عناصر الخطبة
1/ الله أعظم من كل أحد 2/ التحذير من الهزيمة النفسية وذكر بعض صورها وآثارها 3/ دعوة القرآن المسلمين للاستعلاء على جند الشيطان وأوليائه 4/ التحذير من الجبن والهلع والخوف 5/ أهم وسائل طرد الخوف تحقيق الإيمان بالله والقضاء والقدر 6/ صور من الهزيمة النفسية ووقفات مع هذا الخور والضعفاهداف الخطبة
اقتباس
الهزيمة النفسية، نتاج حتمي لهذا الجبن الذي يخلع القلوب، ويحيل الرجال إلى نساء قواعد في البيوت. إن المسلمين اليوم على أبواب صراع عنيف، ومعركة شرسة، معركة قد تهلك الأخضر واليابس، وتغير معالم التاريخ. نحن على أبواب صراع بين حضارتين، إسلامية، وغير إسلامية، ها قد بدأت ملامح هذا الصراع تلوح في الأفق، هذا الصراع -أيها الإخوة- أشد وأنكى من الصراع العسكري، وما المواجهة الحربية إلا أحد إفرازات هذا الصراع، ثم إن...
الخطبة الأولى:
وبعد:
عباد الله: إن الإيمان بالله هو الدعامة التي تقوم عليها هذه الدنيا، وهو الامتحان الأكبر الذي خلق الله الناس من أجله: (فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَلنّورِ الَّذِى أَنزَلْنَا وَللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَن يُؤْمِن بِللَّهِ وَيَعْمَلْ صَـالِحاً يُكَفّرْ عَنْهُ سَيّئَـاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّـاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَـارُ خَـالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التغابن:8، 9].
أمة الإسلام: الإيمان بالله يتضمن تعظيمه فوق كل أحد، والخوف منه غاية الخوف، وإن من رسخت في قلبه هذه المعاني، ارتبط بالله، وتعلّق به، وصغر في عينه كل أحد سوى الله، وعندئذ لم يخش غيره، ولم يرهب سواه.
قال -جل وعلا- ممتدحًا رسله الكرام: (لَّذِينَ يُبَلّغُونَ رِسَالـاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ وَكَفَى بِللَّهِ حَسِيباً) [الأحزاب:38].
إن الخوف من الغير عمومًا مرض يجلب استئساد الفأر، وتطاول المهين.
كيف يستطيع التجلد *** من خطرات الوهم تؤلمه
ولهذا لما أظهر الكفار جزعهم وخوفهم من الجن من خلال طلبهم الحماية منهم، زادهم الجن خوفًا على خوف: (وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مّنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مّنَ الْجِنّ فَزَادوهُمْ رَهَقاً).
ما دب الخوف في أمة إلا فتت بنيانها، وأحال مجدها إلى هباء، وأبدلها بالعز ذلاً، وألبسها لباس الهوان.
الهزيمة النفسية، نتاج حتمي لهذا الجبن الذي يخلع القلوب، ويحيل الرجال إلى نساء قواعد في البيوت.
أمة الإسلام: إن المسلمين اليوم على أبواب صراع عنيف، ومعركة شرسة، معركة قد تهلك الأخضر واليابس، وتغير معالم التاريخ.
نحن -أيها الإخوة- على أبواب صراع بين حضارتين، إسلامية، وغير إسلامية، ها قد بدأت ملامح هذا الصراع تلوح في الأفق، هذا الصراع -أيها الإخوة- أشد وأنكى من الصراع العسكري، وما المواجهة الحربية إلا أحد إفرازات هذا الصراع، ثم إن الهزيمة الحضارية في هذه الملحمة أشد وأنكى من الهزيمة العسكرية.
إن أول مراحل النصر -سواء النصر الحضاري أم النصر العسكري- الانتصار على خور النفس، وجبن الفؤاد.
فما وجفت تلك القلـوب ولم تكـن *** كأخرى لها من هدة الرعب زلزال
رجـال رسا الإيمان ملء نفوسـهم *** فــلا الجبن منجاة ولا البأس قتال
ولا الموت مكروه على العـز ورده *** ولا العيش مـورود إذا خيف إذلال
تداعـــوا فقالوا حسبنا الله إنـه *** لما شـــاء من نصر الهداة فعال
الهزيمة النفسية هي أول مراحل الهزيمة الحضارية، إن الهزيمة النفسية هي الهزيمة الممهدة والسابقة لأية هزيمة حضارية عسكرية.
