عناصر الخطبة
1/حلم الإنسان ببيت يمتلكه في الدنيا 2/تفاوت قصور الدنيا بسبب موقع الأرض 3/قيمة أر قُصُورِ الجنة 4/ماهية بناء قصور الجنة وصفاتها 5/حور العين في قصور الجنة 6/فرش قصور الجنة وآنية أهلها وأمشاطهماقتباس
أَيُّهَا الإِخْوَة: إِنَّ حَدِيْثَنَا اليَوْمَ -بِإِذْنِ اللهِ تَعَالَى- عَنْ قَصْرٍ فِيْ مَوْقِعٍ مُخْتَلِفٍ، عَنْ قَصْرٍ فِيْ مَوْقِعٍ مُمَيَّزٍ، لَيْسَ هَذَا القَصْرُ مِنْ قُصُورِ الدُّنِيَا، فَلَيْسَ لَهُ عُمْرٌ اِفْتِرَاضِيٌّ، وَإِنَّمَا هُوَ قَصْرٌ جَدِيدٌ مُتَجَدِدٌ عَلَى الدَّوَامِ. وَإِذَا كَانَتْ قِيْمَةُ قُصُورِ الدُّنْيَا وَمَسَاكِنِهَا تَتَفَاوَتُ بِسَبَبِ مَوْقِعِ الأَرْضِ وَقِيْمَةِ المِتْرِ فِيْ الحَيْ، فَمَا هِيَ قِيْمَةُ الأَرْضِ فِي قُصُورِ الجَنَّةِ؟...
الخطبة الأولى:
الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ.
لَكَ الحَمْدُ حَمْداً نَسْتَلِذُّ بِهِ ذِكْرَاً *** وَإِنْ كُنْتُ لَا أُحْصِي ثَنَاءً وَلَا شُكْرًا
لَكَ الحَمْدُ حَمْدَاً طَيِّبَاً يَمْلَأُ السَمَا *** وَأَقْطَارَهَا وَالأَرْضَ وَالبَرَّ وَالبَحْرَا
لَكَ الحَمْدُ حَمْدَاً سَرْمَدِيَاً مُبَارَكَاً *** يَقِلُّ مِدَادُ البَحْرِ عَنْ كَتْبِهِ حَصَرًا
لَكَ الحَمْدُ تَعْظِيمَاً لِوَجْهِكَ قَائِمَاً *** يَخُصُّكَ فِي السَّرَاءِ مِنِّي وَفِي الضَّرَا
لَكَ الحَمْدُ مَقْرُونَاً بِشُكْرِكَ دَائِمَاً *** لَكَ الحَمْدُ فِي الأُولَى لَكَ الحَمْدُ فِي الأُخْرَى
وَأَشْهَدُ أَن لا إِلَهَ إِلَا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.
ذِي كِلْمَةُ التَّوْحِيدِ دَوَّى صَوتُها *** فأَجَابَ كُلُّ مُوَحِّدٍ دَعْوَاهَا
ذِي كِلْمَةُ التَّوْحِيدِ أَكْبرُ كِلْمَةٍ *** الكَوْنُ في كُلِّ الوُجُودِ يَرَاهَا
ذِي كِلْمَةُ التَّوْحِيدِ أَعْذَبُ لَفْظَةٍ *** حَمْداً لِمَنْ لِلْخَلْقِ قَدْ أَسْداهَا
ذِي كِلْمَةُ التَّوْحِيدِ مِنْ مِثْقالِهَا *** قَدْ طَاشَتِ الدُّنْيَا بِمَا يَغْشَاهَا
وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحمَدًا عَبدُ اللهِ وَرَسُولُهُ.
اللهُ زَادَ مُحَمَّدًا تَكْرِيمًا *** وَحَبَاهُ فَضْلاً مِنْ لَدُنْهُ عَظِيمًا
وَاخْتَصَّهُ فِي المُرْسَلِينَ كَرِيمًا *** ذَا رَأْفَةٍ بِالمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا
صَلُّوا عَلَيهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا.
فَاللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّم عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعيِنَ، وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَومِ الدِّينِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ- وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ.
يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: مُنْذُ أَنْ يَلْتَحِقَ الوَاحِدُ مِنَّا بِوَظِيْفَةٍ يَبْدَأُ فِيْ تَلْبِيَةِ اِحْتِيَاجَاتِهِ الأَسَاسِيَّةِ كَالطَعَامِ وَالشَرَابِ والمَرْكَبِ والزَوَاجِ، وَبَعْدَ فَتْرَةٍ يُصْبِحُ شُغْلُهُ الشَاغِلُ التَفْكِيرُ فِي تَمَلُّكِ بَيْتٍ لَهُ وَلِأُسْرَتِهِ.
هَذَا الحُلْمُ أَعْنِي حُلْمَ تَمَلُّكِ البَيْتِ يَسْتَمِرُّ مَعَ الإِنْسَانِ سِنِيْنَ عَدَدًا، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَمَكَنُ مِنْ تَحْقِيقِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَفْشَلُ قَبْلَ ذَلِكَ.
ثُمَّ إِنَّ الوَاحِدَ إِذَا اِمْتِلَكَ مِنَ المَالِ مَا يَتَمَكُنُ بِهِ مِنْ بِنَاءِ مَسْكَنِ العُمُرِ لَهُ وَلِأَوْلَادِهِ وَاجَهَتْهُ مَشَاكِلُ أُخْرَى؛ مِنْ اِرْتِفَاعِ أَسْعَارِ الأَرَاضِي وَمَوَادِّ البِنَاءِ، وَالبَحْثِ عَنِ العَمَالَةِ المَاهِرَةِ الأَمِيْنَةِ.
إِضَافَةً إِلَى إِثْقَالِ كَاهِلِهِ بِالقُرُوضِ والدُّيُونِ، وَمُتَابَعَةِ العَمَالَةِ، وَكُلُّ هَذِهِ مُنَغِصَاتٌ تُنَكِّدُّ عَلَى المَرْءِ تَحْقِيقَ هَذَا الحُلْمَ السَعِيْدَ.
سَأَتَحَدَّثُ مَعَكُمُ اليَوْمَ عَنْ وَسَائِلِ اِمْتِلَاكِ بَيْتِ العُمُرِ، وَإِنْ شِئْتَ سَمِّهِ: قَصْرَ العُمُرِ، وَسَأُسِرُّ إِلَيْكَ بَبَعْضِ الطُرُقِ المُخْتَصَرَةِ التِي تُسَهِّلُ عَلَيْكَ اِمْتِلَاكَ قَصْرِكَ -بِإِذْنِ اللهِ تَعَالَى-.
وَدَعْنِيْ أَدْعُوا اللهَ -تَعَالَى- قَبْلَ البَدْءِ أَنْ يَرْزُقَنَا أَجْمَعِيْنَ البُيُوتَ الوَاسِعَةَ الهَنِيئَةَ، وَأَنْ يُسَهِّلَ بِنَاءَ البَيْتِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا، وَأَنْ يَرْزُقَ كُلَّ مَنْ فِي هَذَا الجَامِعِ بَيْتًا وَاسِعًا مَمْلُوْكًا لَهُ إِنَّهُ جَوَادٌ كَرِيم.
أَيُّهَا الإِخْوَة: إِنَّ حَدِيْثَنَا اليَوْمَ -بِإِذْنِ اللهِ تَعَالَى- عَنْ قَصْرٍ فِيْ مَوْقِعٍ مُخْتَلِفٍ، عَنْ قَصْرٍ فِيْ مَوْقِعٍ مُمَيَّزٍ، لَيْسَ هَذَا القَصْرُ مِنْ قُصُورِ الدُّنِيَا، فَلَيْسَ لَهُ عُمْرٌ اِفْتِرَاضِيٌّ، وَإِنَّمَا هُوَ قَصْرٌ جَدِيدٌ مُتَجَدِدٌ عَلَى الدَّوَامِ: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)[التحريم: 11].
