عناصر الخطبة
1/ ذكريات الهجرة النبوية 2/ فتح مكة 3/ الاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم سبيل للاستخلاف في الأرضاهداف الخطبة
اقتباس
فانفتحت أمام هذه الشكايات والدعوات المنبعثة من الْقلوب، حُجُب السماء، وانشقّت خلال هذه الأشواك المؤذية والمضايقات العنيدة: أرض (يثرب) الطيِّبة؛ عن نَبْتٍ أخضر، فلقد بايَع محمداً -صلى الله عليه وسلم- في موسم الحج جماعة من الأنصار: سكان المدينة مرَّتين؛ بايعوه على حمايته ونصرته، ومنعه مما يمنعون منه أنفسهم وأهليهم؛ فكانت هذه البيعة بدايةً لإظهار شرع الله وإقامة دينه ..
الحمدُ لله ربّ المشرق والمغرب لا إله إلاّ هو فاتّخذه وكيلاً، أحمده سبحانه، حمداً ملء السماوات وملء الأرض وملء ما شاء من شيء، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو الأُلوهيَّة والعبادة، الحقيق بها في كل زمان ومكان القائل في كتابه الكريم: (يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ) [العنكبوت:56].
وأشهد أنّ سيِّدنا محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلّم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه (الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ * يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) [التوبة:20-22]
أما بعد:
أيُّها المسلمون: في مطلع كل عام هجري يتذكر المسلمون كثيراً حادثة هجرة نبيهم -عليه الصلاة والسلام- حادثة بداية إنطلاقتهم وتخلصهم من ولاية الجبروت والتمرد والكفر.
ويوم الوشاح من أعاجيب ربنا *** ألا إنّه من بلدة الكفر نجاني
يتذكرونها فيذكرون مواقف أسلافهم وتضحياتهم بما طلب الإسلام التضحية به من نفس أو مال أو وطن، يتذكرونها فيذكرون مواقف ومؤامرات أعدائهم الأثيمة السوداء ضدهم، يتذكرون أن الحق لا يلتقي مع الباطل، وأن الكفر لا يتصادق مع الإسلام، ولن يصدق الكفر الإسلام أبداً (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) [البقرة:120] وما أعظم وأشد وقع الذكريات في النفوس.
ذكريات البطولات الخالدة، ذكريات مثل ذكريات الهجرة والجهاد، والصبر والمصابرة، ذكريات لا تنسى ولن تنسى مدى الأزمان، فقد سجلها وحي السماء، وتكفَّل الله بحفظها، ذكريات هجرة رسول الرحمة ونبي الإنسانيَّة جمعاء، -عليه الصلاة والسلام-.
ففي قرابة الثلاث والخمسين من عمره المبارك بعد أن أمْضى زمناً طويلاً في الدعوة إلى الله، دام صراعهُ خلالها مع الباطل في مكَّة قرابة ثلاثة عشر عاماً، اشتدَّ أذى قريش له ولمن آمن به من المستضعَفين؛ حتى بلغ حداً كبيراً من الإيلام لا يقدَّر أو يتصوَّر.
وماتت زوجه خديجة -رضي الله عنها-، التي كانت تؤنسه وتواسيه، ومات عمُّه أبو طالب الذي كان يُصفي على رسول الله بصفته ابن أخيه نوعاً من الحماية؛ تدرأ عنهُ سفه المعتدين؛ ماتا في عام واحد حتّى سُمِّي ذلكم العام، عام الحزن، فضاقت مكَّة على سعتها برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبمن آمن به من المستضعَفين وأضحوا في حالة ضيقة محرجة، دعواهم فيها (رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً) [النساء:75]
نعم، ضاقت بهم -لا لذاتها-، فهي أقدس البقاع وأحبّها إلى رسول الله-، ولكن لضيق صدور أهلها، بل وضاق بهم ما حولها؛ فقد ذهب -صلى الله عليه وسلم- إلى الطّائف يلتمس مَن يؤمن به أو يؤويه وينصره، فرجع منها والدّم يسيل على عقبيه مُطارَداً بالحجارة، وشكواه لدى مَن يسمع الشكوى: "اللهُمَّ إنّي أشكو إليك ضعف قوّتي، وقلّة حيلتي، وهواني على النّاس".
