عناصر الخطبة
1/ خبرُ تحبيب معاويةَ البنات لعمرو بن العاص 2/ أحاديث تبين فضل الإحسان للبنات والأخوات 3/ سبب ذلك الفضل 4/ مفهوم الإحسان للبنات والأخوات وكيفيته 5/ آثار تصحيح الإسلام مفاهيم الجاهلية عن البناتاهداف الخطبة
اقتباس
وذكر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فضائل البنات، وجعل لهن قيمة ومنزلة وفضائل ومِنحاً تمتدُّ نحوَها الأعناق، وتهفو إليها القلوب. فيا عائل البنات، أبشِر بحِجاب من النار! وأبشر بالجَنَّة بصُحْبة النبي المختار! صلى الله عليه وسلم.
الخطبة الأولى:
أيها الإخوة: هل سمعتم بتفاحة القلب؟ وهل تعلمون من التي لقبت بهذا اللقب؟ أليس هذا اللقب يعطي دلالة على عظيم مكانتها في النفوس وعلو شأنها؟ أليس هذا اللقب دليلاً على الحب والوداد؟.
روى أهل الأدب أن عمروَ بنَ العاص دخل على معاويةَ بنِ أبي سفيان -رضي الله عنهم- فوجده يداعب ابنته عائشة، فقال عمرو: من هذه يا أميرَ المؤمنين؟ فقال معاويةُ: هذه تفاحة القلب! قال عمرو: انبذها عنك! فوالله، إنهن ليلدن الأعداء، ويقربن البعداء، ويورثن الضغناء! فقال معاويةُ: لا تقل هذا يا عمرو، فوالله! ما مرَّض المرضى، ولا ندب الموتى، ولا أعان على الأحزان مثلُهن، ورُبَّ ابنِ أختٍ قد نفع خاله. فقال: ما أراك يا أمير المؤمنين إلا وقد حبَّبتَهُنَ إليَّ.
أيها الإخوة: لقد تحدث أميرُ المؤمنين معاويةُ -رضي الله عنه- عن جانب واحدٍ دنيوي تتميز فيه البنات وأقنع به داهية العرب، ولو ذكر -رضي الله عنه- ما وعد به -صلى الله عليه وسلم- من الخير الكثير، والأجر الجزيل، والمنزلة العالية، في أحاديث كثيرة لمن يرعاهن ويحسن إليهن؛ لكان أشد إقناعاً.
فمن ذلك: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ عَالَ جَارِيَتَيْنِ حَتَّى تَبْلُغَا، جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَا وَهُوَ" وَضَمَّ أَصَابِعَهُ. رواه مسلم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه-. ومعنى: عالهما، أي: قام عليهما بالمؤنة والتربية ونحوهما.
وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ عَالَ ابْنَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، أَوْ أُخْتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، حَتَّى يَبِنَّ -أي: ينفصلن عنه بتزويج أو موت- أَوْ يَمُوتَ عَنْهُنَّ، كُنْتُ أَنَا وَهُوَ فِي الْجَنَّةِ كَهَاتَيْنِ" وَأَشَارَ بِأُصْبَعِهِ الْوُسْطَى وَالَّتِي تَلِيهَا. رواه ابن حبان وصححه الألباني عَنْهُ -رضي الله عنه-. وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ -رضي الله عنه- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "مَنْ كَانَ لَهُ ثَلَاثُ بَنَاتٍ فَصَبَرَ عَلَيْهِنَّ، وَأَطْعَمَهُنَّ، وَسَقَاهُنَّ، وَكَسَاهُنَّ مِنْ جِدَتِهِ -سعته وطاقته- كُنَّ لَهُ حِجَابًا مِنْ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" رواه أحمد وابن ماجة وصححه الألباني. وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، قَالَ: "مَنْ كَانَ لَهُ ثَلَاثُ بَنَاتٍ، أَوْ ثَلَاثُ أَخَوَاتٍ، أَوِ ابْنَتَانِ، أَوْ أُخْتَانِ، فَأَحْسَنَ صُحْبَتَهُنَّ، وَاتَّقَى اللَّهَ فِيهِنَّ، دَخَلَ الْجَنَّةَ" رواه الترمذي وابن حبان وصححه الألباني.
