عناصر الخطبة
1/خير الصحبة وخير السرايا وخير الجيوش 2/أمثلة من التاريخ لانتصار الفئة المؤمنة الصادقة 3/فضيلة الصدق والتعاون لنصرة الحق 4/تثمين ثبات ورباط أهل بيت المقدس المرابطين 5/رسالة إلى كل مهتم بأمر التعليم والطلاباقتباس
هذه القاعدة النبويَّة النورانية تضيء للمسلمين على مدى الزمان والمكان، بأنهم إذا كانوا على قلب رجل واحد، وإذا استجابوا لله وللرسول، وإذا نقَّوْا صفوفَهم من الدخلاء والعملاء والمنافقين، كان النصر حليفًا لهم في كل مواقفهم وفي كل مواقعهم...
الخطبة الأولى:
الحمد لله، ناصر المؤمنين، وخاذل الكافرين والمنافقين، وأشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ، وحدَه لا شريكَ له، بيده الملك، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وشفيعنا وقدوتنا، محمدًا عبد الله ورسوله، وصَفِيُّه من خَلقِه وخليلُه، صلى الله عليه، وعلى آله الطاهرين، وصحابته الغر الميامين، ومن سار على نهجهم، واقتفى أثرهم، واتبع سنتهم إلى يوم الدين، والصلاة والسلام على الشهداء والمكلومين، والأسرى والمعتقَلين، والمرابطين الساجدين القائمين، في المسجد الأقصى المبارَك، وفي كل بقعة طاهرة من ديار المسلمين.
وبعد، أيها المسلمون، يا أبناء بَيْت الْمَقدسِ وأكناف بَيْت الْمَقدسِ، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج: يروي لنا ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: خَيْرُ الصَّحَابَةِ أَرْبَعَةٌ، وَخَيْرُ السَّرَايَا أَرْبَعُمِائَةٍ، وَخَيْرُ الْجُيُوشِ أَرْبَعَةُ آلَافٍ، وَلَنْ يُهْزَمَ اثنَا عَشَرَ ألفًا مِنْ قِلَّةٍ" صدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، في هذا الحديث الشريف يوجهنا الحبيب الأكرم والرسول الأعظم -صلى الله عليه وسلم- إلى خير الصحبة، وإلى خير الرفقة، في جميع الأمور التي تؤدِّي بالمسلم إلى الخير، وما من شك أن الصحبة أو الرفقة إذا زادت على الاثنين فأكثر كانت -بإذن الله- صحبة موفَّقة، صحبة كلُّ واحد من أفرادها يبذل الجُهْدَ، ويستفرغ الطاقةَ من أجل خدمة إخوانه، ومن أجل رعايتهم والحفاظ عليهم، فلو بدا لهم أن يذهبوا إلى أمر ما، ذهب اثنان، وبقي اثنان وبالتالي لا تحصل الوحشة أو الوحدة، أو الفُرْقة بين هذه الصحبة أو هؤلاء الأصحاب؛ ولذلك مدح رسولنا الأكرم -صلى الله عليه وسلم- هذه الصحبة التي يكون عنوانها الصلاح والخير والفَلَاح.
كما ذكر حبيبنا الأكرم -صلى الله عليه وسلم- خير السرايا، وضرب مثالًا للعدد في ذلك؛ لحكمة يعلمها الله -تعالى-، ويدركها رسوله الأكرم -صلى الله عليه وسلم- فذكر خير الصحبة، وخير السرايا وخير الجيوش التي تسير وتقاتل في سبيل الله -تعالى-، بهذا العدد وهو عدد ليس بالقليل، كما أنَّه ليس بالكثير، ولكنه ضرب من علامات النبوة وأعلامها، ثم يقول لنا الحبيب الأعظم -صلى الله عليه وسلم-، وهنا مقصد الحديث أيها المسلمون: "ولن يغلب اثنا عشر ألفًا من قِلَّة"، إذا اجتمع هذا العدد الذي هو مضاعَفات الأربع التي أشار إليها الحبيب الأكرم -صلى الله عليه وسلم- فلا تكون لهم غلبة إلا إذا اعتراهم من الأمور ما يبعدهم عن جادَّة الصواب، أو عن السبيل الصحيحة لهذه الغاية التي اجتمع لها اثنا عشر ألفًا من المسلمين، ولن يغلب اثنا عشر ألفًا من قِلَّة؛ إذن عليكم أيها المسلمون، أيها المؤمنون أن تفتشوا عن أسباب الغلبة إذا كنتم أكثر من هذا العدد وهذا الرقم؛ إذ أن هذا العدد كفيل إذا كانت النوايا مخلصة لله -تعالى-، وكان الجمع يقتدي بهدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
ولنا -أيها الأحبابُ- في سيرة الحبيب المصطفى -صلى الله عليه وسلم- لنا في هذه السيرة العطرة الحبيبة الكريمة ما يضيء على هذا الحديث الشريف، فاذكروا وتذكروا يوم كان أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثلاثمائة رجل، في واقعة بدر، في غزوة بدر كيف انتصر هذا العدد القليل على تلك العدة من كفار وصناديد قريش، الذين جمعوا أمرهم للقضاء على الإسلام والمسلمين؛ نعم، إنه الإيمان، وإنه الإجابة والاستجابة للقائد وهو يومها سيد البشر -عليه الصلاة والسلام-، الحبيب الأعظم، الذي كان من دعائه: "اللهمَّ إن تهلك هذه العصابة لن تعبد في الأرض"؛ فكان التأييد، وكان النصر، وكانت العزة للقلة القليلة من المؤمنين، بقيادة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
إذن أيها الأحبابُ: هذه القاعدة النبويَّة النورانية تضيء للمسلمين على مدى الزمان والمكان، بأنهم إذا كانوا على قلب رجل واحد، وإذا استجابوا لله وللرسول، وإذا نقَّوْا صفوفَهم من الدخلاء والعملاء والمنافقين، كان النصر حليفًا لهم في كل مواقفهم وفي كل مواقعهم، فالنصر لا يرتبط بالعدد القليل أو الكثير، ولكنه منة ومنحة من الله -سبحانه وتعالى-؛ (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ)[آلِ عِمْرَانَ: 126].