في العالم الحديث أمثلة كثيرة على ذلك، دُحرت فرنسا أمام قوات هتلر، وانهار جيشها بعدما سيطرت عليه -بل على الشعب كله- روح الانهزامية إلى حد اعتراف رئيس وزرائها آنذاك بأن فرنسا لم تستطع مقاومة الاحتلال.
وما انتصرت فيتنام -وهي دولة كافرة لا تؤمن برب ولا دين- إلا بإيمان شعبها بالنصر، وضرورة الاستمرار في التحرر من ذل المستعمر الأمريكي، وقد أقسم رئيسها زعيم المقاومة آنذاك أنه لن يذعن ولو استمرت الحرب ربع قرن.
إن الهزيمة النفسية تفوق بكثير -في آثارها ونتائجها- الهزيمة العادية، فقد تتحول الهزيمة العسكرية إلى نصر يوم أن تنطلق الإرادة لتواجه التحدي، لكن الهزيمة النفسية تظل تقيد إرادة الإنسان، وتعطّل قدرته على المقاومة.
ما سيطر الخوف والجبن على فرد رجلاً كان أو امرأة، إلا وألقى به في أغلال الأوهام، وجعله حبيس المجهول، وعطل حركته عن كل نافع، وشل تفكيره عن كل مفيد.
ولهذا جاءت الشريعة بالحث على نبذه والتخلي عنه، وربط القلوب بالله -جل وعلا-: (لَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلَّهِ وَلرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَـابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَتَّقَوْاْ أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَـاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَنْقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوء وَتَّبَعُواْ رِضْونَ اللَّهِ وَللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ * إِنَّمَا ذلِكُمُ الشَّيْطَـانُ يُخَوّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ) [آل عمران:172-175].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فالآية دلّت على أن الشيطان يجعل أولياءه مخوفين ويجعل ناسًا خائفين منهم، ودلّت الآية على أن المؤمن لا يجوز له أن يخاف أولياء الشيطان ولا يخاف الناس، كما قال تعالى: (فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَخْشَوْنِ) [المائدة:44]، بل يجب عليه أن يخاف الله، فخوف الله أمر به، وخوف الشيطان وأوليائه نهى عنه، وقال تعالى: (لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَخْشَوْنِى) [البقرة:150]، فنهى عن خشية الظالم، وأمر بخشيته وقال تعالى: (لَّذِينَ يُبَلّغُونَ رِسَالـاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ) [الأحزاب:38]، وقال: (فإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) [النحل: 51]".
ثم قال -رحمه الله- واسمعوا إلى ما قال: "وبعض الناس يقول: يا رب إني أخافك وأخاف من لا يخافك، وهذا كلام ساقط لا يجوز، بل على العبد أن يخاف الله وحده ولا يخاف أحدًا؛ لا من يخاف الله ولا من لا يخاف الله، فإن من لا يخاف الله أخسُّ وأذل من أن يخاف، فإنه ظالم وهو من أولياء الشيطان، فالخوف منه قد نهى الله عنه. والله أعلم".
لقد أدركت شريعتنا ما للجبن من قوة في بث الوهن في النفوس، وحملها على التخلي عن أوامر دينها، والتنازل عن معالم شريعتها.
الجبان الرعديد، يخشى من ملاحقة النظرات، ويفزع من همس الأصوات، ويختبئ من شعاع الأنجم المنيرات، يخجل من هيئته ولو كانت موافقة للشريعة، يمشي وينظر خلفه، ولا يمكن أن يتطلع للأمام.
ولهذا كان رسول الله يتعوذ من الجبن، أخرج البخاري -رحمه الله- أن سَعْد بن أبي وقاص كان يُعَلِّمُ بَنِيهِ هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ، كَمَا يُعَلِّمُ الْمُعَلِّمُ الْغِلْمَانَ الْكِتَابَةَ، وَيَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ كَانَ يَتَعَوَّذُ مِنْهُنَّ دُبُرَ الصَّلاةِ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْجُبْنِ، وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ أُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ".
وفي رواية لمسلم عن أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَالْجُبْنِ وَالْهَرَمِ وَالْبُخْلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ".
أيها الإخوة: إن من أهم أسباب الجبن والهلع، بالإضافة إلى ضعف الإيمان بالله -جل وعلا-، حب الدنيا وكراهية الموت، قال الصادق المصدوق كما في حديث الإمام أحمد وأبي داود عن ثوبان -رضي الله عنه-: "يُوشِكُ الأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا"، فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟! قَالَ: "بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، وَلَيَنْزَعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمْ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ، وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ الْوَهْنَ"، فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: وَمَا الْوَهْنُ؟! قَالَ: "حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ".
