عناصر الخطبة
1/ الوفاء للوالدين 2/ بر الوالدين غنيمة 3/ ثمرات بر الوالدين 4/ بعض حقوق الوالديناهداف الخطبة
اقتباس
ألا إنها الغنيمة العظيمة! فاستثمر غنيمتك، أو أضِعها، عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: سمعتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "الوالدُ أوسطُ أبواب الجنة، فإن شئت فأَضِع هذا الباب أو احفظه" رواه ابن ماجه والترمذي واللفظ له.
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليماً.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران:102].
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) [النساء:1].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإن خير الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة.
إن الوفاء لمن أعظم وأشرف ما يتصف به الناس، ولذا مدح الله الموفين؛ ولو كان الوفاء داراً لكان بر الوالدين أعلاها، ولو كان الوفاءُ جسداً لكان بر المرء بوالديه رأس هذا الجسد، ولو كان الوفاء قبيلة فإن برك بأبيك وحدبك على والدتك شيخ هذه القبيلة وأعظمها فخاراً.
أَيْ عباد الله! أَيُّ مشاعر أرق، وأيُّ فضل بعد فضل الله أحق، مِن رد الجميل، والاعتراف بالفضل لأعظم صاحب فضلٍ عليك؟.
ألم تَرَ أنهما سببُ خُروجك من العدم (واللا شيء) إلى الوجود؟ والكريم يشكر من تسبب في المعروف له ولو من غير قصد.
ألستَ ترى يا أخي- أن من فتح عليك باباً عظيماً من الرزق (ولنقل: عدةَ ملايين من الريالات) بكلمةٍ قالها وهو غافلٌ، ألستَ ترى أن من جميل العشرة، وحُسن التصرُّف واللياقة، أن يُحثى له منها شيء؟!.
تجد الكريم طيِّبَ النَّفس يرى ذلك حقاً واجباً، وتجد البخيل اللئيم يقول: وما الذي صنع؟ إنما الجهدُ والمال لي، والرزق كلُّه لي، فلو كان فوق هذا الربح الذي أجراه الله على يديه إليك سبب في إنقاذ حياتك من الموت، هل يُجازي هذا المرء أن تُعطيَه الدنيا وما عليها؟! فكيف، وهو لا يريد إلا لُطفك، وحُسن العهد منك، وطيِّب الأحدوثة، وفي بعض الأحايين: السلامة من الأذى!.
كيف بمن يسعدُ لنجاحك، ويطرب لأولادك، ويَجهدُ لإعطائك، ويدأبُ لفلاحك، ويدعو الله بكرة وعشياً بحفظك وسلامتك، ويشعر بسرور الغنى إن دخل القرشُ جيبك، ويتلذذ بنعيم السعادة إن أسعد اللهُ بيتَك، وتقرُّ عينه بمعافاتك، فهل يجزي هذا أن تحمِلَه على رأسك، أو تنفق عليه من مالك، أو أن تدعوَ له في صلاتك؟!.
لا يجزي ولدٌ والده بشيء، ولو فعل وفعل، إلا أن يكون، كما قال الحبيب المصطفى -صلى الله عليه وسلم- عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه" رواه مسلم.
وهذا بابٌ قد أُغلق على الناس منذ زمن؛ فلا يجزي ولدٌ والديه بشيء الآن البتة، ولو جزاهما عليه الدنيا بحذافيرها!.
ألم ترَ أنهما أنفقا عليك في وقتٍ لا تملك لنفسك فيه كسباً؟ وهَشَّا لك وفَرِحا بمقدمك وأنت لا تملك فلساً؟ وَقَسَما لك من طعامهما وهما لا يريدان منك رداً؟ فقل لي بربِّك: هل تُقارن إحسانَهما بإحسانِ مُحسنٍ من البشر؟!.
ألَم تَرَ أنك إن اتبعتهما بإحسانٍ أُلحقت بمنزلتهما في الجنة، فالوالد يحدُبُ على بنيه، ويبحث عنهم، ولا تتم سعادتُه -حتى في الجنة- إلا بهم.
ولو سُئل الابنُ: من تشتهي أن يكون معك؟ لاشتهى زوجَه وولده! فالآباء يطلبون الأبناء، والأبناء يطلبون أبناءهم، ولا عكس!.