أيها المسلمون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج: "ولن يغلب اثنا عشر ألفًا من قِلَّة"؛ إذن فلتبحث الأمة في جميع أوقاتها وأزمانها، وفي جميع ظروفها عن الوهن، أو عن المخالفة، أو عن الخلاف، أو عن تفريق الصف، أو عدم الاستجابة لله ورسوله، أو ارتكاب أية مخالفة من مخالَفات الشرع الحنيف التي أوجبها الله -تعالى-، وبينها رسوله الأكرم -صلى الله عليه وسلم- للمسلمين في كل زمان ومكان؛ فالصدق مع الله -تعالى-، والصدق في قيادة الجيش أو قيادة الأمة، أو قيادة أية جماعة أو مجتمع من أمة الإسلام والمسلمين يجب أن يكون عنوان اجتماعه الصدق مع الله -تعالى-، والثبات على أوامر الله -تعالى-، وعدم المخالفة لمن يقود هذا الجمع أو هذه السرية أو ذاك الجيش.
أيها المسلمون: ولنا أيضا في سيرة الحبيب المصطفى -صلى الله عليه وسلم- ما ينير لنا الطريق في هذا الزمان، الذي نواجه فيه أعداء كثرا، نعم؛ إنه سبيل الله -تعالى-، وإنه طريق المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، خذوا مثالًا آخر من سيرة المصطفى -صلى الله عليه وسلم-؛ لَمَّا اجتمع الأحزاب حول المدينة المنوَّرة ليقضوا على الدولة الإسلاميَّة، وعلى الدعوة الإسلاميَّة، وعلى المجتمع الإسلامي، يوم احتشد الكفر وأعوانه لكي يحاربوا هذا الدين، في غزوة الخندق. ماذا كان موقف المسلمين؟ وماذا كان موقف المدافعين عن الإسلام والمسلمين والمدينة المنوَّرة؟ على ساكنها أفضل الصلاة وأتم التسليم؛ (وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا * مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا)[الْأَحْزَابِ: 22-23]، فماذا كانت العاقبة أيها المسلمون؟ انهزم الأحزاب وولوا مدبرين، وانتصر الإسلام والمسلمون في المدينة المنوَّرة، ولم تغز المدينة بعد ذلك، عندما كانت تخرج جيوش المسلمين منها يحملون دعوة الإسلام، وينشرون عدالة الإيمان في العالم أجمع، وهكذا أيها الأحبابُ هو هدي المصطفى -صلى الله عليه وسلم-.
"لن يُغلَب اثنَا عشرَ ألفًا من قِلَّة"، إنما تأتي الغلبة إمَّا من خيلائهم، أو من اعتزازهم بالكثرة، أو من خلافهم فيما بينهم، أو اختلافهم على قادتهم، أو إلى غير ذلك من الأسباب التي تقود والعياذ بالله إلى الخلاف والفُرقة والهزيمة.
أيها المسلمون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج: ولنا في ثباتكم في هذه الديار المبارَكة، ولنا في رباطكم الأبي في هذه الديار المقدَّسة عنوان واضح؛ إنه الوحدة التي تؤمنون بها، وأنتم تغدون وتروحون إلى المسجد الأقصى المبارَك؛ إنه العدد الذي يكون أحيانًا اثني عشر ألفًا أو يزيد على ذلك، أو ينقص عن ذلك، وفي كل الأحوال تعلنون بصوت واحد، وبقلب واحد، وبنداء واحد: "الله أكبر الله أكبر، ولله الحمد".
