عناصر الخطبة
1/نعمة العقل من أجل النعم 2/دعوة القرآن إلى إعمال العقل والتأمل والتفكر 3/أهمية تحكيم العقل على الهوى 4/بعض صور الغباء وانتكاسات عقول بعض الناس 5/تساهل بعض الناس بدخول النار.اقتباس
ولكن هل ترضى يا مسكين أن تُعَذَّب في النار ولو للحظات، ثم تخرج منها بسبب ذنوب أنت مُصِرّ عليها؟ ومَن منَّا يتحمل نار الدنيا فضلاً على نار الآخرة التي فُضِّلت على نار الدنيا بمئة ضعف؟ إنها انتكاسة.
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإنَّ خير الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
وبعد: لقد وهب الله -تبارك وتعالى- للإنسان عقلاً مبدعًا ومدبرًا ميَّزه به عن الحيوانات ليفكر به ويبدعَ فيه ويعرفَ الصواب من الخطأ، ولقد خاطب الله -تعالى- هذا العقل في كتابه، ودعا الإنسان مرات عديدة وبصيغ مختلفة إلى تحكيم عقله، فقال له: (لعلكم تعقلون) ثماني مرات في كتابه، وقال: (أفلا تعقلون) ثلاث عشرة مرة، وكرر كلمة (يعقلون) اثنتين وعشرين مرة كمثل قوله -تعالى-: (لقوم يعقلون). كل ذلك ليبين لنا أهمية تحكيم العقل على الهوى.
ولماذا لم يؤاخذ الله -تعالى- المجنون والنائم والصغير؟ لأنهم لا يعقلون، وأما العاقل فخصيم نفسه.
ولذلك سيعترف الكفار وهم في النار أنهم لم يستخدموا عقولهم لمعرفة الحق، فقال -تعالى- في شأنهم: (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ)[الملك: 10]؛ فمن لم يستخدم عقله في التمييز بين الحق والباطل فهو إنسان غبي ومنتكس.
والإنسان إذا ابتعد عن منهج الله، وُكِلَ إلى نفسه وأصبح يتخبط في أمر مستقبله وتنقلب عنده القيم والمفاهيم.
دعونا نأخذ جولة سريعة لبعض صور الغباء وانتكاسات عقول بعض الناس الذين لم يحكِّموا عقولهم، لقد ذكر الله -تعالى- لنا في كتابه بعض صور انتكاسة العقول، وانقلاب موازين البشر خاصة إذا ابتعدوا عن منهج الله، لئلا نقع بمثل ما وقعوا فيه، وإليكم بعض الأمثلة:
الانتكاسة الأولى:
أشار الرب -جل وعلا- إليها في سورة البقرة وفي سورة آل عمران، فقال -تعالى- (وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللّهِ عَهْداً فَلَن يُخْلِفَ اللّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ)[البقرة: 80]، وقال -تعالى-: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ)[آل عمران: 24]،
هذه الآية تفيد أمرين خطيرين:
الأمر الأول: أن بعض الكفار يؤمنون بالآخرة وبالجنة والنار وأن هؤلاء قد أقروا بألسنتهم بأنهم سيدخلون النار، بمعنى أنهم كانوا يعلمون أنهم على خطأ، والمصيبة أنهم مصرين على ذلك الخطأ استكبارًا.
الأمر الثاني: أنهم رضوا لأنفسهم بدخول النار والعذاب فيها، وكأنهم مستهترين بالنار وبحرِّها. ولم يقولوا: لن تمسنا النار إلا لحظات معدودات، بل قالوا: أيامًا معدودات.
ومن يا ترى يرضى لنفسه أن يعذّب بالنار ولو للحظات، ومن يقوى على حرق النار للأجساد؟ إنها انتكاسة عجيبة، رضوا بالهوان والذل والعذاب.
وكلا الأمرين موجودان عند بعض المسلمين وإن لم ينطقوا بذلك.
تأملوا كيف أقرّ أولئك الكفار وهم بكامل قواهم العقلية أنهم سيدخلون النار ورضوا بذلك، أي أنهم يعلمون أنهم عصاة لخالقهم، وأنهم على خطأ، وأنهم يتبعون شهواتهم ويخالفون أمر ربهم، وأنهم سيعذبون على ذلك، فلماذا الإصرار على المعصية إذن؟ إنه الكبر.
