عناصر الخطبة
1/ الأثر السلبي للنميمة على الفرد والمجتمع 2/ تعريف النميمة وحكمها في الشرع 3/ قصة مؤثرة 4/ من آثار السلف في النميمةاهداف الخطبة
اقتباس
النميمة أصل العداوات المريقة للدماء، تهتك الأستار، وتفشي الأسرار، تورث الضغائن والأحقاد. النميمة تَرفعُ المودة بين المتحابين، وتُجدد العداوات بين المتباغضين، وتُهيج الأحقاد بين المسلمين. من يسمع النمام، ويأخذ بقوله، كيف يكون حاله؟! وما الذي سيخطر بباله؟! غير بُغض أخيه المسلم، وإساءة الظن به، وقد يسُبُه، ويعتدي عليه، وقد يستحل غِيبته، ويقع في همزه ولمزه، وقد يُعرض عنه، ويُقاطعه، ويصَعّر خده له، ويهجره...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله...
عباد الله: عادة سيئة، وخلق ذميم، انتشرت بين فئات من الناس، وتناقلوها في غيبة من الشعور والإحساس، إنها آفة من آفات اللسان، وشَرَكٌ من حبائل الشيطان، أوقعَ فيه ضعاف الإيمان، فصال من خلالهم وجال، وملأَ القلوب حقدًا وحسدًا بين أهل التُقى والعرفان، إنها النميمة الحالقة للدين، وسبب العداوة والقطيعة بين المسلمين، النميمة نقل الكلام لغرض الإفساد، وإفشاء السر، وهتك الستر.
النميمة أصل العداوات المريقة للدماء، تهتك الأستار، وتفشي الأسرار، تورث الضغائن والأحقاد.
النميمة تَرفعُ المودة بين المتحابين، وتُجدد العداوات بين المتباغضين، وتُهيج الأحقاد بين المسلمين.
من يسمع النمام، ويأخذ بقوله، كيف يكون حاله؟! وما الذي سيخطر بباله؟! غير بُغض أخيه المسلم، وإساءة الظن به، وقد يسُبُه، ويعتدي عليه، وقد يستحل غِيبته، ويقع في همزه ولمزه، وقد يُعرض عنه، ويُقاطعه، ويصَعّر خده له، ويهجره، وقد يفكر بالانتقام منه، فانظروا إلى هذه الأفعال المحرمة، والتصرفات الذميمة، التي قد يقع فيها المسلم بسبب سماعه كلمة من نمام، تأملوها جيدًا، بسبب سماع كلمة نمام، بغض الأحبة، وإساءة الظن، وسب، وهمز، ولمز، وهجر، ومعاداة.
وهل يفرح الشيطان ويطرب إلا بمثل ذلك!! النميمة بضاعة إبليس التي عرضها على الناس فاشتروها بثمن بخس؛ قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم". يئس من الشرك بعدما دخلت العرب في الإسلام، لكن لم ييأس من السعي في تفريقهم، والتحريش بينهم، وإذكاء العداوات المريقة للدماء، المفرقة بين الأحبة والأصدقاء، هذه بضاعة إبليس التي راجت في القديم والحديث، ولم يسلم من شرها وضررها تقي ولا فاجر، كان بسببها قتلُ عثمان -رضي الله عنه-، وموقعةُ الجمل وصفين بين سادة الأولين والآخرين.
النمام صديقُ إبليس الصدوق، وساعده الأيمن، ووكيله المُعتَمد، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن إبليس يضع عرشه على الماء ويبعث سراياه، فأدناهم منه منزلةً أعظمهم فتنةً، يجيء أحدهم فيقول: فعلت كذا وكذا، فيقول: ما صنعت شيئًا. قال: ثم يجيء أحدهُم فيقول: ما تركته حتى فرقتُ بينه وبين زوجته، فيدنيه منه ويقول: نعم أنت".
عباد الله: النميمة فعل محرم، وكبيرة من كبائر الذنوب، تظاهرت الأدلة الشرعية على قُبحها وشناعتها، وشدةِ جرم صاحبها، قال تعالى: (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ)، قال غير واحد من السلف: الهمزة هي النميمة.
