عناصر الخطبة
1/الناس بين عاقل وغافل 2/قص القرآن أحوال الأمم السابقة للاعتبار بهم 3/كثرة العبر في زماننا وقلة المعتبرين 4/التحذير من تطبيع الكوارث وأثرهاقتباس
أدركنا من أجدادنا مَن كان إذا حلَّت أيُّ مصيبةٍ -ولو صغُرتْ- يرجو ألا تكونَ عقوبةً ربَّانية، فكيف بنا اليوم وقد تعاقبت علينا وعلى الناس في هذه الأرضِ في سنواتنا القريبةِ الماضيةِ ألوانٌ من الابتلاءاتِ والكوارث؟! جوائحُ عالمية، وأوبئةٌ وأمراضٌ دورية، وزلازلُ...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضلَّ له، ومَن يضلل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبدُه ورسولُه، صلى الله عليه وعلى آلِه وصحبه وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا؛ (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)[الحشر: 18].
عبادَ الله: إن المتأملَ في كتابِ اللهِ يجدُ الحديثَ متكررًا عن أخبارِ الأممِ وما فيها من المواعظ والعبر، وهذه الخطاباتُ يختمها اللهُ -تعالى- بالحديثِ عن فئتيِن من الناس: فئةٍ هم أولوا الألبابِ والأبصار، الذينَ يسمعونَ ويعقلون، وفئةٍ هم الغافلون، على قلوبٍ أقفالُها، لا يفقهونَ ولا يعقلون.
وإن إيرادَ هذه الخطاباتِ وتكرارَها ليورثُ لمن وفَّقهُ اللهُ تساؤلاتٍ عظيمةً حولَ الخطابِ القرآني، فما هاتانِ الفئتان؟ ولماذا خوطبوا؟ وعن ماذا يُخاطبون؟
أيها المسلمون: إنَّ الخلقَ من بني الإنسانِ صنفانِ لا ثالثَ لهما: صنفٌ رأى المواعظَ والعبرَ والآياتِ والذِّكَر؛ فاستفادَ من معانيها واستجاب لمراميها، وصنفٌ حين رأى ذلكَ زادَ في غوايتِهِ وأعرضَ عن الحقَّ بعدَ أنْ عرفَه؛ (إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ)[الأنعام: 36].
فَمَنْ يستجيبُ للحقِّ همُ الذينَ يسمعونَ سماعًا منتجًا لأثرِهِ وهو الاتباع، أما الفئةُ الأخرى فهم كالأمواتِ لا تنفعهمْ آيةٌ ولو عَظُمَتْ ولا موعظةٌ ولو قرُبت؛ (وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ)[يس: 10 - 11].
وما من أمةٍ من الأممِ إلا رأتْ آلاءَ اللِه عيانًا، وسمعتْ وتلمَّستْ ما حلَّ بالأممِ قبلها بيانًا، ولكنَّ السنةَ تجري أن أكثرَ الناسِ تمرُّ عليهم المواعظُ والعِبرُ دونَ إحداثِ الأثر، وليس ذلك بمستغرب، فقد وصفَ اللُه حقيقتَهم فقال: (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا)[الفرقان: 44].
وقد كان من أعظم ما احتواه القرآن تفصيلُ الحديثِ عمَّا حلَّ بالأمم السابق، فبيَّن اللهُ العليمُ الحكيمُ سببَ ذلك بقولِه: (وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا)[طه: 113]؛ فالغرضُ أن يتقيَ الناسُ ربَّهم، وتكونَ أخبارُ العذابِ الذي حلَّ بالأممِ السابقةِ تذكرةً يتذكرونها إذا رأوا ما يشبُهُ حالَها، وينتبهون لها إذا غفلوا عن مرادها.
ونحن في هذا الزمنِ لسنا مختلفين عمَّن قبلنا، نرى الآياتِ والعِبَرَ كالشمسِ في كَبِدِ النهارِ واضحةً بيّنة، وتجري علينا سُننُ اللهِ من النَّذارة ثم الابتلاءِ ثم العذاب، كما جرت عليهم، وإنَّ اللهَ -جلَّ في حكمتِه وتقديرِه- ينبِّهنُا من حينٍ لآخرَ بآياتِهِ كي تحيا قلوبُنا، ويرسلُ إلينا نَذَاراتِهِ كما أرسلها إلى من قبلنا؛ لعلنا نتقي أو يحدثُ لنا ذِكرا.
وهذه النذاراتُ التي أُرسلتْ إلى الأممِ قبلنَا جاءتْ على شكلِ تحذيرٍ مثلما نُحَذَّر بها نحن، وجاءت عذابًا لبعضهم مثلما قد تُعذَّبُ بعض الأمم اليوم، فالطوفانُ آيةٌ من آياتِ اللهِ، كان تحذيرًا لفرعون وقومِه؛ لعلهم أن يؤمنوا ويتركوا ظلمَ بني إسرائيل، لكنهُ عذابٌ شاملٌ على قومِ نوح -عليه الصلاة والسلام-.