جَاءَ جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- يَوْمًا إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَخْبَرَهُ أَنَّ زَوْجَتَهُ خَدِيْجَةَ قَدِ اِمْتَلَكَتْ وَاحِدًا مِنْ هَذِهِ القُصُورِ، فَفَرِحَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِهَذَا الخَبَرِ؛ فَعَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ أَبِي أَوْفَى -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "بَشِّرُوا خَدِيجَةَ بِبَيْتٍ مِنَ الجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ، لَا صَخَبَ فِيهِ وَلَا نَصَبَ".
وَإِذَا كَانَتْ قِيْمَةُ قُصُورِ الدُّنْيَا وَمَسَاكِنِهَا تَتَفَاوَتُ بِسَبَبِ مَوْقِعِ الأَرْضِ وَقِيْمَةِ المِتْرِ فِيْ الحَيْ، فَمَا هِيَ قِيْمَةُ الأَرْضِ فِي قُصُورِ الجَنَّةِ؟
رَوَى البُخَاريُّ فِي صَحِيْحِهِ عَنْ سَهْلِ بنِ سَعْدٍ السَاعِدِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "مَوْضِعُ سَوْطٍ في الجَنَّةِ، خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيا وَمَا فِيهَا".
اللهُ أَكْبَرُ، هَذَا مَوْضِعُ السَّوطِ، وَهُوَ أَقَلُّ مِنَ المِتْرِ المُرَبَّعِ، خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيْهَا.
بَلْ اِسْمَعْ لِمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ، رَوَى التِّرْمِذِيُ وَغَيْرُهُ وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِيُّ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَاصٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "لَوْ أَنَّ مَا يُقِلُّ ظُفْرٌ مِمَّا فِي الَجنَّةِ بَدَا" أَيْ لَو ظَهَرَ عَلَى الدُّنْيَا مِقْدَارُ مَا يَحْمِلُهُ ظُفْرُ الإِنْسَانِ "لَتَزَخْرَفَتْ لَهُ مَا بَيْنَ خَوَافِقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الَجنَّةِ اِطَّلعَ فَبَدَا أَسَاوِرُهُ لَطَمَسَ ضَوءَ الشَّمْسِ كَمَا تَطْمِسُ الشَّمْسُ ضَوْءَ النُّجُومِ".
الخِيَامُ مِنْ أَقَلِّ وَأَصْغَرِ أَنْوَاعِ المَسَاكِنِ فِيْ الدُّنْيَا، اِسْمَعْ مَعِيْ لِوَصْفِ خَيْمَةٍ مِنْ خِيَامِ الجَنَّةِ، وَقَارِنْهَا بِمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهَا، أَخْرَجَ اِبنُ حِبَّانَ فِيْ صَحِيْحِهِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "دَخَلْتُ الَجنَّةَ فَإِذَا أَنَا بِنَهَرٍ حَافَّتَاهُ خِيَامُ اللُّؤْلُؤِ، فَضَرَبْتُ بِيَدَيَّ فِي مَجْرَى مَائِهِ، فَإِذَا مِسْكٌ أَذْفَرُ، فَقَالَ جِبْرِيلُ: هَذَا الكَوْثَرُ الَّذِي أَعْطَاكَ اللَّهُ -تَعَالَى-".
وَرَوَى البُخَاريُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَبي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "فِي الجَنَّةِ خَيْمَةٌ مِنْ لُؤْلُؤَةٍ مُجَوَّفَةٍ، عَرْضُها سِتُّونَ مِيْلًا، فِي كُلِّ زاوِيَةٍ مِنْهَا أهْلٌ، ما يَرَوْنَ الآخَرِينَ".
قَالَ العَيْنِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: "المِيلُ يُسَاوِي سِتَةَ آلَافِ ذِرَاعٍ".
وَعَلَيْهِ فَإِنَّ عَرْضَ هَذِهِ الخَيْمَةِ بِالمَقَايِيسِ العَصْرِيَّةِ يَزيدُ عَنْ مِائَةِ كِيلُو مِتْر.