لقد دبّ في هذه الأمة حب الدنيا، وتنافسناها فأهلكتنا أو كادت، إن الذي زهد في الدنيا وخلص قلبه من التعلق بها لا يخاف، على ماذا يخاف؟! ومم يخشى؟! أما الدنيا فهو أحرص الناس على التخلي عنها، وأما الحياة فقد علم أن الخوف من غير الله لن يزيد في أجله، ولن ينقصه.
عباد الله: بعد أن ألمحنا إلى بعض الآثار السلبية للخوف من غير الله -جل وعلا-، لا بد لنا من الحديث عن وسائل طرد هذا الخوف والتخلص منه، فنقول: الوسائل كثيرة، لا تتسع هذه الخطبة إلا إلى إشارات عجلى لبعضها.
فمن وسائل طرد الخوف من غير الله -جل وعلا- والتخلص منه، الإيمان بقوة الله -جل وعلا-، وقيوميته على كل شيء، وأنه المالك المتصرف في كل شيء.
الله -يا عباد الله- القوي، القادر، القهار، العزيز، الجبار، المتكبر، الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.
الإيمان بالله يقتضي أن يوقن العبد بأنه لا حول لأية قوة في العالم ولا طول لها إلا بعد أن يأذن الله، الإيمان بالله يقتضي أن يوقن العبد بأن هذا الكون وما فيه من أنواع القوى ما هي إلا مخلوقات مسخرة لله، تجري بأمر الله وتتحرك بقضائه وقدره: (وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى ءامَنَّا بِهِ فَمَن يُؤْمِن بِرَبّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَلاَ رَهَقا) [الجن:13].
شفع الشجاعة بالخشوع لربه *** ما أحسن المحراب في المحراب
وغــدًا يحاسب نفسه لمعاده *** وهباته تترى بغـير حساب
عباد الله: من أهم وأنفع الوسائل في طرد شبح الخوف الذي يخلع القلوب، الإيمان بالقضاء والقدر، في سنن الترمذي عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ يَوْمًا فَقَالَ: "يَا غُلامُ: إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ: احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتْ الأَقْلامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ".
إن الخوف -يا عباد الله- لا يؤخر الموت، ولكنه يعكر صفو الحياة.
أمة الإسلام: من أسباب طرد الخوف، الثقة بالله -جل وعلا- والتوكل عليه.
الثقة بالله هي كما قال شقيق البلخي: "أن لا تسعى في طمع، ولا تتكلم في طمع، ولا ترجو دون الله سواه، ولا تخاف دون الله سواه، ولا تخشى من شيء سواه، ولا يحرك من جوارحك شيئًا دون الله؛ يعني في طاعته واجتناب معصيته".
وقال بعض السلف: صفة الأولياء ثلاثة: الثقة بالله في كل شيء، والفقر إليه في كل شيء، والرجوع إليه من كل شيء.
من عوامل هذه الثقة بالله -جل وعلا- استعلاء الإيمان، قال -تبارك وتعالى-: (وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الاْعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مّثْلُهُ وَتِلْكَ الاْيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّـالِمِينَ * وَلِيُمَحّصَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَـافِرِينَ) [آل عمران:129-141].
قال الألوسي: "فلا تهنوا ولا تحزنوا -أيها المؤمنون- فإن الإيمان يوجب قوة القلب ومزيد الثقة بالله تعالى وعدم المبالاة بأعدائه".
قال الربيع بن خيثم: "إن الله تعالى قضى على نفسه أن من توكل عليه كفاه، ومن آمن به هداه، ومن أقرضه جازاه، ومن وثق به نجاه، ومن دعاه أجاب له، وتصديق ذلك في كتاب الله: (وَمَن يُؤْمِن بِللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) [التغابن:11]، (وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) [الطلاق:3]، (إِن تُقْرِضُواْ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَـاعِفْهُ لَكُمْ) [التغابن:17]، (وَمَن يَعْتَصِم بِللَّهِ فَقَدْ هُدِىَ إِلَى صِرطٍ مّسْتَقِيمٍ) [آل عمران:101]، (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ) [البقرة:186].
عباد الله: ومن وسائل طرد شبح الخوف، ونبذ الجبن، أن يعلم العبد أن البلايا والمحن طريق الجنان، قال الله -جل وعلا-: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَلضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَلَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) [البقرة:214].
هذا في الآخرة، ثم ليعلم أن النصر لا بد له من صبر، والصبر إنما يكون على البلاء.
