عناصر الخطبة
1/ الله يقلب الليل والنهار والعبرة من ذلك 2/ ضعف الإنسان وعدم تحمله لبرد الشتاء 3/ تذكُّر الفقراء الذين يعانون من البرد 4/ الشتاء الغنيمة الباردة 5/ من أحكام الشتاءاهداف الخطبة
اقتباس
والمرء -عباد الله- لا يتحمل بردًا ولا حرًا، فهو مخلوق ضعيف، فعند أحمد عن خولة بنت قيس عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "قال ابْنُ آدَمَ: إِنَّ أَصَابَهُ بَرْدٌ قَالَ: حِسِّ، وَإِنَّ أَصَابَهُ حَرٌّ قَالَ: حِسِّ". (وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا). فتذكر ضعفك أمام خالقك ورازقك، وإياك أن تعصي القوي المتين وأنت مخلوق من ماء مهين!!
الخطبة الأولى:
الحمد لله مصرف الشهور والأعوام، ومدبر الليالي والأيام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له على الدوام، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، بيّن لأمته الشتاء وما فيه من الأحكام، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه لاسيما الخلفاء الأربعة: الصديق والفاروق وذا النورين وعليًا وأتباعهم.
أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله-، اتقوا من أمرتم بتقواه ومن هو أهل التقوى والمغفرة -جل في علاه-.
عباد الله: في هذه الدقائق المعدودة واللحظات المحسوبة نأخذ بعض الوقفات الماسة من المسائل الشتوية المهمة، ونحن نحس بنفسات برده ونستنشق نسماته ونسمات هوائه.
إن الله -سبحانه وبحمده- يقلِّب الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار، فهذا فصل للصيف وذاك فصل للشتاء وذاك للخريف ورابع للربيع، ومن حكمة الله اختلاف الأحوال والتدرج في دخول المواسم على التوالي، فصيف ثم خريف ثم شتاء ثم ربيع.
ونأخذ من ذلك العبر للتفكر في آيات الله ومخلوقاته، وكذا سرعة مرور الليالي والأيام وانقضائها وانطوائها، وأن الدنيا لا تدوم على حال، ودوام الحال من المحال، وتذكروا -عباد الله- لو كان الزمان كله صيفًا أو كان شتاءً فهل تستقر الحال وتدوم وتصلح الحال على ما يرام؟! وهل يزاول المرء الأعمال ويمارس أحواله بانسجام واعتدال؟! فالحمد لله الملك العلام الكبير المتعال.
إن مما يشعر به الناس من البرد القارس باختلاف مناطقهم ومناخهم هو نَفَسٌ من أنفاس جهنم؛ ففي الصحيحين: "اشتكت النار إلى ربها قَالَتْ: يَا رَبِّ: أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا، فَجَعَلَ لَهَا نَفَسَيْنِ"، وفي رواية: "أذن لَهَا بنَفَسَيْنِ: نَفَسٌ فِي الشِّتَاءِ، وَنَفَسٌ فِي الصَّيْفِ، فَشِدَّةُ مَا تَجِدُونَ مِنَ الْبَرْدِ مِنْ زَمْهَرِيرِهَا، وَشِدَّةُ مَا تَجِدُونَ مِنَ الْحَرِّ مِنْ سَمُومِهَا".
فالنار تنطق نطقًا حقيقيًا، وتخاطب رب العزة حقًّا وصدقًا، وكلما اشتد البرد وهبوب الرياح الباردة تذكروا أن ذلك من نفس جهنم -أعاذني الله وإياكم من عذاب جهنم-.
والمرء -عباد الله- لا يتحمل بردًا ولا حرًا، فهو مخلوق ضعيف، فعند أحمد عن خولة بنت قيس عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "قال ابْنُ آدَمَ: إِنَّ أَصَابَهُ بَرْدٌ قَالَ: حِسِّ، وَإِنَّ أَصَابَهُ حَرٌّ قَالَ: حِسِّ". (وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا).
فتذكر ضعفك أمام خالقك ورازقك، وإياك أن تعصي القوي المتين وأنت مخلوق من ماء مهين!!