البُيُوتُ فِيْ الجَنَّةِ لَمْ تُصْنَعْ مِنَ الطُوبِ وَالحَدِيدِ، وَلَا مِنَ اللَّبْنِ وَالطِّينِ، بَلْ هِيَ مِنْ أَغْلَى المَوَادِ، وَلَيْسَ بِنَاؤَهَا مِنْ مَادَةٍ وَاحِدَةٍ، فَهُنَاكَ قُصُورٌ شَفَّافَةٌ لَا تَحْجِبُ مَا وَرَاءَهَا، أَخْرَجَ اِبْنُ حِبَّانَ وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِيُّ عَنْ أَبِي مَالِكٍ الأَشْعَرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "إِنَّ فِي الجَنَّةِ غُرَفًا يُرَى ظَاهِرُهَا مِنْ بَاطِنِهَا، وَبَاطِنُهَا مِنْ ظَاهِرِهَا، أَعَدَّهَا الله ُلِمَن أَطْعَمَ الطَعَامَ، وَأَفْشَى السَّلَامَ، وَصَلَّى بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ".
وَفِي الجَنَّةِ قُصُورٌ مِنْ ذَهَبٍ، أَخْرَجَ اِبْنُ حِبَّانَ وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِيُّ عَنْ أَنَسِ بنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "دَخَلْتُ الَجنَّةَ فَإِذَا أَنَا بِقَصْرٍ مِنْ ذَهَبٍ، فَقُلْتُ: لِمَنْ هَذَا القَصْرُ؟ فَقَالُوا: لِفَتًى مِنْ قُرَيشٍ فَظَنَنْتُ أَنَّهُ لِي، قُلْتُ: مَنْ هُوَ؟ قِيلَ: عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ".
أَمَّا حِيْطَانُ الجَنَّةِ، فَقَدْ رَوَى المُنْذِرِيُّ وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "حَائِطُ الجَنَّةِ لَبِنَةٌ مِنْ ذَهَبٍ وَلَبِنَةٌ مِنْ فِضَّةٍ، وَدَرَجُهَا اليَاقُوتُ وَاللُّؤْلُؤُ، قَالَ: وَكُنَّا نُحَدَّثُ أَنَّ رَضْرَاضَ أَنْهَارِهَا اللُّؤْلُؤُ وَتُرَابُهَا الزَّعْفَرَانُ"، وَالرَّضْرَاضُ هُوَ صِغَارُ الحَصَى فِي مَجَارِي المِيَاهِ.
وَهُنَاكَ فِي الجَنَّةِ قُصُورٌ مِنْ قَصَبٍ ــوَهُوَ اللؤلُؤــ وَقُصُورٌ مِنْ لُؤْلُؤٍ وَزَبَرْجَدٍ ــوَهِيَ حِجَارَةٌ كَرِيْمَةٌــ، وَقُصُورٌ مِنْ دُرٍّ أَبْيَضٍ وَيَاقُوتٍ أَحْمَرٍ وَزَبَرْجَدٍ أَخْضَرٍ؛ كَمَا وَرَدَتْ بِذَلِكَ الأَحَادِيْثُ.
أَرْضٌ لَهَا ذَهَبٌ والمِسْكُ طِيْنَتُهَا *** وَالزَّعْفَرانُ حَشِيْشٌ نَابِتٌ فِيْهَا
أَنْهَارُهَا لَبَنٌ محْضَّ وَمِنْ عَسَلٍ *** والخَمْرُ يَجْرِي رَحَيْقًا في مَجَارِيْهَا
وَالطَّيْرُ تَجْرِي عَلَى الأَغْصَانِ عَاكِفَةً *** تُسَبِّحُ اللهَ جَهْرًا في مَغَانِيْهَا
مَنْ يَشْتَرِي قُبَّةً في العَدْنِ عَالِيةً *** في ظَلِّ طُوبى رَفِيْعَاتٍ مَبَانِيْهَا
دَلَّالُهَا المُصْطَفَى واللهُ بَائِعُهَا *** وَجُبْرَئِيْل يُنَادِي في نَوَاحِيْهَا
فَاللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ أَنْ تُدْخِلَنَا هَذِهِ القُصُورَ يَا رَبَّ العَالَمينَ.
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ بِالقُرآَنِ العَظِيمِ، وَنَفَعَنَا بِمَا فِيهِ مِنَ الآَيَاتِ وَالذِّكْرِ الحَكِيمِ.