نعم أيها المسلمون، أيها المرابطون في ديار الإسراء والمعراج، يا حراس هذه الأرض الطيبة المباركة المقدَّسة، يا سدنة المسجد الأقصى المبارَك، وحراسه الأوفياء: أنتم بهذه الذَّريَّة الكريمة التي تعلنون صباح مساء بأنكم أهل الرباط، وأهل الثبات، وأهل المسجد الأقصى، وأهل القدس، وأهل هذه الديار المبارَكة المقدَّسة، تعلنون ذلك للعدو والصديق، تعلنون ذلك أمام العالم أجمع، بأنكم نذرتم أنفسكم للدفاع عن الإسلام، وعن كرامة المسلمين، وعن عزتهم في وقت تخاذل الكثيرون، وتردد الكثيرون، وطبَّع الكثيرون، نعم في وقت شديد الصعوبة، ولكنكم تؤمنون بقول الله -تعالى-: (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ)[آلِ عِمْرَانَ: 126]، وتقرؤون قول الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 200].
جاء في الحديث الشريف، عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعُيِّنَ باتت تحرس في سبيل الله"، أو كما قال، فيا فوزَ المستغفرينَ استغفِرُوا اللهَ وادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحدَه، والصلاة والسلام على سيدنا محمد لا نبي بعدَه، وأشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ، أحبَّ لعباده أن يعملوا لدِينهم ودنياهم؛ حتى يفوزوا بنعم الله وينالوا رضوانه، وأشهد سيدنا محمدًا عبده ورسوله، أدى الأمانة وبلغ الرسالة ونصح للأمة، وتركنا على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك.
أيها المسلمون: أذكركم بأننا سنُقيم صلاة الغائب بعد صلاة الجمعة مباشرة على أرواح الشهداء، -رحمهم الله-، وأسكنهم الفسيح من جنانه، وجمعنا بهم في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
أيها المسلمون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج: هناك أمر هام لا بد من التنبيه عليه، ونحن على أبواب سنة دراسيَّة لأبنائنا وبناتنا، فنقول وبالله التوفيق: علينا أن نؤمن لأبنائنا وبناتنا المدارس التي نثق بأنَّها ستعلمهم وتوجههم إلى التعليم الصحيح، وإلى المنهاج الذي يحافظ على عقيدتهم، وعلى قرآنهم، وعلى سنة نبيهم، وعلى تاريخهم المجيد، وعلى حضارتهم التي شهد لها كل العالم، نعم أيها المسلمون، إن التعليم أمر هام، ولن تنهض الشعوب ولن تنهض أمة من الأمم بدون هذا العلم والتعليم؛ ولذلك نقول لأولياء الأمور، ولجميع اللجان المهتمَّة بالمناهج والمدارس والتدريس: عليكم جميعًا أن تتضافر جهودكم، وأن تكونوا على قلب رجل واحد في اختيار المنهاج الذي يحفظ لأبنائنا سلامة العقيدة، وسلامة المعتقد، وسلامة الأخلاق، وسلامة الانتماء لهذه الأمة الكريمة، ولهذه الديار المقدَّسة، فلا نقبل تحريفا أو تزويرا في مناهج أبنائنا، ونهيب بالمعلمين والمعلِّمات أن يعوا هذا الدور الذي يقومون به في توجيه الأبناء والنشء إلى ما فيه خيرهم في الدنيا والآخرة.
أيها المسلمون: من أساليب هذا الاحتلال أن يتدخل في التعليم، أو يفرض المناهج التي يريدها، ولا تتفق مع رغبات شعبنا الصابر والمرابط، هذا الشعب الذي ضمنت له كل الأعراف وكل المواثيق وكل القوانين المحليَّة والدوليَّة أن يعلم أبناءه وفق إرادته، ووفقَ المنهاج الذي يكفل لهم معرفتهم بدينهم، وأمتهم وتاريخهم، فانتبهوا أيها الإخوة الكرام، أيها الآباء، أيتها الأمهات، يا أولياء الأمور، ويا مجالس الأولياء في مدارس القدس بخاصة، وغيرها من المدارس بعامَّةٍ، كونوا على يقين وثقة، بأنكم بصبركم وثباتكم وتعاونكم ستفشلون كما أفشلتم في الماضي أي استهداف لأبنائنا ومدارسنا ومناهجنا، ولا تنسوا أيها المسلمون دائمًا شد الرحال إلى المسجد الأقصى؛ لإعماره والصلاة فيه، والتردد عليه في جميع الأحوال والأوقات؛ فهو أمانة في أعناق المسلمين جميعًا، وأنتم تقومون بهذه الأمانة نيابة عن الأمة، فجزاكم الله خيرًا، وأكثر منكم، وبث الخير والإيمان في قلوبكم، إنكم إن شاء الله أهل ذلك، والذي تقومون به على خير وجه يرضي الله ورسوله وجماعة المسلمين.
اللهُمَّ رُدَّنا إليكَ ردًّا جميلًا، وهيئ لهذه الأمة فرجًا عاجلًا قريبًا، وقائدًا مؤمنًا رحيمًا، يوحد صفها، ويجمع شملها، وينتصر لها.
اللهُمَّ أرنا الحق حقًّا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا ووفقنا لاجتنابه، واغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، وأنتَ يا مُقيمَ الصلاة أَقِمِ الصلاةَ.
التعليقات