كسـب المعـالي بحب الموت مرتبط *** ما بالسـلامة مَجْـٌد نِيلَ وَالْكَسَـلِ
فاخرج متى ترتضي حب السلامة من *** تحت السـماء إلـى ما شئت وارتحلِ
وإن رضيـت قليـل العـيش مقتنعًا *** قم واتخــذ نفقًا في الأرض واعتزلِ
رضا الجبـان بحـب الجبـن أجبـنه *** والمد بين ظهور الخيـل والأســلِ
في سنن الترمذي عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن عِظَمَ الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله تعالى إذا أحب قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط".
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، إنه غفور رحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على آلائه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تعظيمًا لشأنه، والصلاة والسلام على نبينا محمد الداعي إلى رضوانه، وعلى آله وصحبه وإخوانه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
أيها المؤمنون: في هذه الأيام بعد أن شحنت وسائل الإعلام الغربية نفوس الناس على المسلمين في كل بقاع الدنيا، لاسيما في هذه البلاد، دبَّ الرعب في نفوس كثير من المسلمين، وأصبح بعضهم كأغنام حاصرتها الذئاب، وظن البعض أنهم أحيط بهم، فبدل أن يهرعوا إلى الله، ويتمسكوا بدينه، رأينا أفنُنًا من المسارعة في الاسترضاء، وعجائب من صنوف الاستجداء.
فمن صلوات مشتركة، بين أحضان الصليب، ومراتع السندان، ومن دموع منهمرة، ثم تعازٍ حارة، وتمنيات قلبية، ومن سلم هذا وذاك، فكر في إخفاء هويته الإسلامية، وطالب البعض زوجته بالتنازل عن الحجاب حتى لا تظهر كالمسلمات فتتعرض للأذى، وبدأت العيون في النظر والترقب، والقلوب واجفة، والنفوس واجمة، ولنا حول هذا وقفات:
الوقفة الأولى: هذه المشاهد تعكس ضعف الإيمان بالله -عز وجل- لدى هؤلاء الناس، فضعف الإيمان بالله وبقضائه وبقدره هو الذي يمكن لأشباح الخوف سكنى القلوب الخاوية من الإيمان برب الأرض والسماء.
أيها الإخوة: لا بد من وقفة صادقة مع النفس، ومراجعة الحسابات، والتفتيش عن أمراض القلوب، واختبار حقائق النفوس.
أيها المؤمنون: أين البرهان على دعوى إيماننا بالله -جل وعلا-، ويقيننا بقضاء الله وقدره!!
الوقفة الثانية: نحن -وإن كنا نطالب الناس بنبذ الخوف، والتخلص من الرعب- إلا أن هذا لا يعني الدعوة إلى التهور، والولوج في المهالك، فالذي نطالب الناس به رجالاً ونساءً، نبذ الخوف، والتخلص من الرهبة القلبية، التي تدفعهم للتنازل عن أوامر الشريعة، ثم بعد ذلك نطالبهم كذلك بالتريث والتفكير العميق في أي عمل متصل بهذه الفتنة حتى يتثبتوا ويتبينوا الحق؛ لأن الفتن مظنة الزلل في الرأي.
قال شوقي:
إن الشجاعة في القلوب كثيـرة *** ووجـدت شجعان العقول قليلاً
إن الشجاع هو الجبان عن الأذى *** وأرى الجريء على الشرور جبانًا
الوقفة الثالثة: إن المحن التي يمر بها المسلمون في شتى أنحاء الأرض، لها فوائد متعددة، فمن فوائدها تميُّز الصف، فيبين المؤمن، ويظهر المنافق، فنار الفتن تذهب خبث الحديد، حتى لا يبقى إلا المعدن الصافي القادر على مقارعة الخطوب دون كلل.
ومنها أن الفتن مرآة نرى بها أنفسنا، وهي مقياس يقيس لنا مدى قربنا وبعدنا عن الله -جل وعلا-، ومن ثم ندرك مدى اقترابنا من النصر.
لولا اشتعال النار فيما جاورت *** ما كان يعرف طيب عرف العود
إن علينا جميعًا أن نوقن بأننا قصرنا كثيرًا في دعوة إخواننا المسلمين، وتربيتهم على الإيمان الصادق، واليقين العميق، وغرس معاني التضحية من أجل هذا الدين في نفوسهم.
ثم علينا أن نشعر بمدى إخفاقنا الكبير في دعوة غير المسلمين في هذه البلاد لضمهم لصفوف المسلمين.
