عناصر الخطبة
1/أهمية الأخلاق في الإسلام 2/جامعة الأخلاق 3/خطر الكبر 4/كيفية التخلص من الكبر 5/خطر الحسد 6/كيفية التخلص من الحسد 7/خطر الظلم 8/بعض صور الظلم 9/خطر الخوض في أعراض المسلمين 10/فضل إطعام الطعام 11/أهمية العفو عن الناس 12/فضل العفو عند المقدرة 13/فضل العدل بين الناس 14/بعض صور العدل 15/أهمية التواضع 16/الأمور المعينة على التحلي بالأخلاق الفاضلةاهداف الخطبة
اقتباس
فكم يقع الظلم ما بين صاحب العمل والأجير الذي يعمل عنده، بين الرئيس والموظفين الذين بين يديه؟! كم يقع الظلم بين سيد البيت مع زوجاته؟! كم يقع الظلم من الزوجات مع الخادمات؟! كم يقع الظلم من المعلم إلى طلابه؟! كم يقع الظلم في البيع والشراء؟! كم يقع الظلم على هيئات ألفاظٍ وأقوال ولا يشعر الإنسان بها ويخطها الملك، أحدهم يخطها، والآخر يشهد عليها، ويوم القيامة يجدُ كتاباً: (لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا )[الكهف: 49].
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي خلق فسوى، والذي قدر فهدى، الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً، قيماً لينذر بأساً شديداً من لدنه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبدُه ورسوله، بلّغ الرسالةَ، وأدى الأمانةَ، ونصح الأمة، وجاهد في اللهِ حتى أتاه اليقين، فصلى اللهُ عليه وعلى آله وصحبِه وسلّم تسليما كثيرا.
عباد الله: حديثنا عن بعض أمور ينبغي على المؤمن أن يتجنبها، وأخرى ينبغي أن يتحلى بها، تأسياً بنبينا وقدوتنا -صلى الله عليه وسلم-، قال تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا)[الأحزاب: 21].
فقد ألبسهُ -جل وعلا- أعظم الأخلاق، وأكمل الصفات، وهداه إلى أفضل الطرائق، فتجمل بها صلى الله عليه وسلم كلها، فهو في بيته خير زوج، وهو لأحفاده خير جد، وهو لأمته أعظم قائد، وهو في المسجد أجلُ إمام، وهو في المنبر أفصح خطيب، وهو صلى الله عليه وسلم في ذلك كله عبدٌ متواضعٌ لله، يعرف فضل الله -جل وعلا- عليه.
فمما ينبغي على المؤمن اجتنابه -أيها المؤمنون-: الكبر، فهو أسوأ الخصال كلها!.
أمرٌ تفرد به الرب -تبارك وتعالى- في الحديث القدسي: "الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري".
والله -جل وعلا- له بعض الصفات من نازعه فيها قصمه الله، ومن نأى عنها وبعد قرب من الله،، فمن لبس -عياذاً بالله- رداء الكبر، فإنه يكون أبعد ما يكون عن الله؛ مصروفاً عن آيات الله؛ لا يعبأ الله -جل وعلا- به، قال صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر".
وما عصى إبليس اللعين ربه إلا لِما استقر في قلبه من الكبر: (قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ)[الأعراف: 12].
فما السبيل إلى كسر النفس؟
السبيل إلى كسر النفس: العلم بالله -جل وعلا-؛ فإن العبد كلما كان بالله أعرف كان من الله أخوف.
فمن أعظم ما ينبغي على المؤمن أن ينزع عن نفسه رداء الكبر، والإنسان لو ترك على سجيته لبقي أن يحب أن يُعظمَ ويُمدحَ، ويُثنىَ عليه، ويرى الناس حوله صغارا، لكنه إذا ألجم نفسه بلجام التقوى، وعلِمَ أن مرده إلى الله: (أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ)[يس: 76 - 79].