مضى الدهر والأيام والذنب حاصل *** وجاء رسول الموت والقلب غافل
نعيمـك في الدنيـا غرور وحسرة *** وعيشـك في الدنيا محال وباطل
والبرد يذكر بالله وعظمته، فذات مرة خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- زمن الشتاء، فجعل الورق يتهافت فقال: "يا أبا ذر"، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: "إن العبد يصلي الصلاة يريد بها وجه الله فتهافت عنه ذنوبه كما يتهافت هذا الورق عن هذه الشجرة". رواه الإمام أحمد.
وتذكّر -وأنت تنعم باللباس الدافئ والمسكن الهانئ- تذكّر الله فاحمده أولاً وأخيرًا على ما يسر وسهل، واشكره على ما أنعم وتفضل، وتذكر ثانيًا إخوانًا لك لا يجدون لباسًا ولا يرتدون لحافًا ولا يلبسون كساءً، برد قارس، وليل مظلم دامس، وأنت تبدل ما شئت من الثياب، وتملك من اللحاف والوقاية ووسائل التدفئة.
فانظر إلى إخوانك الفقراء المحتاجين والمساكين المعوزين لاسيما الأقربين؛ فهم أولى بالتفقد والعطاء المتين، وعند الترمذي: "من كسا مسلمًا على عري كساه الله -عز وجل- من خضر الجنة".
خرج صفوان بن سليم في ليلة باردة بالمدينة من المسجد فرأى رجلاً عاريًا، فنزع ثوبه وكساه إياه، فرأى بعض أهل الشام في المنام أن صفوان بن سليم دخل الجنة بقميص كساه، فقدم المدينة وقال: دلوني على صفوان، فقص عليه ما رآه.
رأى مسعر أعرابيًا يتشرق في الشمس وهو يقول:
جاء الشتاء وليس عندي درهم *** ولقد يخص بمثل ذاك المسلم
قـد قطع الناس الجباب وغيرها *** وكأنني بفنـاء مكة محرم
فنزع مسعر جبته فألبسه إياها.
رفع إلى بعض الوزراء الصالحين أن امرأة معها أربعة أطفال أيتام وهم عراة جياع، فأمر رجلاً أن يمضي إليهم وحمل معه ما يصلحهم من كسوة وطعام، ثم نزع ثيابه وحلف: لا لبستها ولا دفئت حتى تعود وتخبرني أنك كسوتهم وأشبعتهم، فمضى وعاد فأخبره: أنهم اكتسوا وشبعوا وهو يرعد من البرد، فلبس حينئذ ثيابه.
وعلينا -معشر المسلمين- بوصية عمر الشتوية؛ فقد كان إذا حضر الشتاء كتب إلى الجندي بالوصية أن الشتاء قد حضر وهو عدو، فتأهبوا له أهبته من الصوف والجوارب والخفاف، واتخذوا الصوف شعارًا ودثارًا؛ فإن البرد عدو سريع دخوله بعيد خروجه.
فعلينا أخذ الحذر والحيطة، والوقاية خير من العلاج، فدفع البرد باللباس واللحاف والخفاف أسهل من رفعه بعد دخول والتفاف، وفي الشتاء نتذكر أن إسباغ الوضوء على المكاره سبب لتكفير السيئات ورفع الدرجات، كما في مسلم: "ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟!"، قالوا: بلى، قال: "إسباغ الوضوء على المكاره".
وكذلك مما ينبغي أن يعلم أنه يلاحظ على بعض الناس ممن عليه قميص ذو أكمام أو أكمام ضيقة أنهم لا يستوعبون غسل اليد كلها، فيتركون المرفق وما حوله؛ إما لضيق الأكمام أو لكثرة اللباس أو لثقلها، والواجب استيعاب اليد بالغسل من رؤوس الأصابع إلى المرفقين، ولا بأس بتسخين الماء واستعمال السخانات ليؤدي المرء عبادة ربه على أحسن حال.
