عناصر الخطبة
1/ الإيمان هو الحياة الحقيقية 2/ جزاء الإيمان أمن في الدارين 3/ من الناس من يحول الإيمان لسلعة يبيعه بعرض من الدنيا 4/ بيع الإيمان أعظم الخسران 5/ لا ثمن يعدل الإيماناهداف الخطبة
اقتباس
إن تحويل الإيمان إلى سلعة يساوم صاحبها عليها، ويعرضها للمقاضاة بشيء من الدنيا لهو أمر شائع في الناس، ووقع كثيرا في بني إسرائيل، فكان جمع من أحبارهم ورهبانهم يبيعون إيمانهم وعهدهم مع الله تعالى؛ ليقبضوا به مالا أو ينالوا به جاها؛ ولذا كُرر التحذير من ذلك في القرآن الكريم.
الخطبة الأولى:
الحَمْدُ للهِ العَلِيمِ الخَلَّاقِ، الكَرِيمِ المَنَّانِ؛ خَلَقَنَا مِنْ صَلْصَالٍ كَالفَخَّارِ، وَهَدَانَا لِلإِيمَانِ، وَعَلَّمَنَا القُرْآنَ، وَجَعَلَنَا مِنْ خَيْرِ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، نَحْمَدُهُ عَلَى الخَلْقِ وَالهِدَايَةِ، وَنَشْكُرُهُ عَلَى الكِفَايَةِ وَالرِّعَايَةِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ فَلَوْلاَهُ سُبْحَانَهُ مَا اهْتَدَيْنَا، وَلاَ صُمْنَا وَلَا صَلَّيْنَا، فَلَهُ الحَمْدُ لَا نُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْهِ كَمَا أَثْنَى هُوَ عَلَى نَفْسِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أَمْضَى عُمُرَهُ يَدْعُو إِلَى الإِيمَانِ، وَبَذَلَ فِي سَبِيلِهِ النَّفْسَ وَالمَالَ، وَلَقِيَ اللهَ - تَعَالَى - وَهُوَ أَكْمَلُ النَّاسِ إِيمَانًا، وَأَكْثَرُهُمْ يَقِينًا، وَأَخْلَصُهُمْ بَلاَغًا، وَأَصْدَقُهُمْ بَيَانًا، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ؛ اسْتَرْخَصُوا نُفُوسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ فِدَاءً لِإِيمَانِهِمْ؛ فَهَجَرُوا الدِّيَارَ، وَانْخَلَعُوا مِنَ الأَمْوَالِ، وَفَارَقُوا الأَحْبَابَ، وَقَاتَلُوا الكُفَّارَ، وَعَلَى التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَاتَّقُوا اللهَ - تَعَالَى - وَأَطِيعُوهُ، وَزَكُّوا نُفُوسَكُمْ بِالإِيمَانِ، وَزِيدُوا إِيمَانَكُمْ بِصَالِحِ الأَعْمَالِ، وَلاَ تُبْطِلُوهُ بِالكُفْرِ وَالنِّفَاقِ، وَلاَ تُخَرِّقُوهُ بِالعِصْيَانِ: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) [الأنفال: 2].
أَيُّهَا النَّاسُ: الإِيمَانُ هُوَ حَيَاةُ الإِنْسَانِ الحَقِيقِيَّةُ، وَسَبَبُ سَعَادَتِهِ الأَبَدِيَّةِ، وَهُوَ أَثْمَنُ شَيْءٍ يَمْلِكُهُ العَبْدُ، فَإِذَا حَوَّلَهُ إِلَى سِلْعَةٍ تُبَاعُ وَتُشْتَرَى فَقَدَ قَضَى عَلَى آدَمِيَّتِهِ، وَأَنْهَى حَيَاتَهُ الحَقِيقِيَّةَ، وَأَحَلَّ بِنَفْسِهِ الشَّقَاءَ الأَبَدِيَّ.
وَالإِيمَانُ هِبَةٌ مِنَ اللهِ - تَعَالَى - لِعِبَادِهِ، غُرِسَ فِي الفِطَرِ أَثْنَاءَ الخَلْقِ، وَأُخِذَ بِهِ المِيثَاقُ عَلَى العَبْدِ: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا) [الأعراف: 172].