ألم ترَ أنهما يريدان لك الحياة والسلامة، وبعضُ الأولاد قد يُريد لهما الضرر، أَوَلَستَ تَسمع عن عقوق الأبناء؟ فأين منه تقصير الآباء؟! أما إن الوالدين قد يُقصِّران، وقد يظلمان أو يجوران، ولكن تبقى في فطرة الله في خلقه أنه مهما ارتكس الآباء في تقصيرهم تُجاه أبنائهم، فإنهم لن يبلغوا مقدار ما يفعلُه الأبناء ويصلوا إليه من عقوقهم وتقصيرهم، إلا ما شذ، والشاذ لا حُكم له.
أغرى امرؤ يوماً غلاماً جاهلاً *** بنقوده كيما ينال به الوطرْ
قال: ائتني بفؤاد أمك يا فتى *** ولك الدراهمُ والجواهرُ والدرر
فمضى وأغرزَ خِنجراً في صدرِها *** والقلبَ أخرجه وعاد على الأثر
لكنه مِن فَرط سُرعته هوى *** فتدحرج القلب المُعَفَّر إذْ عَثَر
ناداه قَلبُ الأُم وهو مُعَفَّر *** ولدي حبيبي هل أصابك مِن ضرر؟
فكأنَّ هذا الصوت رغم حُنُوِّه *** غضبُ السماء به على الولد انهمر
فارتد نحو القلب يغسله بما *** أجرت دموع العين من سيل العبر
ويقول يا قلب انتقم مني ولا *** تغفر فإن جريمتي لا تغتفر
واستل خنجره ليقتل نفسه *** طعناً فيبقى عبرة لمن اعتبر
ناداه قلب الأم كُفّ يداً ولا *** تذبح فؤادي مرتين على الأثر
أَلستَ توافقُني، يا عبد الله: كم نحن بحاجةٍ إلى خُلُق الوفاء، وإلى الازدياد في التوفية بالبر، وإلا كان المرءُ جباراً قاسياً، غليظاً عاصياً؟!.
قال عيسى -صلى الله عليه وسلم- وهو يُعدِّد مِن نِعَم الله عليه وهو في المهد: (قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً * وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً * وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً) [مريم:30-32].
وقال -تعالى-: (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ * وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتْ الْقُرُونُ مِن قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ * وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [الأحقاف:15-18].
وعن سعيد بن أبي بردة، عن أبيه، قال: كان ابنُ عمر يطوف، فرأى رجُلاً يطوف حاملاً أُمَّه وهو يقول:
إني لها بعيرُها المُذلَّلْ *** إنْ ذُعِرَت ركابُها لم أُذعر
أَحْمِلُها، وَمَا حَمَلَتني أكثرْ *** أتُراني جازيتُها يا ابنَ عُمر؟
فقال: لا، ولا زفرةً واحدة.
وفي رواية: ولا بطلقةٍ واحدةٍ من طَلَقاتِها، ولكنْ قد أحسَنتَ، واللهُ يُثيبُك على القليل كثيراً.
انظُر -يا عبد الله- إلى الأماني حين تكون أمنياتٍ خالصات صادقات:
ولدي يا نبضةً في خافقي *** ولدي يا فلذةً من كبدي
ولدي يا كوكباً أرقُبُه *** كي أرى فيه ضياء الفرقد
إنْ سألتُ الله يوماً أن أَرى *** في خريف العُمر أزكى مشهدِ
فشبابٌ خاشعٌ في طاعةٍ *** طاهرَ النظرةِ، معصوم اليد
أو سألتُ الله يوماً أملاً *** قبل أن ألقى الردى في مرقدي
فَلْذَتي يخشعُ في محرابِهِ *** ويُباري النَّجم عند السُّؤددِ
فأسعِد قلبَهما أيها المُوفَّقُ في حياتهما، وبعد الممات بصلاحِك، وبِبِرِّك وإحسانك، وبدعائك وتَحنانك، عسى الله أن يجعلك في زمرة البارين، وأن يجعل لك من ذريتك من يبرُّك من بعد برِّك بأبويك، فلا وصفة لاستجلاب البر مِثل سابق البر.