إذا علم الإنسان أنه عبدٌ مخلوقٌ من لحمٍ ودمٍ وعصب، وأنه لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعا، ولا موتاً ولا حياتاً ونشورا، وأنه لن يأخذ إلا ما أعطاه الله، ولن يتقي إلا ما وقاه الله، إذا عرف ذلك كله عرف قدره وتواضع لله، كما تواضع الأخيار.
فالكبر -أيها المؤمنون-: رداءٌ ينبغي لكل مؤمن أن ينزعه من نفسه، وكما ينزعُ الإنسان الكبر عن نفسه، ينزعُ رداء الحسد، فإن الله -جل وعلا- جعل هذه القلوب أوعية، وأعظم القلوب قرباً من الله من سلمت من الشرك، وعمرت بالتوحيد، وسلمت من البدع، وعمرت بالسنة، وسلمت من الحسد، وعمرت بالمحبة للغير، ومعرفة قدر الناس، وإنزال الناس منازلهم، هذا المؤمن هو المؤمن المسدد.
والحسد مركبٌ في كل جسد، لكن الله لا يحاسبنا على أنه موجود في أجسادنا، إنما يُحاسبُ إلا إذا أثمر ذلك الحسد عن قولٍ أو فعلٍ حرمه الله أو حرمه رسوله -صلى الله عليه وسلم-، ولهذا جاءت الاستعاذة منه مقيدة في كتاب الله، قال الله -جل جلاله-: (وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ) [الفلق: 5].
ولم تأتِ على إطلاقها.
وإبليس حسد أبانا على ما أفاءه الله عليه، مع الكبر الذي في قلبه، ونبيكم -صلى الله عليه وسلم- طاب حياً وميتاً لم يكن يحمل في قلبه الحسد، صلوات الله وسلامه عليه؛ لأنه يعلم أن الله وحده هو الذي يخفضُ ويرفع، وهو الذي يعطي ويمنع، وهو الذي يقطع ويصل جل جلاله.
والإنسان إذا رأى نعمة من نعم الله على غيره لا يشتغل بذلك الغير، بل يسأل الذي وهبه أن يهبه مثلها.
سل الله فالله -جل جلاله- يحب الملحّين في الدعاء.
والمقصود -أيها المؤمنون-: ينبغي للمؤمن أن يوطن نفسه على أن لا يكون في قلبه حسد على مؤمن، قال صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الألفة والمحبة بين هذه الأمة، قال: "لا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تناجشوا، وكونوا عباد الله إخوانا، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله، ولا يحقره، وحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم".
والمؤمن إذا كان عظيم الثقة بالله، يحسن الظن بربه، ويعلم أن المقادير بيد الله، قلَّ ما يكون في قلبه حسدا!.
أما إن كان لا يعرف ربه إلا قليلا كان يغلب عليه الظن أن العطايا مردوها إلى أمورٍ مادية، وليس مردوها إلى العلي الكبير؛ سيستوطن الحسد في قلبه -عياذاً بالله-.
والحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب، فينبغي على كل مؤمن أن يوطن نفسه أن لا يكون في قلبه حسد على أخيه المؤمن.
ثالث ما ينبغي أن يتداركه المرء: الظلم، والله -جل وعلا- حرم الظلم على نفسه، وجعله بين عباده محرما، وقد بعث صلى الله عليه وسلم حبيبه معاذ بن جبل إلى اليمن، وهم يومئذٍ أهل كفر، قال له: "واتق دعوة المظلوم فإنها ليس بينها وبين الله حجاب".
فكم يقع الظلم ما بين صاحب العمل والأجير الذي يعمل عنده، بين الرئيس والموظفين الذين بين يديه؟! كم يقع الظلم بين سيد البيت مع زوجاته؟! كم يقع الظلم من الزوجات مع الخادمات؟! كم يقع الظلم من المعلم إلى طلابه؟! كم يقع الظلم في البيع والشراء؟! كم يقع الظلم على هيئات ألفاظٍ وأقوال ولا يشعر الإنسان بها ويخطها الملك، أحدهم يخطها، والآخر يشهد عليها، ويوم القيامة يجدُ كتاباً: (لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا)[الكهف: 49].