وَالإِيمَانُ هُوَ الشَيْءُ الوَحِيدُ الَّذِي يَسْتَحِقُّ أَنْ يُبْذَلَ كُلُّ شَيْءٍ لِأَجْلِ بَقَائِهِ وَنَمَائِهِ؛ فَتُرْخَصُ فِي سَبِيلِهِ الأَنْفُسُ وَالأَمْوَالُ، وَالأَهْلُ وَالأَوْلاَدُ: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ) [التوبة: 111]، (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ الله) [البقرة:207]، بَذَلَ صُهَيْبٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مَالَهُ لِأَجْلِ إِيمَانِهِ، فَلَمَّا رَآهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "أَبَا يَحْيَى: رَبِحَ الْبَيْعُ"، وَتَلَا عَلَيْهِ الْآيَةَ. رَوَاهُ الحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ.
وَحَمَلَ رَجُلٌ عَلَى العَدُوِّ فَقَالَ النَّاسُ: أَلْقَى بِيَدِهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ، فَقَالَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: كَلاَّ، بَلْ هَذَا مِمَّنْ قَالَ اللهُ فِيهِ: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ) [البقرة:207]. وَالآيَةُ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَنْ بَذَلَ نَفْسَهُ وَمَالَهُ فِدَاءً لإِيمَانِهِ.
وَجَزَاءُ الإِيمَانِ أَمْنٌ فِي الدَّارَيْنِ، وَسَعَادَةٌ فِي الحَيَاتَيْنِ، وَعَاقِبَةُ تَرْكِ الإِيمَانِ خَوْفٌ وَقَلَقٌ، وَشَقَاءٌ دَائِمٌ، وَعَذَابٌ خَالِدٌ؛ فَفِيمَنْ تَمَسَّكُوا بَإِيمَانِهِمْ: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) [الأنعام: 82]، (وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى) [الكهف: 88]، وَفِيمَنْ تَخَلَّوْا عَنْ إِيمَانِهِمْ: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا * إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا) [النساء: 168، 169].
إِنَّ تَحْوِيلَ الإِيمَانِ إِلَى سِلْعَةٍ يُسَاوَمُ صَاحِبَهَا عَلَيْهَا، وَيَعْرِضُهَا لِلْمُقَاضَاةِ بشَيْءٍ مِنَ الدُّنْيَا لَهُوَ أَمْرٌ شَائِعٌ فِي النَّاسِ، وَوَقَعَ كَثِيرًا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَكَانَ جَمْعٌ مِنْ أَحْبَارِهِمْ وَرُهْبَانِهِمْ يَبِيعُونَ إِيمَانَهُمْ وَعَهْدَهُمْ مَعَ اللهِ - تَعَالَى - ؛ لِيَقْبِضُوا بِهِ مَالاً أَوْ يَنَالُوا بِهِ جَاهًا؛ وَلِذَا كُرِّرَ التَّحْذِيرُ مِنْ ذَلِكَ فِي القُرْآنِ الكَرِيمِ.
لَقَدْ أَخَذَ اللهُ - تَعَالَى - المِيثَاقَ عَلَى عُلَمَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِبَيَانِ الحَقِّ، وَعَدَمِ كِتْمَانِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا هُوَ مُقْتَضَى الإِيمَانِ، لَكِنَّهُمْ لِأَجْلِ الدُّنْيَا بَاعُوا إِيمَانَهُمْ، وَنَقَضُوا عُهُودَهُمْ: (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ) [آل عمران:187].
وَمِنْ عَجِيبِ أَمْرِ أَهْلِ الكِتَابِ أَنَّهُمْ لَمْ يَكْتَفُوا بِبَيْعِ إِيمَانِهِمْ لِأَجْلِ عَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا، بَلِ اجْتَهَدُوا فِي أَنْ يَتَخَلَّى المُؤْمِنُونَ عَنْ إِيمَانِهِمْ: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ) [النساء:44].
وَكُلُّ مَنْ بَاعَ إِيمَانَهُ لِأَجْلِ الدُّنْيَا فَإِنَّهُ يَجْتَهِدُ فِي إِضْلَالِ النَّاسِ وَجَرِّهِمْ إِلَى مَذْهَبِهِ؛ لِئَلاَّ يَبْقَى مَعَهُمْ إِيمَانٌ يَتَمَيَّزُونَ بِهِ عَنْهُ، وهَذَا يُفَسِّرُ جَلَدَ أَهْلِ البَاطِلِ مِنَ الكُفَّارِ وَالمُنَافِقِينَ فِي إِفْسَادِ إِيمَانِ النَّاسِ وَصَرْفِهِمْ عَنْهُ بِشَتَّى الوَسَائِلِ وَالأَسَالِيبِ.