قَدْ قُلْتُ مَا سَمِعْتُمْ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه، وأشهد أن محمداً عبدُه ورسوله الداعي إلى رضوانه صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وإخوانه وخِلَّانه، ومن سار على نهجه واقتفى أثره واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: إِذَا كَانَ مَا سَبَقَ بَعْضُ صِفَاتُ قُصُورِ الجَنَةِ، فَمَنْ يَكُونُ مَعَكَ فِي قَصْرِكَ؟
اسْمَعْ إِلَى هَذَا الحَدِيْثِ الذِي رَوَاهُ المُنْذِرِي وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِيُّ عَنِ اِبْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي حَدِيثِ آخِرْ آخِرِ الجَنَّةِ دُخُولَاً لَهَا، وَفِيهِ أَنَّ اللهَ -تَعَالى- يَقُولُ لَهُ: "الْحَقْ بالنَّاسِ، فيَنطَلِقُ يَرْمُلُ في الجَنَّةِ، حتَّى إذا دنا مِنَ النَّاسِ رُفِعَ له قَصْرٌ مِن دُرَّةٍ؛ فيَخِرُّ ساجِدًا، فيُقالُ لهُ: ارفَعْ رأسَكَ، ما لكَ؟ فيَقولُ: رأيْتُ ربِّي -أو تراءَى لي ربِّي-، فيُقالُ لهُ: إنَّما هو مَنزِلٌ مِن مَنازِلِكَ. قال: ثُمَّ يَلْقَى رَجُلًا فيَتهَيَّأُ للسُّجودِ له، فيُقالُ لهُ: مَهْ! ما لَكَ؟ فيَقولُ: رأيْتُ أنَّكَ مَلَكٌ مِنَ المَلائكةِ، فيَقولُ: إنَّما أنا خازِنٌ مِن خُزَّانِكَ، وعبْدٌ مِن عَبِيدِكَ، تحتَ يَدَيَّ ألْفُ قَهْرَمانٍ على مِثْلِ ما أنا عليهِ ـــأَيْ: أَلْفُ خَادِمٍ- قال: فيَنطَلِقُ أمامَهُ حتَّى يَفتَحَ له القَصْرَ، قال: وهو مِن دُرَّةٍ مُجَوَّفةٍ، سَقائِفُهَا وَأَبْوَابُهَا وَأَغْلَاقُهَا وَمَفَاتِيحُهَا مِنْهَا، تَستَقبِلُهُ جوهرةٌ خَضراءُ مُبَطَّنةٌ بِحَمْراءَ، فِيهَا سَبْعُونَ بَابًا، كُلُّ بَابٍ يُفضِي إِلَى جَوهَرةٍ خَضْرَاءَ مُبَطَّنةٍ بِحَمْرَاءَ، كُلُّ جَوهَرةٍ تُفضِي إِلَى جَوهَرةٍ عَلَى غيرِ لَونِ الأُخرَى، فِي كُلِّ جَوهَرةٍ سُرُرٌ وَأَزوَاجٌ ووصائِفُ، أَدناهُنَّ حَوْراءُ عَيْناءُ، عَلَيْهَا سَبْعُونَ حُلَّةً، يُرَى مُخُّ سَاقِهَا مِن وَرَاءِ حُلَلِها، كَبِدُهَا مِرْآتُهُ، وكَبِدُهُ مِرْآتُها، إذا أَعرَضَ عنها إعراضَةً ازدادَتْ في عَيْنِهِ سَبْعِينَ ضِعْفًا عَمَّا كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ، وَإِذَا أَعرَضَتْ عنُه إِعْرَاضَةً اِزْدَادَ فِي عَيْنِها سَبْعِينَ ضِعْفًا عَمَّا كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ، فَيَقُولُ لَهَا: وَاللهِ لَقَدْ اِزدَدْتِ فِي عَيْني سَبْعِينَ ضِعفًا، وتَقولُ لهُ: وَأَنْتَ وَاللهِ لَقَدْ اِزدَدْتَ فِي عَيْنِي سَبْعِينَ ضِعْفًا، فيُقالُ لهُ: أَشرِفْ، فيُشْرِفُ، فيُقالُ لهُ: مُلْكُكَ مَسِيرةُ مِئةِ عامٍ، يَنْفُذُهُ بَصَرُكَ".