أخي المسلم: أكرِم أبويك، وتحنَّن، وتذلَّل لهما، وأطعهما في غير معصية، إذْ معروف الباري -سبحانه- عليك أكبر، وهو بالبر قبلهما أولى وأجدر.
واعلم أن رضا الله في رضا الوالدين، وأن سخط الله في سَخَطِ الوالدين، كما رواه الترمذي عن النبي -صلى الله عليه وسلم-.
بل إنهما من أوسع أبواب دخول الجنة، فأنت -إن بَرَرْتَهُما- تُوافقُ فطرتَك، وتُرضي ربَّك، وتكتسب حمد الناس، وحُسن العاقبة في الدنيا، وفوقَ ذلك تدخُلُ الجنة.
ألا إنها الغنيمة العظيمة! فاستثمر غنيمتك، أو أضِعها، عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: سمعتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "الوالدُ أوسطُ أبواب الجنة، فإن شئت فأَضِع هذا الباب أو احفظه" رواه ابن ماجه والترمذي واللفظ له.
أما إذا زاد البر واتصل، وعُرف به الإنسان، فإنه يسبق الآخرين إلى الجنة؛ فعن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "دخلت الجنة فسمعتُ فيها قراءةً، فقلتُ: من هذا؟ قالوا: حارثة بن النعمان، كذلكم البرّ! كذلكم البرّ!" وكان أبرّ الناس بأمه. رواه أحمد وغيره.
أيها المسلمون: إنَّ مِن حقوق الوالدين على أبنائهم: الإحسانُ إليهما، فقد قَرَن اللهُ الإحسان إليهما بعبادته فقال -تعالى-: (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) [الأنعام:151].
قال الشيخ السعدي -رحمه الله- في تفسيره: "أي: أحسنوا بالوالدين إحساناً، وهذا يعُمُّ كلَّ إحسان قولي وفعلي مما هو إحسان إليهم، وفيه النهيُ عن الإساءة إلى الوالدين، أو عدم الإحسان والإساءة، لأن الواجب الإحسان، والأمر بالشيء نهيٌ عن ضده.
وللإحسان ضدان: الإساءة، وهي أعظم جُرماً، وَتركُ الإحسان بدون إساءة، وهذا محرم، لكن لا يجب أن يلحق بالأول... وتفاصيل الإحسان لا تنحصر بالعد، بل تكون بالحد" اهـ.
عن أبي مُرَّة مولى أم هانئ بنت أبي طالب أنه: "ركب مع أبي هريرة إلى أرضه بـالعقيق، فإذا دخل أرضه صاح بأعلى صوته: عليك السلام ورحمة الله وبركاته يا أماه!. فتقول: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته.
يقول: رحمك الله كما ربيتِني صغيراً. فتقول: يا بني! وأنت فجزاك الله خيرًا ورضي عنك، كما بررتني كبيرًا" رواه البخاري في الأدب المفرد.
ومن حقوق الوالدين على أبنائهما: الإنفاقُ عليهما عند حاجتهما لذلك، بل إن الشريعة جعلت المال مال الوالد، فكأن الابن فيه يأتي بالتبع: فعن جابر بن عبد الله أن رجلاً قال: يا رسول الله، إن لي مالاً وولداً، وإن أبي يريد أن يجتاح مالي. فقال: "أنت ومالك لأبيك".
ونقل الإمامُ ابنُ قدامة -رحمه الله- عن ابن المنذر أنه قال: أجمع أهلُ العلم على أن نفقة الوالدين الفقيرين اللذين لا كسبَ لهما ولا مال واجبةٌ في مال الولد. اهـ.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، له الحمد والمجدُ والكبرياء، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا ضد ولا أشباه، وأشهد أن محمداً عبدُ الله ورسوله، النبي المصطفى، والرسول المجتبى، صلى عليه الله، وسلَّم تسليماً.
ومن حقوق الوالدين على أولادهم: وجوب الطاعة في المعروف، وفي هذا قصَّ لنا النبي -صلى الله عليه وسلم- قصة عجيبة، تبيِّن أن طاعة وإجابة الوالدين تُقدَّم حتى على نوافل العبادة.
