عناصر الخطبة
1/ تعظيم الله تعالى من أجلّ عبادات القلوب 2/ ان بناء الإيمان على تعظيم الله تعالى 3/ من معاني عظمته تعالى 4/ آثار تعظيم الله تعالى على القلب 5/ تعظيم الملائكة لله تعالى 6/ صورٌ لتعظيم نبينا الكريم والسلف الصالح لربهم 7/ مما يعين على تعظيم الله تعالى 8/ السبيل لتعظيم الله تعالىاهداف الخطبة
اقتباس
إن الله قد شرع لنا عبادات متنوعة من أجل أن نعبده ونشكره، وإن من أهم العبادات القلبية التي شرعها الله لنا تعظيمه -جل وعلا-، فتعظيم الله عبادة يجب تحقيقها والتركيز عليها، خصوصا في هذا الزمن الذي ظهرت فيه بعض الأمور المنافية لتعظيم الله، والمنافية لتعظيم شعائر دينه -عز وجل-.
الخطبة الأولى:
أما بعد: فيا أيها الناس، أوصيكم ونفسي بتقوى الله، قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102].
أيها الإخوة: إن الله قد شرع لنا عبادات متنوعة من أجل أن نعبده ونشكره، وإن من أهم العبادات القلبية التي شرعها الله لنا تعظيمه -جل وعلا-، فتعظيم الله عبادة يجب تحقيقها والتركيز عليها، خصوصا في هذا الزمن الذي ظهرت فيه بعض الأمور المنافية لتعظيم الله، والمنافية لتعظيم شعائر دينه -عز وجل-.
والإيمان بالله -تعالى- مبني على التعظيم والإجلال له -سبحانه وتعالى-، حيث جاء في تعريف العبادة أنها تعظيم الله وامتثال أوامره، فتعظيم الله من العبادات التي خلقنا الله لتحقيقها.
والله -جل وعلا- عظيم قد جاوزت عظمته -عز وجل- حدود العقول، ومن معاني عظمته -تعالى- أنه لا يستحق أحد من الخلق أن يعظَّم كما يعظَّم الله، قال الله -تعالى-: (تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا) [مريم:90] أي: تكاد السموات يتشققن من عظمة الله -عز وجل-.
أيها المسلمون، لقد ذم الله -تعالى- من لم يعظمه حق عظمته، ولا عرفه حق معرفته، ولا وصفه حق صفته، قال -تعالى-: (مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا) [نوح:13]، أي: ما لكم لا تعظمون الله حق عظمته؟! إن روح العبادة هو الإجلال والمحبة، فإذا تخلى أحدهما عن الآخر فسدت العبادة.
أيها الإخوة: إن تعظيم الله يعود على العبد بفوائد كثيرة، منها أن المسلم الذي امتلأَ قلبه بعظمة الله لديه ثقة مطلقة بالله، فتجده هادئ البالِ، ساكنَ النفس، مهما ضاقت به السبل. كما أنّ استشعارَ عظمة الله تملأ القلب رضًا وصبرًا.
إنّ معرفتنا بعظمةِ الله تورث القلبَ الشعورَ بمعيّته -سبحانه-، وتمنحنا الطمأنينة في المحن، والبَصيرة في الفتن؛ كما أنّ استشعارَ عظمةِ الله ومعيّته تبعَث في النفس معنى الثبات والعزّة, وتقوّي العزائم حتى في أشدّ حالات الضّعف.
أيها الإخوة: لقد قص علينا ربنا -جل وعلا- في كتابه عن تعظيم الملائكة له -جل وعلا- فقال -تعالى-: (وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) [سبأ:23] أي: لعظمته وجلاله وكبريائه لا يجترئ أحد أن يشفع عنده -تعالى- في شيء إلا من بعد إذنه له في الشفاعة.
وإن من عظيم قدرة الله -عز وجل- أنه إذا تكلم -سبحانه- بالوحي فسمع أهل السموات كلامه أرعدوا من الهيبة, حتى يلحقهم مثل الغشي, فإذا زال الفزع عن قلوبهم سأل بعضهم بعضا: ماذا قال ربكم؟ قالت الملائكة: قال الحق, وهو العلي بذاته وقهره وعلو قدره، الكبير على كل شيء.
وقد أورد البخاري في صحيحه عند تفسير هذه الآية الكريمة أن نبي الله قال: "إذا قضى الله -تعالى- الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنه سلسلة على صفوان، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا للذي قال: الحق وهو العلي الكبير".
وأما حال رسولنا في تعظيمه لربه فحاله لا يوصف، فمن ذلك أنه لما قال له رجل: فإنا نستشفع بالله عليك، فقال النبي: "سبحان الله! سبحان الله!"، فما زال يسبّح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه، ثم قال: "ويحك! أتدري ما الله؟! إن شأن الله أعظم من ذلك، إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه".