وَإِنْ أَتَيْتَ إِلَى أَثَاثِ القَصْرِ، فَاسْمَعْ إِلَى الأَثَاثِ؛ أَمَّا السُرُرُ فَهِيَ مَوْضُونَةٌ؛ أَيْ مَنْسُوجَةٌ بِخُيُوطِ الذَّهَبِ وَالجَوَاهِرِ: (عَلَى سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ * مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ)[الواقعة: 15-16].
وَأَمَّا الفُرُشُ التِي عَلَى السُّرُرِ فَبَطَائِنُهَا مِنْ اِسْتَبْرَقٍ، وَهُوَ مَا غَلُظَ مِنَ الدِّيبَاجِ، قَالَ اِبنُ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: (بَطَائِنُهَا مِنْ اِسْتَبْرَقٍ) قَالَ: أُخْبِرْتُم بِالبَطَائِنِ، فَكَيفَ بِالظَّهَائِرِ.
وَأَمَّا الآَنِيَةُ فَهِيَ مِنَ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ، قَالَ تَعَالَى: (يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَب)[الزخرف: 71]، وَقَالَ تَعَالَى: (وَيُطَافُ عَلَيْهِم بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ)[الإنسان: 15].
وَأَمَّا أَمْشَاطُ أَصْحَابِ القُصُورِ فَهِيَ مِنَ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ، وَمَبَاخِرُهُمْ جُعِلَتْ مِنْ نَفْسِ العُودِ الذِي يُتَبَخَرُ بِهِ.
أَيُّهَا الإِخْوَةُ: هَذِهِ قُصُورُ الجَنَّةِ قُدْ أُعِدَّتْ وَجُهِزَتْ، وَلِكُلِ دَارٍ مِنْهَا سُكَانٍ، وَسُكَانُهَا هُمْ بَشَرٌ مِثْلُنَا، تَنَاوَشَتْهُمْ فِتَنُ الشُبُهَاتُ والشَهْوَاتِ.. فَمَنْ صَبَرْ.. وَمَنْ جَدَّ وَجَدَ.
يَا سِلْعَةَ الرَّحْمَنِ أَيْنَ المُشْتَرِي *** فَلَقَدْ عُرِضْتِ بَأَيْسَرِ الأَثْمَانِ
يَا سِلْعَةَ الرَّحْمَنِ هَلْ مِنْ خَاطِبٍ *** فَالمَهْرُ قَبْلَ المَوْتِ ذُو إِمْكَانِ
يَا سِلْعَةَ الرَّحْمَنِ كَيْفَ تَصَبَّرَ الـ ***ـخُطَّابُ عَنْكِ وَهُمْ ذَوُوُ إِيْمَانِ
يَا سِلْعَةَ الرَّحْمَنِ لَولَا أَنَّهَا *** حُجِبَتْ بِكُلِّ مَكَارِهِ الإِنْسَانِ
مَا كَانَ عَنْهَا قَطُّ مِنْ مُتَخَلِّفٍ*** وَتَعَطَّلَتْ دَارُ الجَزَاءِ الثَّانِي
لَكِنَّهَا حُجِبَتْ بِكُلِّ كَرِيهَةٍ *** لِيُصَدُّ عَنْهَا المُبْطِلُ المُتَوَانِي
وَتَنَالَهَا الهِمُمُ التِي تَسْمُو إِلَى *** رَبِّ العُلَى بِمَشِيئَةِ الرَّحْمَنِ
فَاتْعَبْ لِيَومِ مَعَادِكَ الأَدْنَى تَجِدْ *** رَاحَاتِهِ يَوْمَ المَعَادِ الثَّانِي
يا أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-: اعلموا أن الله -تعالى- قد أمرنا بالصلاة على نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم-، وجعل للصلاة عليه في هذا اليوم والإكثار منها مزية على غيره من الأيام، فللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
التعليقات