ولم يحدد الرَسُولُ -صلى الله عليه وسلم- عدد البنات في بعض الأحاديث كما في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم، عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: دَخَلَتِ امْرَأَةٌ مَعَهَا ابْنَتَانِ لَهَا تَسْأَلُ، فَلَمْ تَجِدْ عِنْدِي شَيْئًا غَيْرَ تَمْرَةٍ، فَأَعْطَيْتُهَا إِيَّاهَا، فَقَسَمَتْهَا بَيْنَ ابْنَتَيْهَا، وَلَمْ تَأْكُلْ مِنْهَا، ثُمَّ قَامَتْ، فَخَرَجَتْ، فَدَخَلَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- عَلَيْنَا، فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: "مَنِ ابْتُلِيَ مِنْ هَذِهِ البَنَاتِ بِشَيْءٍ كُنَّ لَهُ سِتْرًا مِنَ النَّارِ"، وفي رواية: "مَنْ يَلِي مِنْ هَذِهِ البَنَاتِ شَيْئًا، فَأَحْسَنَ إِلَيْهِنَّ، كُنَّ لَهُ سِتْرًا مِنَ النَّارِ". وعند الترمذي، وحسنه، وصححه الألباني، عَنْهَا -رَضِيَ اللَّهُ عنها- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ ابْتُلِيَ بِشَيْءٍ مِنَ البَنَاتِ فَصَبَرَ عَلَيْهِنَّ كُنَّ لَهُ حِجَابًا مِنَ النَّارِ". (يلي) من الولاية، وهي القيام بالشؤون والعناية، و(بلي) من البلاء، وهو الاختبار والرضا بعطاء الله تعالى.
أيها الإخوة: هذه الأحاديث تدل على شرف الإنفاق على العيال، ولاسيما البنات؛ فإنهن لا يتعلق طمع الأب بهن من الاعتضاد بهن بالصَوْلِ على الأعداء بقوتهن، وإحياءِ اسمه، واتصالِ نسبه، وغيرِ ذلك، كما يتعلق بالذكَر.
ويحتجن إلى سترٍ في البيوت، ونفقةٍ؛ لأنهن قد لا يطقن الكسب، لعدم مناسبة كثير من الأعمال لهن؛ ففرص العمل لديهن محدودة، ثم إذا بلغن فصلحن للرجال كانت أنساب أولادهن لعصبات أزواجهن.
لذلك كله يبلغ العبد المؤمن بحسن النية في إعالتهن بأن يكون منضمًا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الجنة، انضمام الأصبع إلى الأصبع، ليس بينهما حائل، ويسترنه من النار.
أيها الإخوة: الناظر في أحاديثِ إثبات فضل رعاية البنات، سواء من بنات الصلب أو الأخوات أو القريبات، يجدها كثيرة ومتنوعة الألفاظ في ذكر أنواع الرعاية، فمرة يقول: "أحسن إليهن"، ومرة: "فصبر عليهن"، وأخرى: "وأطعمهن، وسقاهن، وكساهن"، وفي أخرى: "فأنفق عليهن، وزوّجَهن، وأحسن أدبهن"، وفي روايات: "يؤويهن"، و"يرحمهن"، و"يكفلهن"، و"يزوجهن"، وفي أخرى: "فأحسن صحبتهن، واتقى الله فيهن". قال الحافظ ابن حجر-رحمه الله- بعد أن ساق هذه الألفاظ: وهذه الأوصاف يجمعها لفظ الإحسان الذي اقتصر عليه في حديث الباب -وهو الحديث الذي روته عائشة لما أعطت المرأة التمرة. وقد اختلف في المراد بالإحسان: هل يقتصر به على قدر الواجب، أو بما زاد عليه؟ والظاهر الثاني؛ فإن عائشة أعطت المرأة التمرة فآثرت بها ابنتيها، فوصفها النبي -صلى الله عليه وسلم- بالإحسان بما أشار إليه من الحكم المذكور؛ فدل على أن من فعل معروفاً لم يكن واجباً عليه أو زاد على قدر الواجب عليه عُدَ محسناً، والذي يقتصر على الواجب وإن كان يوصف بكونه محسناً، لكن المراد من الوصف المذكور قدر زائد، وشرط الإحسان أن يوافق الشرع لا ما خالفه، والظاهر أن الثواب المذكور إنما يحصل لفاعله إذا استمر إلى أن يحصل استغناؤهن عنه بزوج أو غيره، كما أشير إليه في بعض ألفاظ الحديث، والإحسان إلى كل أحد بحسب حاله.