ومن أروع الأمثلة التي دوّنها التاريخ عن سلفنا الصالح وتعظيمهم لله -عز وجل- ما وقع للإمام مالك رحمه الله -تعالى- لما سأله أحدهم عن قوله -تعالى-: (الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى) [طه:5] فقال: كيف استوى؟ فما كان موقف الإمام مالك إزاء هذا السؤال إلا أن غضب غضبا شديدا لم يغضب مثله قط، وعلاه العرق، وأطرق القوم إلى أن ذهب عن الإمام مالك ما يجد، فقال: "الكيف غير معلوم، والاستواء غير مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وإني لأخاف أن تكون ضالاً"، ثم أُمر به فأُخرج.
فتأمّل -رحمك الله- ما أصاب الإمام مالكاً -رحمه الله- من شدة الغضب وتصبّب العرق إجلالاً وتعظيمًا لله -تعالى-، وإنكارًا لهذا السؤال عن كيفية استواء الربّ -تعالى-.
ومن الأمثلة في هذا الباب ما جرى للإمام أحمد رحمه الله -تعالى- لما مر مع ابنه عبد الله على رجل يحدث الناس بغير علم، ويذكر حديث النزول فيقول: إذا كان ليلة النصف من شعبان ينزل الله -عز وجل- إلى سماء الدنيا بلا زوال ولا انتقال ولا تغير حال، وهذا كذب على الله، يقول عبد الله: فارتعد أبي، واصفر لونه، ولزم يدي، وأمسكته حتى سكن، ثم قال: "قف بنا على هذا الكذاب"، فلما حاذاه قال: "يا هذا، رسول الله أغيَر على ربّه -عز وجل- منك، قل كما قال رسول الله".
أيها المسلمون، يجب علينا أن نعظم الله حق التعظيم؛ لأننا جميعا عبيده، فهو يستحق التعظيم -جل وعلا-.
وإن مما يعيننا على تعظيم الله أمورا كثيرة منها: التفكر في آياته المشاهدة التي نراها صباحا ومساء، فمنها خلق السماوات والأرض؛ فإن الناظر في السماء ليدهش من بديع صنعها وعظيم خلقها واتساعها وحسنها وكمالها وارتفاعها وقوتها، كل ذلك دليل على تمام عظمته -تعالى-، (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا) [النازعات:27-28]، (وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) [الذاريات:47]، (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ) [ق:6].
ومن نظر إلى الأرض كيف مهدها الله وسخرها لنا وجعل فيها جبالا رواسي شامخات مختلفة الألوان، وكيف جعل الله -تعالى- الأرض قرارا للخلق لا تضطرب بهم ولا تزلزل بهم إلا بإذن الله، من تأمل ذلك استشعر عظمة الله -جل وعلا-، (وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ) [الذاريات:20].
ومن آيات عظمته -عز وجل- ما بث الله -تعالى- في السموات والأرض من دابة، ففي السماء ملائكته، لا يحصيهم إلا الله -تعالى-، ما من موضع أربع أصابع إلا وفيه ملك قائم لله -تعالى- أو راكع أو ساجد، يطوف منهم كل يوم بالبيت المعمور في السماء السابعة سبعون ألف ملك، لا يعودون إليه إلى يوم القيامة.
وفي الأرض من أجناس الدواب وأنواعها ما لا يحصى أجناسه، فضلا عن أنواعه وأفراده، هذه الدواب مختلفة الأجناس والأشكال والأحوال، فمنها النافع الذي به يعرف الناس عظم نعمة الله عليهم، ومنها الضار الذي يعرف الإنسان به قدر نفسه وضعفه أمام خلق الله، فكيف حاله مع خالقه -عز وجل-؟!.
ومن آيات عظمته -تعالى- الليل والنهار، (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ * وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [القصص:71-73].
ومن آيات عظمة الله -تعالى- الشمس والقمر، حيث يجريان في فلكهما منذ خلقهما الله -تعالى- حتى يأذن بخراب العالم، يجريان بسير منتظم، لا تغيير فيه ولا انحراف ولا فساد ولا اختلاف، (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) [يس:38-40].
ومن آياته -تعالى- الدالة على عظمته هذه الكواكب والنجوم العظيمة التي لا يحصيها كثرة ولا يعلمها عظمة إلا الله -تعالى-، تسير بأمر الله -تعالى- وتدبيره، زينة للسماء، ورجوما للشياطين، وعلامات يهتدى بها.
فالكون كله من آيات عظمة الله، هو الذي خلقه، وهو المدبر له وحده، لا يدبر الكون أحد غير الله.