فعَنْ أَبِى رَافِعٍ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: "كَانَ جُرَيْجٌ يَتَعَبَّدُ في صَوْمَعَةٍ فَجَاءَتْ أُمُّهُ -قَالَ حُمَيْدٌ: فَوَصَفَ لَنَا أَبُو رَافِعٍ صِفَةَ أَبِى هُرَيْرَةَ لِصِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أُمَّهُ حِينَ دَعَتْهُ كَيْفَ جَعَلَتْ كَفَّهَا فَوْقَ حَاجِبِهَا ثُمَّ رَفَعَتْ رَأْسَهَا إِلَيْهِ تَدْعُوهُ- فَقَالَتْ: يَا جُرَيْجُ أَنَا أُمُّكَ كَلِّمْنِي، فَصَادَفَتْهُ يُصَلِّى فَقَالَ اللَّهُمَّ أُمِّي وَصَلاَتِي، فَاخْتَارَ صَلاَتَهُ، فَرَجَعَتْ ثُمَّ عَادَتْ في الثَّانِيَةِ فَقَالَتْ: يَا جُرَيْجُ أَنَا أُمُّكَ فَكَلِّمْنِي، قَالَ: اللَّهُمَّ أُمِّي وَصَلاَتِي، فَاخْتَارَ صَلاَتَهُ، فَقَالَتِ: اللَّهُمَّ إِنَّ هَذَا جُرَيْجٌ وَهُوَ ابْنِي وَإِنِّى كَلَّمْتُهُ فَأَبَى أَنْ يُكَلِّمَنِي؛ اللَّهُمَّ فَلاَ تُمِتْهُ حَتَّى تُرِيَهُ الْمُومِسَاتِ.
قَالَ: وَلَوْ دَعَتْ عَلَيْهِ أَنْ يُفْتَنَ لَفُتِنَ، قَالَ: وَكَانَ رَاعِي ضَأْنٍ يَأْوِى إِلَى دَيْرِهِ -قَالَ- فَخَرَجَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الْقَرْيَةِ فَوَقَعَ عَلَيْهَا الرَّاعِي فَحَملَتْ، فَوَلَدَتْ غُلاَمًا، فَقِيلَ لَهَا: مَا هَذَا؟ قَالَتْ: مِنْ صَاحِبِ هَذَا الدَّيْرِ، قَالَ: فَجَاءُوا بِفُئُوسِهِمْ وَمَسَاحِيهِمْ فَنَادَوْهُ فَصَادَفُوهُ يُصَلِّى فَلَمْ يُكَلِّمْهُمْ -قَالَ- فَأَخَذُوا يَهْدِمُونَ دَيْرَهُ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ نَزَلَ إِلَيْهِمْ فَقَالُوا لَهُ: سَلْ هَذِهِ -قَالَ- فَتَبَسَّمَ ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَ الصَّبِيِّ فَقَالَ: مَنْ أَبُوكَ؟ قَالَ: أَبِي رَاعِي الضَّأْنِ.
فَلَمَّا سَمِعُوا ذَلِكَ مِنْهُ قَالُوا: نَبْنِي مَا هَدَمْنَا مِنْ دَيْرِكَ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ. قَالَ: لاَ وَلَكِنْ أَعِيدُوهُ تُرَابًا كَمَا كَانَ" الحديث متفق عليه، وهذا لفظ مسلم.
ومن حقوق الوالدين: الدعاءُ لهما، كما كان يقول الصالحون: (وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً) [الإسراء:24].
فهكذا علَّم الله عباده أن يقولوا، وأن يدعوا لآبائهم وأمهاتهم بالرحمة، أحياءً وأمواتاً.
قال ابن جرير -رحمه الله-: ادعُ الله لوالديك بالرحمة، وقل: ربِّ ارحمهما، وتعطَّف عليهما بمغفرتك ورحمتك، كما تعطَّفا عليَّ في صغري فَرَحِماني وربَّيَاني صَغيراً، حتى استقللتُ بنفسي واستغنيتُ عنهما. اهـ.
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقةٍ جارية، أو علمٍ يُنتفع به، أو ولدٍ صالحٍ يدعو له" رواه مسلم.
فبروا -يا عباد الله- آباءكم تبرُّكم أبناؤكم، وبادروا حياتهم بالمبرة، يُختم لكم ولهم -إن شاء الله- بالمسرة، واتقوا الله؛ إن الله كان عليكم رقيباً.
التعليقات