وقال أيضاً -رحمه الله-: وقال النووي تبعا لابن بطال: إنما سماه ابتلاء لأن الناس يكرهون البنات، فجاء الشرع بزجرهم عن ذلك ورغب في إبقائهن، وترك قتلهن، بما ذكر من الثواب الموعود به لمن أحسن إليهن، وجاهد نفسه في الصبر عليهن. وقال شيخنا في شرح الترمذي: يحتمل أن يكون معنى الابتلاء هنا الاختبار، أي: من اختبر بشيء من البنات لينظر ما يفعل أيحسن إليهن أو يسيء، ولهذا قيده في حديث أبي سعيد بالتقوى، فإن من لا يتقي الله لا يَأمنُ أن يتضجر بمن وكله الله إليه أو يُقصر عما أُمِرَ بفعله، أو لا يقصد بفعله امتثال أمر الله وتحصيل ثوابه. والله أعلم.
أيها الإخوة: وفي هذه الأحاديث تأكيدُ النبي -صلى الله عليه وسلم- على حق البنات على آبائهن أو من يقوم على تربيتهن، وذلك لما فيهن من الضعف غالباً عن القيام بمصالح أنفسهن، وليست القضية طعاماً ولباساً وتزويجاً فقط، بل أدباً ورحمةً، وحسنَ تربية، واتقاءً للهِ فيهنَّ، فالعَوْل في الغالب يكون بالقيام بمؤونة البدن، من الكسوة والطعام والشراب والسكن والفراش ونحو ذلك، وكذلك يكون في غذاء الروح، بالتعليم والتهذيب والتوجيه، والأمر بالخير والنهي عن الشر، وحسن التربية، وهذه فائدة جمع الروايات في الحديث.
وقال ابن باز -رحمه الله-: وهذا يدل على فضل الإحسان إلى البنات والقيام بشؤونهن، رغبةً فيما عند الله -عز وجل-؛ فإن ذلك من أسباب دخول الجنة والسلامة من النار، ويُرْجَى لمن عال غير البنات من الأخوات والعمات والخالات وغيرهن من ذوي الحاجة فأحسن إليهن وأطعمهن وسقاهن وكساهن أن يحصل له من الأجر مثل ما ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- في حق من عال ثلاث بنات، وفضْل الله واسع، ورحمته عظيمة، وهكذا، من عال واحدة أو اثنتين من البنات أو غيرهن فأحسن إليهن يُرجى له الأجر العظيم، والثواب الجزيل. اهـ.
وقال: الإحسان للبنات ونحوهن يكون بتربيتهن التربية الإسلامية وتعليمهن، وتنشئتهنّ على الحق، والحرص على عفتهن، وبعدهن عما حرم الله من التبرج وغيره، وبذلك يُعلم أنه ليس المقصود مجرد الإحسان بالأكل والشرب والكسوة فقط، بل المراد ما هو أعم من ذلك من الإحسان إليهن في عمل الدين والدنيا. اهـ.
أسأل الله -تعالى- بمنه وكرمه أن يقر عيوننا بما وهبنا من البنات والبنين، وأن يجعلهم هداة مهتدين. وصل اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
الخطبة الثانية:
أيها الإخوة: يقول الله -تعالى- ممتناً على عباده بوجود الذرية: (لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) [الشورى:49-50].
نعم، إن الذرية هبة من إلهك -تعالى- يهبها لعباده، ويقدر -سبحانه- عددها، ونوعها، وعطاءها ومنعها.
وذكر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فضائل البنات، وجعل لهن قيمة ومنزلة وفضائل ومِنحاً تمتدُّ نحوَها الأعناق، وتهفو إليها القلوب. فيا عائل البنات، أبشِر بحِجاب من النار! وأبشر بالجَنَّة بصُحْبة النبي المختار! صلى الله عليه وسلم.
لذلك؛ تجد الأدب العربي ينقل ما يقع من التهاني بالبنات، من ذلك: أهلاً وسهلاً بعقيلة النساء، وأم الأبناء، وجالبة الأصهار، والأولاد الأطهار، والمبشرة بإخوة يتناسقون، ونجباء يتلاحقون.
وهنأ آخر أحد أصحابه بميلاد ابنته فقال: اتصل بي خبر المولود المسعود، كرم الله غُرتها، وأنبتها نباتاً حسناً، وما كان من تغيرك عند اتضاح الخبر، وإنكارك ما اختاره الله لك في سابق القدر، وقد علمت أنهن أقرب إلى القلوب، وأن الله بدأ بهن في الترتيب، فقال -تعالى-: "يهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الذكور"، وما سماه الله هبة فهو بالشكر أولى، وبحسن التقبل أحرى، فهنّاك الله بورودِ الكريمة عليك، وثَـمَّرَ بها أعداد النسل الطيب لديك. والسلام...
التعليقات