فيا عجبا كيف يعصى الإلهُ *** أم كيف يَجحده الجاحد
وفِي كل شيء له آيةٌ *** تدل على أنه واحد
أيها الإخوة: إذا علمنا عن عظم بعض مخلوقات الله استصغرنا أنفسنا، وعلمنا حقارتها وضعفها أمام عظم قدرة خالقها -جل وعلا-، وإن ما غاب عنا من مشاهد قدرة الله -عز وجل- أعظم وأعظم بكثير مما نشاهده، فمن أعظم المخلوقات كلها العرش، قال رسول الله في الحديث الصحيح الذي رواه أبو داود: "أذن لي أن أحدث عن أحد حملة العرش، ما بين شحمة أذنه وعاتقه مسيرة سبعمائة عام تخفق الطير" أي: يحتاج الطائر المسرع إلى سبعمائة عام كي يقطع هذه المسافة، وقال الرسول -عليه الصلاة والسلام-: "ما السموات السبع في الكرسي إلا كحلقة ملقاة في فلاة من الأرض، وفضل العرش على الكرسي كفضل تلك الفلاة على تلك الحلقة".
يا من يرى مد البعوض جناحها *** في ظلمة الليل البهيم الأليَل
ويرى نياط عروقها فِي نَحرها *** والمخ في تلك العظام النحَّل
اغفر لعبد تاب من فرطاته *** ما كان منه في الزّمان الأوّل
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين والمسلمات من كل ذنب، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدًا كثيرا طيبا مباركا كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلوات ربي وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن من الأمور المعينة على تعظيم الله: تحقيق العبودية الكاملة لله -تعالى-؛ فالعبد كلما تقرب إلى ربه بأنواع العبادات وأصناف القرُبات عظُم في قلبه أمر الله؛ فتراه مسارعًا لفعل الطاعات، مبتعدًا عن المعاصي والسيئات.
ومن الأمور كذلك التدبر الدقيق للقرآن الكريم، والنظر في الآيات التي تتحدث عن خلق الله وبديع صنعه، والآيات التي تتحدث عن عقوبته وشديد بطشه، وآيات الوعد والوعيد، فإن تدبر القرآن يؤثر في القلب ولا شك، ويجعله يستشعر عظمة الخالق والخوف منه، فمن قرأ كتاب الله وتأمل فيه يجد فيه صفات الرب -سبحانه-، ملك له الملك كله، والأمور كلها بيده، مستو على عرشه، لا تخفى عليه خافية، عالم بما في نفوس عبيده، مطلع على أسرارهم وعلانيتهم، لا تتحرك ذرة إلا بإذنه، ولا تسقط ورقة إلا بعلمه.
ومما يعيينا على تعظيم الله النظر في حال السابقين؛ فلقد عاش على هذه الأرض أقوام وشعوب أعطاهم الله بسطة في الجسم وقوة في البدن لم يعطها أمة من الأمم، ولكنها كفرت بالله وكذبت بالرسل، فأذاقها الله لباس الجوع والخوف ودمرهم تدميرًا.
ومن ذلك الدعاء، وهو أنفع الأدوية وأقوى الأسباب متى ما حضر القلب وصدقت النية؛ فإن الله لا يخيب من رجاه.
ومما يعين كذلك التعرف على الله من خلال صفاته -جل وعلا-، فإنه موصوف بكل صفة كمال، فله العلم المحيط والقدرة النافذة والكبرياء والعظمة، فعلى قدر معرفة العبد لربه يكون تعظيم الله -عز وجل- في قلب العبد، وأعرف الناس به أشدهم له تعظيمًا وإجلالاً.
وكذلك مما يوجب التعظيم التعرف على نعم الله وآلائه وشكرها، فإنك -أخي المسلم- إذا تفكرت في نعم الله عليك أن هداك للإسلام وأعطاك سمعا وبصرا وعقلا ومالا وصحة وعافية وغنى ومسكنا وأولادا وأمنا وأمانا، وأن سلمك من الشرور والمحن فإنك إذا رجعت إلى نفسك وتأملت وتفكرت في تلك النعم فإنك ستعظم الله حق التعظيم وتجله -جل وعلا-.
أيها المسلمون: الله وحده يستحق منا التعظيم والإجلال، وإن من تعظيمه -جل وعلا- أن يتَّقى حق تقاته، فيطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر.
فليتك تَحلو والْحياة مريرة *** وليتك ترضى والأنام غضَاب
وليت الذي بينِي وبينك عامر *** وبيني وبين العالَمين خرَاب
إذا صح منك الود يا غاية المنى *** فكل الذي فوق التراب تراب
ألا وصلوا -عباد الله- على رسول الهدى، فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلّم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم إنا نسألك تعظيمك والخوف منك، وأن تمن علينا بتوبة صادقة تعيننا على طاعتك واجتناب معصيتك.
التعليقات