فأول مفارز هذه الفتنة، رعب دبَّ في كثير من نفوس المسلمين حمل بعضهم على التفكير في التخلي عن كثير من أوامر دينه وشعائره، ناهيك عمن ارتكبوا أعمالاً تخل بأصل دينهم.
ولا زالت الأيام حبلى، ونسأل الله أن يحفظ على المسلمين دينهم، وعقيدته، وأمنهم، وأمانهم.
الوقفة الرابعة: إن هذه المحن تربية وتدريب على قوة العزيمة، وثبات القلب، إنها تربية يربينا الله بها، حتى يعدنا لمرحلة تالية.
أمة الإسلام: لا يُمَكّن لأمة من الأمم إلا إذا تجاوزت مراحل عديدة من التدريبات الشاقة على المضي إلى الأمام، ولا يعتلي صهوات المجد إلا من روض جسده على الصعاب.
ومن يتهيب صعود الجبال *** يعش أبد الدهر بين الحفر
يقول سيد قطب في الظلال: "والصبر في البأساء والضراء وحين البأس، إنها تربية للنفوس وإعداد، كي لا تطير شعاعًا مع كل نازلة، ولا تذهب حسرة مع كل فاجعة، ولا تنهار جزعًا أمام الشدة، إنه التجمل والتماسك والثبات حتى تنقشع الغاشية وترحل النازلة، ويجعل الله بعد عسر يسرًا، إنه الرجاء في الله والثقة بالله والاعتماد على الله، ولا بد لأمة تناط بها القوامة على البشرية، والعدل في الأرض والصلاح، أن تتهيأ لمشاق الطريق ووعثائه بالصبر في البأساء والضراء وحين الشدة، الصبر في البؤس والفقر، والصبر في المرض والضعف، والصبر في القلة والنقص، والصبر في الجهاد والحصار، والصبر على كل حال، كي تنهض بواجبها الضخم، وتؤدي دورها المرسوم، في ثبات وفي ثقة وفي طمأنينة وفي اعتدال.
الوقفة الخامسة: لقد أظهرت هذه الفتنة ضحالة ولائنا الإيماني، وتهافت برائنا الإسلامي، فقد سارع الكثير بتسطير عبارات الاستنكار المطلق لهذا العمل، ثم تجاوزتها إلى تقديم التعازي لأسر الضحايا، وفي غمرة الرعب الذي دبَّ في نفوس البعض تسللت عبارات تصادم عقيدتنا الإسلامية، وتنافي مقاصد الجهاد وغاياته.
عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أوثق عرى الإيمان: الموالاة في الله والمعاداة في الله، والحب في الله والبغض في الله -عز وجل-".
بالأمس كانت الفتاوى تنهال من بعض الرموز بمقاطعة الماكدونالد، والبيبسي والكوكاكولا؛ لأنها منتجات أمريكية تدعم إسرائيل وإرهابها، واليوم وللأسف الشديد تصدر فتاوى بجواز التبرع بالدماء لضحايا الإرهاب، وليت شعري هل تبقى الفتوى بعدم شراء البيبسي كولا قائمة هذه الأيام، حينما تزاحمها فتوى بجواز الصدقة على القوم بدماء المسلمين!!
وليت شعري لمَ لمْ تبذل هذه الدماء رخيصة يوم أن فتك الصرب بمئات الآلاف من المسلمين في سربنستا، وبرشتينا، وغيرها من مدن البوسنة والهرسك!!
بالأمس كان الكفار بشتى أنواعهم من اليهود والنصارى أعداءً لنا، ندعو الله ليل نهار لتخليصنا منهم، ونترقب اليوم الذي نرى فيه عروش طغيانهم تتهاوى، واليوم أضحينا نتباكى على قتلاهم، ولست أدري هل أطار الخوف ولاءنا الإيماني، فأحاله إلى ولاء مصلحي، خاضع للهوى والرهبة!!
عباد الله: أخشى أن نكون مثل من قال الله -عز وجل- فيهم: (يَـاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَلنَّصَـارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّـالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَـارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِىَ بِلْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِى أَنفُسِهِمْ نَـادِمِينَ) [المائدة:51، 52].
أيها الإخوة: خلاصة القول: إن ذلك كله يكشف لنا عن بعض العيوب التي تنخر تَمَسُّكَنَا بديننا، ولهذا فلابد لنا من العمل الطويل المتواصل، لتثبيت حقائق هذا الدين في النفوس، وتربية فلول المسلمين عليها، ودعوة غير المسلمين لهذا الدين الحق.
التعليقات