إننا نجد صاحب الشهوة وشارب الدخان إذا نُصِحَ قال: إني مقصِّر وأسأل الله أن يعينني على تركه، يقول ذلك بلسانه، ولكنه يُصِرُّ على عدم تركه، مع علمه بضرره، بل تراه ينصح ابنه أو طلابه بعدم شرب الدخان وأن هذا عيب ومُضِرّ بالصحة، ولكنه ينسى نفسه!!
ألا تذكرون قصة ذلك اليهودي الذي سمح لابنه الذي كان على مشارف الموت بطاعة رسول قائلاً له: "أطع أبا القاسم"، فنطق الابن بالشهادة ثم مات على التوحيد، فلماذا ذلك الأب لم يطع رسول الله أيضًا؟ ولماذا فرط بابنه؟ فلو كان ذلك الأب موقنًا ببطلان دين محمد –صلى الله عليه وسلم- لما فرط بابنه وجعله يموت على دين الإسلام، بل على دين اليهودية، ولو كان معتقدًا بصدق دين محمد –صلى الله عليه وسلم-، فلماذا أنقذ ابنه ولم ينقذ نفسه؟ ففي كلا الحالتين تظهر انتكاسة عقل ذلك الرجل.
فعَنْ أَنَسٍ أَنَّ غُلامًا مِنْ الْيَهُودِ كَانَ يَخْدُمُ النَّبِيَّ، فَمَرِضَ فَأَتَاهُ النَّبِيُّ –صلى الله عليه وسلم- يَعُودُهُ وَهُوَ بِالْمَوْتِ فَدَعَاهُ إِلَى الإِسْلامِ، فَنَظَرَ الْغُلامُ إِلَى أَبِيهِ وَهُوَ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَقَالَ لَهُ أَبُوهُ: أَطِعْ أَبَا الْقَاسِمِ، فَأَسْلَمَ ثُمَّ مَاتَ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ مِنْ عِنْدِهِ وَهُوَ يَقُولُ: "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ بِي مِنْ النَّارِ"(رواه مسلم).
ألا تستنبطون من هذا القصة المكابرة في قبول الحق، وأن ذلك اليهودي كان يعرف الحق ولكنه لم يحكم عقله، فنصح ابنه بقبول الحق وترك نفسه. إنها انتكاسة العقل.
ألا تذكرون أيضًا قصة الرجل الذي ستندلق أقتابه في النار يوم القيامة، كان يعرف الحق ويدعو إليه ولكنه لم يعمل به، وكان يعرف المحرمات وينهى الناس عنها ولكنه كان يقع فيها. أين عقله؟ إنها انتكاسة ما بعدها انتكاسة، والعياذ بالله.
فعن أسامة بن زيد أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: "يُجَاءُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُلْقَى فِي النَّارِ، فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ فِي النَّارِ، فَيَدُورُ كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِرَحَاهُ، فَيَجْتَمِعُ أَهْلُ النَّارِ عَلَيْهِ فَيَقُولُونَ: أَيْ فُلانُ مَا شَأْنُكَ؟ أَلَيْسَ كُنْتَ تَأْمُرُنَا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَانَا عَنْ الْمُنْكَرِ؟ قَالَ: كُنْتُ آمُرُكُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَلا آتِيهِ، وَأَنْهَاكُمْ عَنْ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ"(متفق عليه).
فالمتأمل في هذا الحديث، يجد أناسًا في النار يحترقون، والعذاب الذي يعذبون به كافيهم، ومع ذلك فقد اجتمعوا حول هذا الرجل الذي اندلقت أمعاؤه، مما يدل على بشاعة ذنبه وشدة عذابه، وقد شبه بالحمار، إذ لا غباء أعظم من أن يعرف المرءُ الحق ويدعو الناس إليه، ثم لا يعمل به، وتأملوا كيف أن الله -تبارك وتعالى- جمع في النار بين هذا الداعية وبين بعض أتباعه الذين كانوا يستمعون لمواعظه ولكنهم لم يمتثلوا، ليزيدهم فضيحة فوق العذاب، فالمعذبون في هذا الحديث صنفان: أناس كانوا يَعلمون الحق ويُعلّمونه غيرهم، ولكنهم لم يعملوا به، وأناس كانوا يسمعون العلم والوعظ ولكنهم لم يعملوا بما سمعوا، فمن لم يعمل بعلمه، أو خالف قوله فعله، استحق العذاب المهين. وكل ذلك من انتكاسة البشر حينما لا يحكمون عقولهم.
