عناصر الخطبة
1/ تفكر المؤمنين في آيات الله 2/ أوصاف حرارة الشمس يوم القيامة وأحوال الناس في ذلك اليوم 3/ حرص الناس على الوقاية من حرارة شمس الدنيا وغفلتهم عن سبل الوقاية من حرارة الشمس يوم القيامةاهداف الخطبة
اقتباس
الناس قد اجتمع عليهم في ذلك الموقف الرهيب، حرُّ الشمس مع وَهَج الأنفاسِ وتزاحمِ الأجسام، ففاض العرقُ منهم على وجه الأرض، ثم على أقدامهم، على قدر مراتبهم ومنازلهم عند ربهم من السعادة والشقاء...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً.
المؤمن يعيش حياته دائمًا بين التفكر والاعتبار، فيرى أن الزمان بليله ونهاره وشهوره وأعوامه، هو آية من آيات الله -جل وعلا-، آية جعلها الله موعظة وذكرى لأولي الألباب من عباده: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [آل عمران: 191].
ومن الآيات التي جعلها الله موعظة وعبرة لمن أراد أن يتعظ أو يعتبر: ما نعيشه هذه الأيام من حرارة الصيف.
ولا تسأل عن حال الناس في الصيف مع شدة الحر، فالشمس تزداد توهجا وسطوعا، وتُرسل سياط لهيبها موجعة للأبدان، فيَهرُب الناس منها وهم يطلبون الظل الظليل، والهواء العليل، والماء البارد السلسبيل.
فالصيف كلما اشتد حره، وقف بيننا واعظا ومذكرا بأمرين عظيمين، ألا وهما: شمسُ الموقفِ العظيم يومَ القيامة، ونارُ جهنم.
فإذا كنا لا نطيق حرارة شمس الصيف، ولا نتحمل الوقوف فيها دقائق معدودة، فكيف بشمس الموقف العظيم، بحجمها الهائل، وحرارتها المُحرقة، ولهَبِها المُتوهج؟
كيف بها وقد دنت من رؤوس الخلق في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، وقد طال الوقوف، وعظُم الكرب، ولا مهربَ ولا مفر، وازدحمت الأمم وتضايقت، ودفع بعضُهم بعضا، واختلفت الأقدام، وانقطعت الأعناق من العطش.
الناس قد اجتمع عليهم في ذلك الموقف الرهيب، حرُّ الشمس مع وَهَج الأنفاسِ وتزاحمِ الأجسام، ففاض العرقُ منهم على وجه الأرض، ثم على أقدامهم، على قدر مراتبهم ومنازلهم عند ربهم من السعادة والشقاء، روى مسلم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "تُدْنَى الشَّمْسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْخَلْقِ حَتَّى تَكُونَ مِنْهُمْ كَمِقْدَارِ مِيلٍ" قَالَ سُلَيْمُ بْنُ عَامِرٍ: فَوَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا يَعْنِي بِالْمِيلِ أَمَسَافَةَ الْأَرْضِ أَمْ الْمِيلَ الَّذِي تُكْتَحَلُ بِهِ الْعَيْنُ، قَالَ: "فَيَكُونُ النَّاسُ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ فِي الْعَرَقِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى كَعْبَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى حَقْوَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ الْعَرَقُ إِلْجَامًا" وَأَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِيَدِهِ إِلَى فِيهِ.
بل كيف بنار جهنم التي قال عنها ربنا -سبحانه-: (قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ) [التوبة: 81]؟
وفي الحديث الصحيح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "اشتَكَتِ النَّارُ إلى ربِّها، فقالت: يا ربِّ أَكَلَ بَعضي بعضًا، فجعلَ لَها نفَسينِ: نفَسٌ في الشِّتاءِ، ونفَسٌ في الصَّيفِ، فشِدَّةُ ما تجدونَ منَ البرْدِ من زمهريرِها، وشدَّةُ ما تجدونَ مِنَ الحرِّ من سَمومِها".
فإذا كان هذا الحر الذي يقلقنا ويؤلمنا هو نَفَسُ وسَمُومُ جهنم، فبالله عليكم فكيف بجهنم؟ وماذا تكون جهنمُ بذاتها؟
قال ربنا: (إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ * تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ * وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ) [الملك: 7 - 10]، وقال سبحانه: (إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا) [الفرقان: 12] فاللهم أجرنا من النار.
إن الحر في هذه الدنيا يمكن أن يُتقى بما مد الله لعباده من الظل الذي يقيهم الحر، وبما رزقهم من الماء الذي يرويهم من العطش، وبما أوجد لهم من الهواء والريح الباردة التي تُلطف لهم الجو، ومن الثياب والألبسة التي تَحمي الأجساد وتستر العورات، وتُهون من شدة الحرارة، قال سبحانه: (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ) [النحل: 81].
أما في جهنم -أجارنا الله منها- فإن هذه النعم تنقلب عذابًا على أهلها، فالهواء سموم، والظل يحموم، والماء حميم، والثياب تشتعل نارا.