ويقول -صلى الله عليه وسلم-: "لا يدخل الجنة نمام". ولقد وصف الله تعالى الوليد بن المغيرة بعشرة أوصاف مذمومة فقال تعالى: (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ)، قال ابن قتيبة -رحمه الله-: "لا نعلم أن الله -عز وجل- وصف أحدًا بالذم مثلما وصف الوليد".
فهي صفة للكفرة المشركين، لا تليق بأهل الإيمان واليقين، قوم نوح -عليه السلام- وصف الله مكرهم بقوله تعالى: (وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً)، قال أهل التفسير: كان من مكرهم تحريض الناس بالنميمة على نوح لإيذائه وإلحاق الضرر به، وعلى هذا سارت قريش لما رأت من حب أبي طالب للنبي -صلى الله عليه وسلم-، وحدْبِه عليه، ونُصرته لدعوته، ذهب إليه رجال منهم فقالوا لأبي طالب: "إن ابن أخيك يكفّر عبد المطلب"، يسعون بالنميمة ليوغروا قلبه على ابن أخيه ليترك نُصرته، والدفاع عنه.
النميمة عنوان الشقاق، وصفة أهل النفاق، عن جابر -رضي الله عنه- قال: كنا في غزاة فكسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال المهاجري: يا للمهاجرين، وقال الأنصاري: يا للأنصار. فخرج عليهم النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال: "ما بال دعوى الجاهلية!". فاستغل ابن أبيّ -رأس المنافقين- الحادثة وبدأ يسعى بالنميمة ويحرش بين الناس ليُؤلبَهُم على رسول الله، ويفسد ذات بينهم، ويوقع الشقاق مع بعضهم، فقال مقولته الآثمة: ما مثلنا ومثل محمد ألا كما قال القائل: سمّن كلبك يأكلك، ولئن رجعنا المدينة ليُخرجنَّ الأعز منها الأذل.
النميمة أداة خبيثة يستخدمها الوضعاء، ويُحسن استغلالها الجهلة الجبناء، فهي صفة للمشركين، والمنافقين، واليهود الضالين، مرّ شاس بن قيس -وكان رجلاً يهوديًا حاقدًا على الإسلام- على نفر من الصحابة من الأوس والخزرج وهم في مجلس يتحدثون جميعًا، فغاظه ما رآه من اجتماعهم، وألفتهم، وصلاح ذات بينهم، بعد الذي كان بينهم في الجاهلية، فقال: قد اجتمع ملأ بني قيلة -يعني الأنصار- في هذه البلدة، والله ما لنا معهم إذا اجتمعوا قرار، فأمر شابًا من اليهود ليجلس معهم ويذكّرهم بيوم بعاث وما كان قبله، وينشد الأشعار، ففعل، فتنازع القوم وتفاخروا وقالوا: السلاح السلاح، الموعد الحرة، فخرجوا إليها، فبلغ ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فخرج إليهم وقال: يا معشر المسلمين: الله الله، أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم الله للإسلام وأكرمكم به!!". فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان، وكيد من عدوهم، فألقوا السلاح وأقبلوا على بعضهم يتعانقون.
هذه النميمة وهؤلاء هم أهلها، فهل يليق بالمسلم أن يتخلق بهذه الصفة الباعثة للفتن، الهادمة للأسر، القاطعة للأرحام، مع علمه بعداوة الشيطان، وشدة مكره، وسعيه مع أعوانه في إثارة النعرات القبلية، والمناطقية، والمذهبية ونحوها، حتى تحصل الحزازات، وتثار العداوات، ويُنبشُ في الماضي ليكون التعالي بالأنساب والأحساب، والتميز بالأسماء والألقاب.
وللأسف أصبحت الآن قنوات ومنتديات، تدس السم في الدسم، وتعمل عمل إبليس في التفريق والاختلاف.