وَإِذَا كَانَ أَكْثَرُ عُلَمَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ حَوَّلُوا إِيمَانَهُمْ إِلَى سِلْعَةٍ تُبَاعُ وَتُشْتَرَى، فَإِنَّ عَدَدًا قَلِيلاً مِنْ عُلَمَائِهِمْ حَافَظُوا عَلَى إِيمَانِهِمْ، وَصَدَعُوا بِالحَقِّ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ كُتُبُهُمْ، وَاتَّبَعُوا الرَّسُولَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُخَالِفِينَ فِي ذَلِكَ عَشِيرَتَهُمْ، وَكَانَ عَلَى رَأْسِهِمْ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَلاَمٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَمَعَ قِلَّتِهِمْ فَإِنَّ اللهَ - تَعَالَى - نَوَّهَ بِهِمْ، وَأَثْنَى عَلَى صَنِيعِهِمْ؛ لِيَقْتَدِيَ النَّاسُ بِهِمْ فِي الحِفَاظِ عَلَى إِيمَانِهِمْ: (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ للهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآَيَاتِ اللهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الحِسَابِ) [آل عمران:199].
وَأَوَّلُ آيَةٍ تَمُرُّ بِقَارِئِ القُرْآنِ فِي هَذَا المَوْضُوعِ هِيَ فِي بَيَانِ بَيْعِ المُنَافِقِينَ إِيمَانَهُمْ: (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ) [البقرة: 16]، وَهَذِهِ الآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ المُنَافِقِينَ كَانَ مَعَهُمْ إِيمَانٌ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ ثُمَّ وَجَدَ أَنَّ الإِيمَانَ لَا يُحَقِّقُ لَهُ النَّفْعَ الدُّنْيَوِيَّ الَّذِي يَطْلُبُهُ فَتَرَكَهُ لِيَشْتَرِيَ بِهِ الضَّلاَلَةَ؛ طَلَبًا لِلنَّفْعِ العَاجِلِ، وَفِي هَذَا الصِّنْفِ قَوْلُ اللهِ - تَعَالَى - : (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ) [المنافقون: 3]، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ الهُدَى الَّذِي كَانَ مَعَهُمْ هُدَى الفِطْرَةِ، فَكَانَ يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَخْتَارُوا الهُدَى فَاخْتَارُوا الضَّلاَلَةَ، وَتِجَارَةُ كِلاَ الفَرِيقَيْنِ خَاسِرَةٌ.
وَمِنْ سُوءِ المُنَافِقِينَ أَنَّهُمْ لَمَّا تَرَكُوا الإِيمَانَ أَرَادُوا مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنْ يَتْرُكُوا إِيمَانَهُمْ مِثْلَهُمْ، وَهَذَا دَأْبُهُمْ فِي القَدِيمِ وَالحَدِيثِ؛ فَإِنَّهُمْ يَزْدَرُونَ الإِيمَانَ، وَيَسْخَرُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ: (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً) [النساء:89].
وَفِي بَيْعِ المُشْرِكِينَ إِيمَانَهُمْ، وَحَرْبِهِمْ لِلْمُؤْمِنِينَ قَالَ اللهُ - تَعَالَى - : (اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ) [التوبة: 9، 10].
وَيَقَعُ فِي قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ مَا يَقَعُ مِنْ ضِيقٍ وَحَرَجٍ لِرُؤْيَتِهِمْ كَثْرَةَ مَنْ يَبِيعُونَ إِيمَانَهُمْ، وَيَشْتَرُونَ بِهِ عَرَضًا مِنَ الدُّنْيَا، وَيَشْتَدُّ بِهِمُ الضِّيقُ وَالحَرَجُ إِذَا كَانَ البَائِعُونَ لِدِينِهِمُ، المُسَارِعُونَ فِي ضَلاَلِهِمْ يَنْشَطُونَ فِي الصَّدِّ عَنْ دِينِ اللهِ - تَعَالَى - ، وَيَجْتَهِدُونَ فِي إِغْوَاءِ النَّاسِ وَإِضْلَالِهِمْ، وَهُمْ يَمْلِكُونَ القُوَّةَ وَالقُدْرَةَ وَالمَالَ وَالنُّفُوذَ، وَكَانَ المُؤْمِنُونَ ضُعَفَاءَ أَمَامَهُمْ، فَيُصَابُونَ بِالحُزْنِ وَالأَسَى مِنْ ذَلِكَ، وَقَدْ أُصِيبَ بِهِ خِيَارُ هَذِهِ الأُمَّةِ، رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَصَحْبُهُ الكِرَامُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-، وَفِي مَقْطَعٍ قُرْآنِيٍّ مُؤَثِّرٍ جِدًّا، يُجَلِّي اللهُ - تَعَالَى - حَقِيقَةَ ذَلِكَ، وَيُبَيِّنُ حِكْمَتَهُ -عَزَّ وَجَلَّ- مِنْهُ، وَيُؤَكِّدُ أَنَّ بَاعَةَ الإِيمَانِ يَضُرُّونَ أَنْفُسَهُمْ، وَلَنْ يَضُرُّوا اللهَ - تَعَالَى - شَيْئًا، وَلَنْ يَضُرُّوا المُؤْمِنِينَ إِلاَّ بِقَدَرٍ مِنَ اللهِ - تَعَالَى - لِحِكْمَةٍ يُرِيدُهَا، وَأَنَّ مِنْ حِكْمَةِ اللهِ - تَعَالَى - فِي بَقَائِهِمْ أَقْوِيَاءَ مَعَ بَيْعِهِمْ إِيمَانَهُمْ، وَحَرْبِهِمْ لِلْمُؤْمِنِينَ إِنَّمَا هُوَ لِتَمْيِيزِ الصُّفُوفِ، وَتَمْحِيصِ القُلُوبِ، وَكَشْفِ خَبَثِ النُّفُوسِ، وَكَانَ هَذَا المَقْطَعُ القُرْآنِيُّ فِي سِيَاقِ الحَدِيثِ عَنْ غَزْوَةِ أُحُدٍ الَّتِي نَالَ فِيهَا المُشْرِكُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ، وَفَرِحَ بِهَا اليَهُودُ وَالمُنَافِقُونَ، فَسَلَّى اللهُ - تَعَالَى - نَبِيَّهُ -عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ- والمُؤْمِنِينَ قَائِلاً: (وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالإِيمَان لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ * مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ) [آل عمران: 176 - 179]
إِنَّ ذَهَابَ البَاطِلِ نَاجِيًا فِي مَعْرَكَةٍ مِنَ المَعَارِكِ، وَبَقَاءَهُ مُنْتَفِشًا فَتْرَةً مِنَ الزَّمَانِ، لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - تَارِكُهُ، أَوْ أَنَّهُ مِنَ القُوَّةِ بِحَيْثُ لا يُغْلَبُ، أَوْ بِحَيْثُ يَضُرُّ الحَقَّ ضَرَرًا بَاقِيًا قَاضِيًا، وَإِنَّ ذَهَابَ الحَقِّ مُبْتَلًى فِي مَعْرَكَةٍ مِنَ المَعَارِكِ، وَبَقَاءَهُ ضَعِيفَ الحَوْلِ فَتْرَةً مِنَ الزَّمَانِ، لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - مُجَافِيهِ أَوْ نَاسِيهِ! أَوْ أَنَّهُ مَتْرُوكٌ لِلْبَاطِلِ يَقْتُلُهُ وَيُرْدِيهِ، كَلاَّ إِنَّمَا هِيَ حِكْمَةٌ وَتَدْبِيرٌ، هُنَا وَهُنَاكَ، يُمْلِي لِلْبَاطِلِ لِيَمْضِيَ إِلَى نِهَايَةِ الطَّرِيقِ، وَلِيَرْتَكِبَ أَبْشَعَ الآثَامَ، وَلِيَحْمِلَ أَثْقَلَ الأَوْزَارِ، وَلِيَنَالَ أَشَدَّ العَذَابِ بِاسْتِحْقَاقٍ! وَيُبْتَلَى الحَقُّ؛ لِيَمِيزَ الخَبِيثُ مِنَ الطَّيِّبِ، وَيَعْظُمَ الأَجْرُ لِمَنْ يَمْضِي مَعَ الابْتِلاَءِ وَيَثْبُتُ، فَهُوَ الكَسْبُ لِلْحَقِّ وَالخَسَارُ لِلْبَاطِلِ، مُضَاعَفًا هَذَا وَذَاكَ! هُنَا وَهُنَاكَ!
نَسْأَلُ اللهَ - تَعَالَى - أَنْ يَحْفَظَ عَلَيْنَا إِيمَانَنَا، وَأَنْ يُزَيِّنَهُ فِي قُلُوبِنَا، وَأَنْ يُثَبِّتَنَا عَلَيْهِ إِلَى المَمَاتِ غَيْرِ مُبَدِّلِينَ وَلاَ مُغَيِّرِينَ.
وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ...
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الحَمْدُ للهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَاتَّقُوا اللهَ - تَعَالَى - وَأَطِيعُوهُ: (وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ) [البقرة:48].