وأعظم الظلم أن يظن الإنسان أنه بظلمه يصنع خيرا، قال جل وعلا: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا) [الكهف: 103-104].
وقوله: (أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا)[فاطر: 8].
يأتي الأمر ويزعم أنه حسنا، يأتي الأمر ويزعم أنه قربة إلى الله، وهو لا يقود إلا إلى الضلال المبين، وذاك الهلاك؛ كهؤلاء الذين يقدمون على الأعمال الإرهابية والتفجيرات ومحاربة المسلمين، يقدمون على هذه الجرائم وهم يزعمون أنها قربة يتقربون بها إلى الله، يقتلوا المسلمين، بل يقتلوا أنفسهم وهم يزعمون أنهم على صواب، وأنهم يتقربون إلى الله بذلك، فهؤلاء غلبت عليهم أزمة الشبهات، فحرموا من نعمة العقل والهداية والتوفيق، فقادتهم تلك الشبهات إلى ما قادتهم إليه.
وأعلم -يا أُخيّ-: أن الظلم من أعظم ما يعجل الله به العقوبة في الدنيا والآخرة، والإنسان إذا كان يعرف المعنى الحقيقي للوقوف بين يدي الله؛ تخلص من مظالم الناس، ولم يقع منه مظلمة في دينارٍ ولا درهم، قال جل وعلا: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) [الأنبياء: 47].
يقول الله -جل وعلا- في آية كثيراً ما يسأل الناس عنها، قوله تعالى: (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ)[عبس: 34 - 37].
لماذا يفر المرء من هؤلاء.
إن الإنسان يوم القيامة لا يفر ممن لا يعرفه، إنما يفر ممن يعرفه لماذا؟
لأن الشخص الذي لا تعرفه قلَّ ما أن تكون قد ظلمته، لكن الذي يخالطك أنت عرضة إلى أن تظلمه، فإذا جاء يوم القيامة، ورأى الرجل أحداً كان يخالطه ويعرفه، يفر منه خوفاً من أن يكون قد ظلمه، وأخطأ في حقه في الدنيا، فيأخذ من حسناته، وهو أحوجُ ما يكون يومئذٍ إلى الحسنات!.
ويوم القيامة لا دينار ولا درهم، وإنما هي حسنات وسيئات، وكل أحد أحوج ما يكون إلى شعرة من حسنة: (فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ)[المؤمنون: 102-103].
ومما ينبغي على المرء أن يتخلص منه: الخوض في أعراض المسلمين، نبيكم -صلى الله عليه وسلم- وقف على ناقته يوم عرفة يقول: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرامٌ عليكم، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا".
والله -جل وعلا- يقول: (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) [الإسراء: 36].
ويقول صلى الله عليه وسلم في تربيته لمعاذ: "ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو قال على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم".
وجميلٌ من المرء أن يتحلى بأخلاق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلم يكن فاحشاً ولا متفحشا، ولا سبّاباً ولا لعّاناً، وإنما كان صلى الله عليه وسلم جميل القول، مهذب النطق، أحسن الله -جل وعلا- تعهده وتربيته.
أحبتي في الله: هذه بعض مما ينبغي على المرء أن يجتنبه، ويتخلى عنه.
وكما أننا نتخلى عما حرم الله، ونهى عنه رسوله -صلى الله عليه وسلم-، لا بد أن نتحلى بتلك الأخلاق الكريمة، والصفات العظيمة التي كان عليها نبينا -صلوات الله وسلامه عليه-، وأعظمها: بذل الندى، وإطعام الجائع، فإن سادة الناس في الدنيا الأسخياء، وسادتهم يوم القيامة الأتقياء.