فما دامت الناسُ في كلِّ زمنٍ فئتين، فهم اليومَ كذلك من بينِنا وفي هذا العالمِ الواسعِ فئتان: أحياءُ القلوبِ والأجسادِ وهم القلةُ من البشر، وأمواتُ القلوبِ أحياءُ الأجساد.
عبادَ الله: لقد أدركنا من أجدادنا مَن كان إذا حلَّت أيُّ مصيبةٍ -ولو صغُرتْ- يرجو ألا تكونَ عقوبةً ربَّانية، فكيف بنا اليوم وقد تعاقبت علينا وعلى الناس في هذه الأرضِ في سنواتنا القريبةِ الماضيةِ ألوانٌ من الابتلاءاتِ والكوارث؟! جوائحُ عالمية، وأوبئةٌ وأمراضٌ دورية، وزلازلُ مدمِّرة، وحرائقُ مُتْلِفَة، وفيضاناتٌ مغرقة، واضطراباتٌ وتسلُّطُ أممٍ على أخرى، وكثرةُ قتلٍ وتدميرٍ وتهجير، وغيرُها الكثيرُ مما ندري عنه ولا ندري، ما كان موقفُ الناسِ منها؟ بل ما موقفُكَ أنتَ منها؟ هل أخذتَ العبرةَ منها؟ هل رجوتَ اللَه ألا تكونَ عقوبةً مِن عنده؟ هل تضرَّعتَ إلى اللهِ وتُبْتَ عمَّا أسرفتَ من الذنب؟.
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[الأنعام: 42، 43].
اللهم أحيي قلوبنَا، وأنر صدورَنا، واجعلنا هداةً مهتدين، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه غفور رحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، أما بعد:
عباد الله: إنَّ الاعتبارَ من الكوارثِ والمصائبِ ليستْ شتيمةً واتهامًا بالفسق، بل هي في الحقيقةِ استشعارُ المؤمنِ بضعفِهِ وتحقيقُه عبادةَ الخوفِ من الله، كما أنه ليس تهويلا أو تفزيعًا للناس؛ إنما هو الواجبُ الشرعيُّ الذي تستدعيه مثلُ هذه الظروف.
أيها المسلمون: إنَّ محاولةَ تطبيعِ الكوارثِ والمصائب، أو تفسيرَها بالظواهرِ الطبيعيةِ والحساباتِ الفلكيةِ وحسب، يؤذن بالخطرِ الجسيم، وقد فعلتْ ذلكَ بعضُ الأممِ فماذا حلَّ بهم؟ قال -تعالى- عنهم: (ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ)[الأعراف: 95]، قالوا: ما أصابَنا من الشرِ والخيرِ هو عادةٌ مُطَّرِدةٌ أصابتْ أسلافَنا من قبل، ولم يُدركوا أنَّ ما أصابَهم من نِقَمٍ يُراد به الاعتبار، وما أصابَهم من نِعَمٍ يُرادُ به الاستدراج، فأخذناهم بالعذابِ فجأةً وهم لا يشعرونَ بالعذابِ ولا يترقبونَه.
وقد كان النبي القدوةُ -صلى الله عليه وسلم- أتقى الناسِ هو أخوفَهم لله من هذه الكوارثِ أو مقدماتِها؛ أن تكون عقابًا إلهيًّا، فعن عائشة قالت: "كان النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- إذا رأى مَخِيلةً في السماء، أقبلَ وأدبر، ودخلَ وخرج، وتغيَّرَ وجهُه، فإذا أمطرتْ السماءُ سُرِّي عنه"، فعرَّفَتْهُ عائشة ذلك فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما أدري لعله كما قال قوم: (فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ)[الأحقاف: 24]".
اللهم يا ربَّنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، واحفظنا بحفظك وأنت الحفيظ العليم، نعوذ بك من قسوة القلب والغفلة، ونسألك عيشةً هنيةً وميتةً رضية، ومردًّا إليك غير مخزٍ ولا فاضح، اللهم أصلح لنا ديننَا الذي هو عصمةُ أمرنا، وأصلح لنا دُنيانَا التي فيها معاشُنا، وأصلح لنا آخرتنَا التي إليها معادُنا، واجعل الحياةَ زيادةً لنا في كل خير، والموتَ راحةً لنا من كل شر، وإذا أردتَ بعبادك فتنةً فاقبضنا إليك غير مفتونين، اللهم وفق ولي أمرنا لما تحب وترضى، وخذ بناصيته للبر والتقوى، اللهم وفقه وولي عهده لما فيه صلاح البلاد والعباد.
(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)[الصافات: 180 - 182].
التعليقات