ألا تذكرون قصة أبي لهب وأبي جهل ومجموعة من صناديد قريش حينما كانوا يتسمعون إلى قراءة رسول الله أثناء تهجده ويتلذذون بمعاني القرآن العجيبة، فهم أهل اللغة والفصاحة وكانوا يعرفون أن القرآن ليس بكلام بشر، فإذا أسفر النهار تلثم كل واحد منهم ورجع إلى بيته، فيلتقون في طريق عودتهم وينكشف حالهم لبعض، ثم يتعاهدون أن لا يكرروا ذلك لئلا يراهم العامة فيسلموا، ولكنهم لم يستطيعوا مقاومة حلاوة القرآن، فيعودون إلى سماعه في ليلة ثانية وثالثة، فقد كانوا يعرفون الحق ولكنهم كابروا، فوقعوا في الانتكاسة؛ لأنهم لم يحكموا عقولهم.
كثير من الناس يعرف الحق وطريق الاستقامة ويعرف طريق الانحراف والغواية ومع ذلك يكابر أو يغالط نفسه، فإذا نصحه أحد بترك الحرام من أفلام ونحوه قال: كل الناس ينظرون إلى الأفلام والممثلات وهذا شيء عادي، أو يدَّعي أن القصد هو التسلية، ونحو ذلك من مبررات شيطانية، وهو يعلم في قرارة نفسه بأن ذلك حرام، وأن ما يفعله لا يرضي الله -تعالى-، ومع ذلك يجادل في الباطل ويقنع نفسه به.
لذلك ينبغي للمسلم أن يكثر من الدعاء: "اللهم أرنا الحق حقًّا وارزقنا اتباعه"، "اللهم اهدنا إلى ما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم".
أسأل الله -تعالى- أن يفقهنا في أمر ديننا، وأن يعصمنا من الزلل، ويوفقنا لصالح القول والعمل، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، الجليل لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ للهِ وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وَأشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ إِمَامُ الأَنبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِيْنَ، وَأَفْضَلُ خَلْقِ اللهِ أَجْمَعِيْنَ، صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِيْنَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ. أما بعد: فاتقوا الله -تعالى- حق التقوى
لقد عرضت لكم آية من كتاب الله تظهر انتكاسة عقول الناس حينما لا يحكمون عقولهم، وذكرت أننا نستنبط منها أمران: الأمر الأول هو إصرار هؤلاء الكفار على الباطل رغم معرفتهم للحق، وأما الأمر الثاني المستفاد من الآية السابقة فهو رضا هؤلاء الكفار بدخول النار وتحمل العذاب الأليم.
وههنا لنا أن نسأل: لماذا رضي هؤلاء الكفار بدخول النار ولو لأيام معدودة؟ هل منا أحد يرضى أن يعذب بالنار ولو لثانية واحدة؟ أترضى أن يقال لك: ادخل هذا الفرن لثانية واحدة وسنعطيك مليون ريال؟ أو أدخل يدك فيه؟
المشكلة أنهم لا يعرفون حر نار جهنم، ولو كانوا يعرفون ما قالوا كلمتهم تلك، حتى لو كانت نار الآخرة مثل نار الدنيا، فمن يقوى على حر النار؟ ألم تر إلى شكل الحديد أو الفولاذ المنصهر وهو يخرج من الأفران سائلاً مثل الماء؟ فماذا ستفعل النار بالأجساد إذًا؟
فلماذا الرضا بهذا الهوان والعذاب يا ترى؟ تحس أنهم لم يستخدموا عقولهم البتة، وأن شهواتهم تتحكم فيهم.
بعض الناس يرضى لنفسه الهوان والذل، فلو خيَّرته بين أمرين: إما أن يُضرب بالمسطرة أو بنعل فماذا يختار؟ بعض الناس قد يختار المسطرة؛ لأن ليس فيها إذلال، مقارنة بالنعال، ولكن الجواب خاطئ؛ لأنه رضي لنفسه الهوان ابتداءً، فلماذا يرضى أن يُضرب في الأصل؟ فالواجب عليه أن يأبى أن يُضرب قائلا: لماذا أضرب وأهان؟ فالذي يقول: (وَقَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَّعْدُودَةً)[البقرة: 80]، لا يعرف عظم حر نار جهنم التي شررها كالقصر.
وهناك صور مماثلة لكثير من المسلمين الذين يرضون بدخول النار في سبيل البقاء على شهواتهم. فالذي يستمر على معصية الله، بحجة أن المسلم لن يخلد في النار لا يعرف قدر حر نار جهنم، وكأنّ منطقه وفعله شابه منطق اليهود حين قالوا: لن تمسنا النار إلا أياما معدودات.