وإذا كان الإنسان يبذل نداه، ويقري ضيفه، ويكرم جاره ويعطي، كان قريباً من الله، قريباً من هدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فعلينا أن نتأسى بنبينا -صلى الله عليه وسلم-، فقد كان صلوات الله وسلامه عليه يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، فعلينا أن نتأسى به كما تأسى به أصحابه؛ جاء رجلٌ إلى أمير المؤمنين عمر -رضي الله عنه- أيام خلافته، قال: يا أمير المؤمنين جزيت الجنة: -
أُكسُ بُنيِّاتِي وأُمُهنهَ
وكلنا من الزمانِ جنة
أقسمت بالله لتفعلنه.
قال عمر: وإن لم أفعل يكون ماذا؟
قال: إذاً أبا حفصٍ لأمضينه
قال: وإن مضيت يكون ماذا؟
قال: إذاً أبا حفصٍ لتسألنه
يوم تكون الأعطياتُ جُنَّة
وموقف المسئول بينهنه
إما إلى نارٍ وإما إلى جَنَة.
فخلع عمر قميصه وبكى حتى بلل لحيته، وأعطاه القميص، وهو يقول: خذه فوالله الذي لا إله إلا هو لا أملك غيره.
والمقصود، قال نبيكم -صلى الله عليه وسلم-: "إطعام الطعام".
وقال الله من قبل: (فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ)[البلد: 11- 16].
وقال عن أوليائه الصالحين: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا)[الإنسان: 8-9].
ومن خصال المؤمنين التي ربى النبي -صلى الله عليه وسلم- أمته عليها، والتي يجب أن نتأسى بها: العفو عن الناس: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) [الأعراف: 199].
(وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) [الشورى: 43].
فعلت به قريش الأفاعيل، فلما مكنه الله -جل وعلا- من رقابها، قال: "ما ترون أني فاعلٌ بكم" قالوا: أخٌ كريم وابن أخٍ كريم، قال: "اذهبوا فأنتم الطلقاء".
والمقصود: أن العفو عند المقدرة من أعظم شيم العظماء.
وثم قاعدة -أيها الأخُ المبارك- في الحقوق الشرعية لا سبيل إلى أخذٍ ولا عطاء؛ إن كنت صاحب سلطة أميراً محافظاً مديراً قاضياً، هذه الأمور تطبق فيها ما أنت ملزمٌ به؛ لأنها أشياء لا تملكها، لكن نحن نتكلم عن الأشياء التي تملكها، فاصنع –أخي- في كل أحدٍ، وقف بين يديك ما تحب أن يصنعه الله بك إذا وقفت بين يديه، فتعامل مع من يؤمل فيك ما ترجو الله أن يتعامل به معك، فإن مثل هذه الصنائع من أعظم ما تستنزل به وتستجدي رحمة الله -جل جلاله-، ومما تقربنا من العلي الكبير -سبحانه-.
وما الدنيا إلا أنفاسٌ محدودة، وأيامٌ معدودة، ثم الوقوف بين يدي الله -جل وعلا-.
فينبغي أن تكون أعمال العبد مطية للوصول إلى الله -جل وعلا-، قال الرب-تبارك وتعالى-: (يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ) [الإنشقاق: 6].
وقد ورد في بعض الآثار: أن حملة العرش الذين يحملون عرش الرحمـن، يقولون في دعائهم وذكرهم: "سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على عفوك بعد قدرتك".
والأربعة الآخرون يقولون: "سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على حِلمِك بعد عِلمِك".
وكُلنا ذُو خطأ، وما أحوجنا إلى عفوِ الله، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من لا يَرَحَمَ لا يُرحَمَ".
وقال: "ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء".
ومما كان فيه عليه الصلاة والسلام من خلقٍ عظيم: العدل بين الناس، وبالعدل قامت السماوات والأرض.
ومن العدل بين الناس: أن يعدل الإنسان في حكمه، أن يعدل في قوله، أن يعدل في سائر شأنه، إذا كان ذا ولاية على زوجات أو أبناء، فيعدل بين الأبناء في العطايا، ويعدل بين زوجاته في المبيت، ويعدل في كل شيء بحسبه، ويعدل حتى مع خصومه: (وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)[المائدة: 8].
