ولا كل من صافيته لك قد صفا
إذا لم يكن صفو الوداد طبيعة *** فلا خير في خل يجيء تكلفا
ولا خير في خل يخون خليله *** ويلقاه من بعد المودة بالجفا
وينكر عيشاً قد تقادم عهده *** ويظهر سراً كان بالأمس قد خفا
سلام على الدنيا إذا لم يكن بها *** صديق صدوق صادق الوعد منصفا
وقد تكون العلاقة، علاقة تلميذ، بأحد المشايخ أو الدعاة فلطالما سمعت منه كلمات وتوجيهات، دروس ومحاضرات، ولطالما طربت أذناك بسماع صوته وتحرك قلبك، من جودة إلقاءه، فتعلمت درساً، وفقهت حكماً، وعرفت واقعاً، وسمعت بقضايا لم تكن تخطر لك على بال.
ثم حال بينك وبينه، أحد عوارض الدنيا، إما موت، أو غيره، فكيف علاقتك به الآن، هل تدعو له، هل تجدد عهدك به، أم ذلك الحماس، وتلكم اللحظات والذكريات، أصبحت اليوم نسياً منسياً.
أما علمت بأن حسن العهد من الإيمان؟
فيا عبد الله: راع وداد اللحظات الماضية، والذكريات السالفة، مع من تحب، ولا تنسه، وأحسن العهد بذلك، راع حرمة الألفة والمودة، التي عُقدت بينكما في يوم من الأيام، فإن حسن العهد من الإيمان.
اللهم اجعلنا من المحافظين على شعب الإيمان، اللهم جدد الإيمان في قلوبنا، اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، وإخواننا وأخواتنا وأبنائنا وبناتنا وأزواجنا.
ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ...
التعليقات