فانفتحت أمام هذه الشكايات والدعوات المنبعثة من الْقلوب، حُجُب السماء، وانشقّت خلال هذه الأشواك المؤذية والمضايقات العنيدة: أرض (يثرب) الطيِّبة؛ عن نَبْتٍ أخضر، فلقد بايَع محمداً -صلى الله عليه وسلم- في موسم الحج جماعة من الأنصار: سكان المدينة مرَّتين؛ بايعوه على حمايته ونصرته، ومنعه مما يمنعون منه أنفسهم وأهليهم؛ فكانت هذه البيعة بدايةً لإظهار شرع الله وإقامة دينه، فهاجر -صلى الله عليه وسلم- من مكّة إلى المدينة هو وأصحابه الكرام، ووصلها وهو في ثامن ربيع الأوَّل.
هاجر ذلكم المهاجر الميمون الذي أشاد به القرآن الكريم، أشاد بذكر من هاجروا ومن تقبَّلوا المهاجرين وواساهم وآواهم (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الحشر:8-9]
وما هذه الهجرة هجرة ذُلٍّ أو يأْس؛ كلا؛ وأنّى ليأْسٍ أو ذُلٍّ أن يُخامر قلوباً مؤمنة بالله؛ ومصدِّقة بوعده؛ ولكنّها سياسة حكيمة، لبداية النصر والفتح؛ وتمهيد وتدبير للإطاحة بالباطل والقضاء على الطُّغيان.
فما هي إلاَّ برهة من الزمن، ثم ترى مردة قريش وصناديدها ممن وقفوا في وجه الدعوة إلى الله تتساقط في بدر على أنوفها ما بين صريع على وجهه، وأسير في وثاقه ما هي إلا سنيَّات قليلة، ثم عاد ذلكم الذي هاجر من مكّة، مُختفياً مطارَداً يجعل لمن يرده مائة ناقة.
يدخلها فاتحاً من أعلى طريق: مكبِّراً الله في عزَّة وجلال ووفاء، وبرّ ووصل ونصر، ويؤمنهم بقوله: "مَن دخل المسجد فهو آمن، ومن دخل دار أبا سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن" حتى وصل الكعبة، فجعل يكسر الأصنام المعلّقة بها، ويقرأ قول الله تعالى: (وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً) [الإسراء:81] ويُؤتى بعد بمن آذوه من قبل فيقول: "ما تظنّون أنّى فاعلٌ بكم؟ فيقولون: أخٌ كريم وابن عمٍّ كريم؛ فيقول: "اذهبوا فأنتُم الطُّلقاء".
فاتَّقوا الله -أيُّها المسلمون- وتذكّروا، حين يمرُّ بكم ذكر هذه الوقائع وأمثالها، ماضي سلفكم المجيد، وفخارهم الخالد، الذي بنوه بصبر وتحمُّل وتضحيَة بالأموال والأوطان.
تذكّروا ذلكم -دائماً- وخذوا منه قُدوة حسنة؛ ومثلاً أعلى في إخلاص العمل لله وحده؛ والتَّفاني في إعزاز دينه ونصرة شرعه في الثّبات والتحَمُّل، في مطاردة الضعف والخوَر والاستكانة، في بذل أوثق الأسباب مع صادق الإيمان، وخالص التوكُّل، وقوَّة عزم، وثقة بالله، وحفاظ على حدوده.
وثقوا أنَّكم إذا تحلَّيتُم بهذه المبادئ، واتّخذتم من سيرة الرسول الأعظم وصحبه الكِرام قدوة حسنة ومثلاً أعلى أن الله سيُحقّق لكم وعده كما حقّقه لسلفكم من قبل (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً) [النور:55] وإلا تتخذ من ذلكم مثلاً أعلاه وقدوة حسنة يستبدل قوم غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم.
أقول قولي هذا، وأسألُ الله العظيم أن يبارك لنا في كتابه الكريم، وأن يُلحِقنا بمن قال فيهم بعد ذكر المهاجرين والأنصار (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ) [الحشر:10]
التعليقات