وعبد الله بن رواحة ذهب إلى خيبر يخرص نخلها، فقال: يا معشر يهود جئتكم من عند أحب الناس إلي -يقصد النبي -صلى الله عليه وسلم-، وإنكم لمن أبغض الناس إلي، ولكنني يدفعني حبي له، وبغضي لكم أن أجور، ينبغي علي أن أعدل، فقالت يهود: بالعدل قامت السماوات والأرض، والإنصاف اليوم في الناس قليل، فالناس إذا أحبوا أحداً نسبوا له كل فضل، وإذا أبغضوا أحداً نسبوه لكل نقص، وقالوا فيه ما لم يفعل، والعاقل لا يغلو في أحد، لا محبةً ولا ذما، فلا تغلو في أحدٍ كائنا من كان، ولو رأيت عليه من أمارات الصلاح من بكاء، ونحو ذلك، فإن الله -جل وعلا- أوكل السرائر إلى نفسه، ولا تغلو في ذم أحد، فإنك لا تدري أن الله -جل وعلا- ستر محاسنه، وأظهر معايبه، فحكمت عليه من وجهٍ دون آخر، ولكن المؤمن العاقل الحريص الذي يخشى على سيئاته أن تزداد، وعلى حسناته أن تذهب، لا يتكلم إلا بقصد، ولا يحكم إلا على بينة، ويتكلم بضبط قوله مخافة أن يلقى الله، فيكون قد شط في قوله.
ومن أخلاقه صلى الله عليه وسلم: التواضع، فأحب الناس إلى العباد وأقربهم منهم من كان متحلياً متجملاً بخلق التواضع؛ فعنه صلى الله عليه وسلم قال: "ما تواضع أحدٌ لله إلا رفعه الله".
والتواضع خلق يفتقده الناس اليوم، فتجد اليوم المتكبر بماله، والمتكبر بجاهه، والمتكبر بسلطانه وحشمه.
وما علموا بأنه لن يدخل الجنة من في قلبه ذرة من كبر.
ألا فإن تواضع الشريف إنما هو زيادة في شرفه، كما أن تكبر الوضيع إنما هو زيادة في ضعته، كالعائل المستكبر الذي لا يكلمه الله يوم القيامة، ولا ينظر إليه، ولا يزكيه، وله عذاب اليم.
فيا سبحان الله! كيف لا يتواضع من خلق من نطفة مذرة، وآخره يعود جيفة قذرة، وهو بينهما يحمل العذرة -أجلكم الله-؟!
فعلينا -إخوة الإيمان-: أن نتحلى بخلق التواضع، فإنه من أعظم أخلاقه صلوات الله وسلامه عليه.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ ربِ العالمين، وليُ الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاةُ والسلامُ على إمامِ المتقين، وقدوةِ الناسِ أجمعين، وعلى آله وصحبِه والتابعين.
عباد الله: إن الأمور التي ذكرناها تحتاج في المضي عليها إلى صبر، وبالصبر تبلغ ما تريد، وبالتقوى يلين لك الحديد، ومن رزق الصبر قُدُرَ على أن يعطي مما يحب، وأن يصبر على ما يكره، قال الله -جل وعلا-: (لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ)[آل عمران: 92].
وفي جملةٍ من الآثار: "لن تنال البر حتى تصبر على ما تكره وحتى تنفق مما تحب".
فإذا أنفقت مما تحب وصبرت على ما تكره، وصلت إلى منازل عالية عند الله -جل وعلا-.
ومما يعين العبد على التحلي بهذه الأخلاق: تذكر أرض المحشر، والوقوف بين يدي الله، فإن الله ذكر الأوصاف الحميدة، قال: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) المؤمنون: 96].
وقوله (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ)[فصلت: 34- 35].
وحتى يكون لدى الإنسان حظٌ عظيمٌ من الصبر لا بد أن يعرف الآخرة حقا، فكل من أدرك بعين بصيرته وبصره عظمة الوقوف بين يدي الله، هانت عليه أمور الدنيا، وهذه الدنيا إن نازعت أهلها فيها اجتذبتك كلابها، وإن استغنيت عنها فزت بخيري الدارين.