واجتنبوا -بارك الله فيكم- اللثام على الأنف والفم وقت الصلاة، فبعض الناس يغطي وجهه أو نصفه أو فمه، وهذا من مكروهات الصلاة، ولا بأس -إخوة الإسلام- بلبس القفازين -وهما شراب اليدين- في الصلاة عند الحاجة، ولا تعتبر حائلاً بين المصلى والمصلي.
ومن الأحكام -إخوة الإسلام- جواز الجمع بين الصلاتين إذا دعت الحاجة والمصلحة المحققة، كالبرد القارس الشديد أو هبوب الرياح الشديدة أو هبوط الأمطار الغزيرة أو وجود الثلوج الباردة.
قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله القائل: (فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ)، وأشهد أن لا إله إلا الله أنزل على رسوله: (فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ)، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله القائل: "ومن يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين".
ومن الأحكام -أمة سيد الأنام-: جواز التيمم عند عدم وجود الماء أو التضرر باستعماله عند عدم وجوده، فيضرب المرء يديه بالأرض ضربة واحدة يمسح بهما وجهه وظاهر كفيه على تراب طاهر أو صعيد من الأرض.
ومن المسائل: أنه يجوز الاستجمار بالأحجار ونحوها كالمناديل والخرق مع وجود الماء، فيستجمر ثلاث أحجار ويقطع على وتر ثلاث أو خمس أو سبع، ويستجمر حتى ينقي المحل من الأثر، ولا يجوز تأخير الصلاة عن وقتها لاسيما صلاة الفجر كأن يكون عليه جنابة أو احتلام أو يخشى مفارقة الفراش فيكره القيام لأجل البرد، فلا يجوز تأخير الصلاة عن وقتها بحال من الأحوالك (فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) [مريم:59].
ومن المسائل الشتوية -جعلني الله وإياكم من خير البرية- أن الفريضة لا يجوز أداؤها على الراحلة إلا إذا خشي خروج الوقت ولا يستطيع النزول، كأن يكون على طائرة أو أمطار غزيرة أو وحل في الأرض، ويجوز الجماع في ليالي الشتاء حتى ولو كان الإنسان ليس عنده ماء أو يتعذر استعماله كما أشار إلى ذلك ابن تيمية -عليه رحمة الله-.
ومما يجدر التنبيه عليه أخذ الحذر والحيطة من ترك المدافئ والمواد الكهربائية أو النارية مشتعلة مشتغلة حال النوم، أو وضعها عند الأبناء الصغار، أو الغفلة عنها؛ لما في ذلك من خطر الاحتراق والتلف والاختناق؛ وفي الصحيحين: "إن هذه النار إنما هي عدو لكم، فإذا نمتم فأطفئوها"، وفي رواية: "لا تتركوا النار في بيوتكم".
ومن المسائل الشتوية: المسح على الخفين، وقد سبق ذكر ذلك في الجمعة الماضية.
عباد الله: إن السلف الصالح يفرحون بقدوم الشتاء؛ لا لأجل أنه شتاء ولكن لما فيه من العبادة والاجتهاد والهناء، قال عمر بن الخطاب: "الشتاء غنيمة العابدين"، وقال ابن مسعود: "مرحبًا بالشتاء تنزل فيه البركة، يطول فيه الليل للقيام، ويقصر فيه النهار للصيام".
وقال الحسن: "نعم زمان المؤمن الشتاء؛ ليله طويل يقومه، ونهاره قصير يصومه"، وقال يحيى بن معاذ: "الليل قصير فلا تقصره بمنامك"، وكان عبيد بن عمير إذا جاء الشتاء قال: "يا أهل القرآن: طال ليلكم لقراءتكم فاقرؤوا، وقصر النهار لصيامكم فصوموا".
وكان أبو هريرة يقول: "ألا أدلكم على الغنيمة الباردة؟!"، قالوا: بلى، قال: "الصيام في الشتاء".
نعم؛ الشتاء غنيمة باردة، أي غنيمة حصلت بغير قتال ولا تعب ولا مشقة، فصاحبها يجوز هذه الغنيمة بغير كلفة ومشقة وعنف.
هذا؛ وأسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن ينصر دينه، وأن يعلي كلمته، وأن يجعلني وإياكم من أنصار دينه وشرعه.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين.
التعليقات