وليس هذا فحسب فنار جهنم كلُّها جحيم وشقاء، صراخ وبكاء، حسرة وعناء، حرُّها شديد، وقعرها بعيد، ومقامِعها حديد، من دخلها لا يُقضى عليه فيموتُ ولا يُخفف عنه من عذابها، عذابها دائم مقيم، قد ملئت أغلالاً وأصفاداً، وسُعرت فصارت سواداً، وكلما نضجت الجلود بُدلت جلودا غيرها.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والعاقبة للمتقين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
إننا لنسمعُ الناس يوصي بعضهم بعضا بعدم الوقوف مباشرة تحت أشعة الشمس لكيلا يتعرض الواحدُ منهم لضربة شمسٍ تخل بدماغه، بل ويُوصَى بذلك على مستوى العالم وعبر منظمات الصحة حفاظًا على صحة الإنسان وسلامته من حرارة الشمس الشديدة والملتهبة صيفا، ونسي أولئك أن هذه الشمس التي يهرُبون منها، وينصح بعضهم بعضا بأن يتجنبوا الوقوف تحتها، أنهم ملاقوها وسيقفون تحتها يوم القيامة بأشد وأقرب ما يكون.
ألا ينبغي لهؤلاء أن يسألوا عما يحميهم من حر تلك الشمس التي سيقفون تحت وهجها ليس ليوم أو يومين ولا لسنة أو سنتين، وإنما لخمسين ألف سنة، نعم لخمسين ألف سنة.
ألا ينبغي أن نسأل جميعا عما يحمينا من حر جهنم التي قال عنها ربنا: (قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ) [التوبة: 81].
فالأولى بنا ونحن نتألم من حرارة الصيف: أن نتأمل حرارة الموقف يوم الحشر وحرارة النار، ونسألُ أنفسَنا: ماذا أعددنا لذلك الكرب الشديد من عمل؟
فإذا كنا نتقي حر الشمس بالظل الظليل وأجهزة التكييف والماء البارد والاصطياف على الشواطئ، وهذه نعمٌ تستوجب شكر المنعم، مع بعض التحفظ على الشواطئ وما يحدث فيها من انتهاكات تُقلب نعمتها نقمة.
نعم هناك أناس أنعم الله عليهم بنعمة المال والصحة والوقت، وأنعم عليهم بنعمة البحر، فتراهم على شواطئه يجاهرون الله بالمعاصي، فبدل أن يشكروا الله على تلك النعم ويسخروها في طاعته وفي ما يرضيه، دفعتهم شهوة النفس والمتعة في استغلال تلك النعم وتسخيرها في المعاصي وفيما يغضب الله.
الرجال والنساء والفتيان والفتيات يحتشدون على الشواطئ فيخلعوا جلباب الحياء ويكشفوا عن سوءاتهم، وينظر بعضهم إلى عورة بعض.
يفتح عليهم الشيطان سوقا من أسواقه لتُعرض فيه لحوم النساء اللواتي انسلخن عن عفتهن وحصانتهن، أمام رجال تجردوا من شرفهم وغيرتهم.
وهذا سلوك لا يقبله شرع ولا عقل سوي ولا منطق سليم.
هذا سلوك يعكس مدى بعدنا عن ربنا وتمردنا على مبادئ ديننا، وإهانتنا لقيمنا وأخلاقنا الرفيعة.
كيف يزعم البعض أنه مسلم ويزعم حبَّ الله وحب رسوله -صلى الله عليه وسلم- وهو في الآن ذاته ينتهك حرمات الله، ويستبيح هَتك عِرضه بنفسه فيُقرُّ زوجتَه وبناتِه على كشف عوراتهن وعَرض مفاتنهن ولحومهن سلعة رخيصة أمام كل من هب ودب من الرجال الأجانب، ضاربا بالحياء والقيم تحت الأقدام.
وهذا السلوك إن دل على شيء، فإنما يدل على فقدان وضياع الحياء، وإذا ضاع الحياء ضاع الإيمان؛ لأن الحياء والإيمان متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر، فإذا سُلب أحدهما تبعه الآخر، قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "إِنَّ الْحَيَاءَ وَالإِيمَانَ قُرِنَا جَمِيعًا، فَإِذَا رُفِعَ أَحَدُهُمَا رُفِعَ الآخَرُ".
فإذا كنا -معاشر أمة الحبيب النبي- نتقي الحر بأجهزة التكييف والماء البارد على الشواطئ، فبماذا نتقي حر يوم الموقف وحر جهنم ونارَها؟
وجواب هذا السؤال هو موضوع خطبة الجمعة القادمة -بحول الله-.
فحتى يتجدد بنا اللقاء مرة أخرى علينا أن نتقي الله –تعالى-، ونعاهده على الإقلاع عما نحن فيه من فساد وإفساد، ولنتب إليه توبة نصوحا ما دامت الفرصة أمامنا سانحة، وسنجده سبحانه وتعالى غفورا رحيما، قال جل وعلا: (قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الزمر: 53].
ولنغتنم صيفنا بالطاعات، ولنستزد فيه من الحسنات، ولْنَحذَر أن تُقعدَنا نفوسٌ تَعاف الحر، وتحب الراحة، عن المبادرة إلى الخيرات، فنندم يوم لا ينفع الندم.
التعليقات