واعلم -يا أُخي-: أنه لن يموت أحد حتى يستوفي رزقه، يقول صلى الله عليه وسلم: "إن روح القدس نفث في روعي أن نفساً لن تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها".
وهذا لا يمنع من السعي المباح، ولا ينافي ذلك الشرع، في حديث عمر: "لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدوا خماصاً وتروح بطانا"
فأثبت صلى الله عليه وسلم لها الغدو والرَوَاَح.
ومما يعين: المعرفة بمنهاج أولياء الله المقربين، وعباده الصالحين، وبهذا قص الله لنبيه في القرآن جلائل الأخبار، وأدبه بعظيم العظات، حتى يتأسى بأولئك الأخيار الذين من قبله، ذكر له ثمانية عشر نبياً جملة في سورة الأنعام، ثم قال له: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) [الأنعام: 90].
فأخذ صلى الله عليه وسلم بهديهم، فجمع إلى ما عنده من الفضائل ما كان عند إخوانه -عليهم الصلاة والسلام- من الفضائل، فأصبح صلى الله عليه وسلم في الذروة العُليا، والدرجة الأسمى، من الأخلاق كلها، وعبادة الله، صلوات الله وسلامه عليه.
وثمت محبطات في الطريق إلى الله، فالناس إذا كنت ذا حلم وصفوك بأنك ضعيف، وإذا كنت ذا عفو وصفوك بأنك عاجز، وإذا كنت ذا كرم وصفوك بأنك مسرف، وما يزال في كل مجتمع فئامٌ من الناس، يثبطون أهل الحق، ويصفون الأشياء على غير وصفها، ويسمونها بغير اسمها، لكن لا يوجد عاقل يترك الاستسقاء والنهلة من معين محمد -صلى الله عليه وسلم-، ويأخذ عن غيره، فالعاقل يعلم أن الهدي كله محصورٌ في هدي محمد -صلوات الله وسلامه عليه-، فإن كان ممن حولك يبين لك ضعف شخصيتك، ويدعوك على أن تكون قوياً جبارا، فهذا خلاف هدي الأنبياء، والتمسك بهدي الأنبياء لا شك أنه خيرٌ وأبقى، من التمسك بصنيع غيرهم، كائناً من كانوا.
ومما يعين أيضاً: أن على الإنسان أن يسأل الله -جل وعلا- التوفيق في غدوه ورواحه، فو الله لن يقدر أحد أن يعبد الله كما أراد الله إلا بتوفيقٍ من الله، قال جل وعلا: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ)[الكهف: 28].
قال بعض أهل العلم في تفسيرها: أن أفضل ما قيل في قوله جل وعلا: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ)[الكهف: 28].
أنهم إذا أصبحوا سألوا الله التوفيق، وإذا أمسوا استغفروا الله -جل وعلا- من التقصير، فهم ما بين سؤال الله أن يوفق ويعين وييسر، وما بين استغفار الله أن يسدد الخلل، ويغفر الذنب، ويتجاوز عن الزلل، وربك على هذين قادر.
هذا، وصلوا وسلموا على خير خلق الله محمد بن عبد الله كما أمركم ربكم بقوله: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين.
وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلى، وعن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وجودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين.
اللهم اجعل هذا البلد آمنا مطمئناً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء، والزلازل والمحن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن عن بلدنا هذا خاصة، وعن سائر بلاد المسلمين عامة يا رب العالمين.
اللهم وفق إمامنا لما تحب وترضى، وخذ بناصيته للبر والتقوى، اللهم وفقه لهداك، واجعل عمله في رضاك، يا رب العالمين.
اللهم طهر قلوبنا من النفاق والشقاق، وسوء الأخلاق.
اللهم أهدنا لأحسن الأخلاق، فإنه لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها فانه لا يصرف عنا سيئها إلا أنت.
اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاه.
عباد الله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل: 90].
فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم: (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) [العنكبوت: 45].
التعليقات