فكثير من الناس يقر أنه عاصٍ لله وأنه مقصر، وأنه لا يسير في الطريق الذي يرضي الله -تعالى- وأنه يسلك مسلك المنحرفين، وسبب ذلك أن لديه مفهوم في قرارة نفسه أنه لن يخلد في النار أحد قال: لا إله إلا الله. فهذا صحيح، ولكن هل ترضى يا مسكين أن تعذب في النار ولو للحظات ثم تخرج منها بسبب ذنوب أنت مُصِرّ عليها؟ ومَن منَّا يتحمل نار الدنيا فضلاً على نار الآخرة التي فُضِّلت على نار الدنيا بمئة ضعف؟ إنها انتكاسة.
إذا كانت نار الدنيا تذيب الحديد الصلب والمعادن فما بالكم بنار يزيد حرّها على مئة ضعف من نار الدنيا، فهي سوداء مظلمة. فقد روى أبو هريرة أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: "لو كان في المسجد مائة ألف أو يزيدون؛ ثم تنفس رجل من أهل النار لأحرقهم"(صحيح الترغيب والترهيب).
تخيل إنسان وسط جهنم، في نار سوداء مظلمة، لهبها يرتفع فوقه أعظم من ناطحات السحاب، الشرارة الواحدة كالقصر الكبير، قال -تعالى-: (إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ)، فالشرارة في حجم القصر، ثم قال -تعالى-: (إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ *كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ)[المرسلات: 23- 24]؛ أي: كمثل الجمال السوداء؛ لأن النار سوداء مظلمة، حتى شرارها أسود في حجم القصور، من يقوى على هذه النار (إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ)[الهمزة: 8]؛ لا يستطيعون الخروج منها.
إن الذي يبقى على معاصيه ولا يتوب ولا يستغفر، بحجة أن المسلم لن يخلد في النار وأن مصيره النهائي في الجنة ولا يبذل الأسباب المنجبة من النار لإنسان طمَس على قلبه، ومنكوس العقل والقلب.
لقد أمرنا الرسول أن نبذل الغالي والنفيس كي ننجو من النار فقال –صلى الله عليه وسلم-: "من استطاع منكم أن يستتر من النار ولو بشق تمرة فليفعل"، ويأتي منكوس العقل ويقول: لن تمسنا النار إلا أيامًا معدودات.
وبعض الأغبياء يقول: النار سندخلها سندخلها، فتمتع وخذ راحتك والمقدر كائن، ويحتج بقوله -تعالى-: (وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا)[مريم: 71]، سبحان الله، إذا كنت موقنًا بأنك ستدخل النار بسبب جرائمك وغوايتك، فلماذا لا تكفّ عن المعاصي وتنقذ رقبتك من النار؟ المسألة ليس فيها سجن ولا جلد؛ المسألة فيها نار تلظى لا يقوى عليه الحديد فكيف بالأجساد. فأين عقول هؤلاء الناس؟!
فقد روى النعمان بن بشير أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: "أنذرتكم النار، أنذرتكم النار، حتى لو أن رجلاً كان بالسوق لسمعه من مقامي هذا".
والأمر الآخر أن قوله -تعالى-: (وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا) قال بعض أهل العلم بأن الورود نوعان؛ دخول ومرور، فورود الكفار هو دخولهم فيها، وورود المسلمين هو مرورهم عليها فوق الصراط الذي سيُنْصَب على متن جهنم، فإن كنت لا تفقه فاسأل أهل العلم ولا يخدعنك الشيطان، وأنقذ نفسك من نار جهنم وقودها الناس والحجارة.
فالمسلم مطالب أن يستجير من النار دبر كل صلاة، قائلاً: "اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم ومن عذاب القبر"، كما أنه مطالب أن يستجير منها بالأعمال الصالحة خصوصًا التي أكد عليها النبي –صلى الله عليه وسلم- بأنها تقي صاحبها حر جهنم.
ومع انتكاسة أخرى نعرضها في خطبة قادمة؛ بإذن الله.
اللهم حبِّب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، اللهم أحينا على أحسن الأحوال التي ترضيك عنا، اللهم ارزقنا الثبات حتى الممات، اللهم أصلح لنا ديننا، اللهم احفظ علينا أمننا واستقرارنا، وأصلح ولاة أمرنا..
التعليقات