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: بَيْعُ الإِيمَانِ أَعْظَمُ الخُسْرَانِ، وَلاَ ثَمَنَ يَعْدِلُ الإِيمَانَ وَلَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا بِأَجْمَعِهَا مُنْذُ خَلَقَهَا اللهُ - تَعَالَى - إِلَى نِهَايَتِهَا، بَلْ إِنَّ أَجْزَاءَ الإِيمَانِ، وَمُفْرَدَاتِ عَمَلِهِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا كُلِّهَا، فَكَيْفَ بِأَصْلِ الإِيمَانِ؟!
ذَكَرَ النَّبِيُّ -عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ- أَنَّ غَدْوَةً وَرَوْحَةً فِي سَبِيلِ اللهِ - تَعَالَى - خَيْرٌ مِنْ كُلِّ الدُّنْيَا، وَالغُدْوَةُ وَالرَّوْحَةُ سُوَيْعَاتٌ قَلِيلَةٌ فِي الجِهَادِ، وَالجِهَادُ عَمَلٌ وَاحِدٌ مِنْ أَعْمَالِ الإِيمَانِ، وَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا". وَالرِّبَاطُ عَمَلٌ وَاحِدٌ مِنْ أَعْمَالِ الإِيمَانِ. وَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "رَكْعَتَا الْفَجْرِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا". وَرَكْعَتَا الفَجْرِ عَمَلٌ وَاحِدٌ مِنْ أَعْمَالِ الإِيمَانِ، وَيُنْجِزُهُ المُؤْمِنُ فِي بِضْعِ دَقَائِقَ.
فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الأَجْزَاءُ مِنَ الإِيمَانِ قَدْ فَاقَتْ فِي خَيْرِيَّتِهَا وَثَمَنِهَا الدُّنْيَا بِأَجْمَعِهَا فَكَيْفَ بِالإِيمَانِ كُلِّهِ، وَكَيْفَ بِأَصْلِهِ، وَكَيْفَ بِكُلِّ أَعْمَالِهِ وَأَجْزَائِهِ الَّتِي لَا تُعَدُّ وَلاَ تُحْصَى؟! لِنَعْلَمَ بِذَلِكَ أَنَّ الإِيمَانَ لَيْسَ لَهُ ثَمَنٌ حَتَّى يُبَاعَ، وَأَنَّ مَنْ بَاعَ إِيمَانَهُ بِشَيْءٍ مِنَ الدُّنْيَا مَهْمَا رَآهُ كَثِيرًا أَوْ ثَمِينًا فَهُوَ خَاسِرٌ ثُمَّ خَاسِرٌ.
وَمَعَ ذَلِكَ يُوجَدُ فِي النَّاسِ مَنْ يَبِيعُ إِيمَانَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا، وَقَدْ يَكُونُ عَرَضًا قَلِيلاً، وَثَمَنًا تَافِهًا حَقِيرًا، بَلْ قَدْ يَبْذُلُ إِيمَانَهُ بِالمَجَّانِ، وَقَدْ يَبْذُلُهُ بِدُنْيَا غَيْرِهِ؛ وَذَلِكَ أَشَدُّ الخُسْرَانِ.
وَفِي آخِرِ الزَّمَانِ يَكْثُرُ الَّذِينَ يَعْرِضُونَ إِيمَانَهُمْ لِلْبَيْعِ، وَيُعْلِنُونَ عَنْ بَيْعِهِ، وَيُفَاخِرُونَ بهَذَا البَيْعِ، وَيُنَافِحُونَ عَنْهُ، وَمَظْهَرُ ذَلِكَ الأَغْلَبِ فِي بَاطِلٍ يَدْعُونَ إِلَيْهِ، وَيُدَافِعُونَ عَنْهُ، أَوْ فِي حَقٍّ يَرْفُضُونَهُ، وَيُحَارِبُونَهُ، وَيُشَوِّهُونَ صُورَتَهُ.
قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ المُظْلِمِ؛ يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَمَنْ قَرَأَ العُقُوبَةَ المُرَتَّبَةَ عَلَى بَيْعِ الإِيمَانِ انْخَلَعَ قَلْبُهُ خَوْفًا مِنَ اللهِ - تَعَالَى - ، وَخَشِيَ مِنْ أَنْ تُغْوِيَهُ نَفْسُهُ فَيَبِيعَ إِيمَانَهُ، فَيَبُوءَ بِالإِثْمِ وَالخُسْرَانِ: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَإِيمَانهمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [آل عمران: 77].
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...
التعليقات