النميمة جريمة تعددت آثارها، وعظمت أخطارها، فهي حاملة على سفك الدماء، وهتك الأعراض، وإثارة البغضاء، وإزالة المحبة والصفاء، صاحبها متوعد بعذاب القبر؛ مرّ النبي -صلى الله عليه وسلم- بقبرين فقال: "إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة".
وهو من شرار الناس يوم القيامة منزلةً، بل يلقى الملامة والمذمة، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "تجدُ من شرار الناس عند الله يوم القيامة ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه، وهؤلاء بوجه". فالنمام يتلون حسب المصلحة، ويتغير وفق المنفعة، فأي قبح وأي لؤم عند من هذا حاله!! ولهذا كان جزاؤه يوم القيامة من جنس عمله، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من كان ذا وجهين في الدنيا كان له لسانان يوم القيامة من نار". رواه البخاري في الأدب وصححه الألباني.
والجنة على النمام حرام؛ لعظم جرمه، وسوء فعله، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا يدخل الجنة نمام". قال العلماء: "الغالب أن النمّام لا يوفّق لحسن الخاتمة".
ذكر أحد الدعاة الفضلاء أن فتاة جامعية مشهورة بين صديقاتها بسوء خلقها، وقلة أدبها، لها كثير من الأصدقاء، تقضي أكثر وقتها معهم في المغازلة، والإعجاب، والذهاب والإياب، وكانت تسْتلذُّ بصنع المقالب لصديقاتها اللاتي ينكرن عليها فعلها، وتسعى للإضرار بهن، بالنميمة جعلت شابًا يفسخ عقد زواجه مع صديقتها بعد خطبتها، وبالنميمة تسببت في طرد صديقتها من الامتحان، انتقامًا منها لأنها كانت تنصحها بالحجاب، كم أفسدت، وبالفتنة سعت!! وإن ربك بالمرصاد، خرجت هذه الفتاة ليلة من بيت أهلها، فاصطدمت بها سيارة مسرعة، ونقلت للمستشفى، وبقيت في العناية أسبوعًا كاملاً، ثم ماتت؛ تقول المغسّلة التي تولّت غسل هذه الفتاة، كان وجهها أسود مخيفًا، لكن الفاجعة الكبرى، والطامة العظمى، أن الغائط يخرج من فمها، وكلما نظفت الفم، عاد الفم ليمتلئ بتلك القاذورات السوداء؛ تقول: والله لقد ربطت رأسها واستكملت غسل جسدها، ولا تزال تخرج من فمها تلك الروائح الخبيثة.
فاحذروا النميمة -يا عباد الله-؛ فإنها لا تقرّب مودة إلا أفسدتها، ولا عدواه إلا جدّدتها، ولا جماعة إلا فرّقتها.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم...
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه...
دين الإسلام دعا لكل ما يجمع ويؤلف، ويقرب ويحبب، رغّب في إصلاح ذات البين، وندب إلى السعي بين الناس لجمع كلمتهم، ووحدة صفهم، وحذّر مما يوقعه الشيطان بين المسلمين من النميمة لخطرها، في تصدع العلاقات الحسنة، وهدم بناء الأمة. فكم جرّت النميمة من ويلات، وأفسدت من صلات، وكشفت من عورات!! كم بذرت من بذور للشحناء، وكم أرست من قواعد العداوات والبغضاء!! كم خربت من بيوت عامرة، وفرقت بين أسر مجتمعة، وأزهقت من أرواح بريئة!!
ومن يُطِع الواشين لم يتركوا له *** صديقًا وإن كان الحبيبَ المقربَ
عباد الله: لنَسُدّ أبواب التحريش بإشاعة القول الحسن، ونشره بين المسلمين، وعدم الاستجابة لنزغات الشيطين، قال تعالى: (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوّاً مُبِيناً)، لابد لنا من إهانة النمامين، وعدم تصديقهم، وفضحهم، وتقبيح فعلهم، وعدم سماع وشايتهم، لأن الله تعالى نهانا عن طاعتهم؛ قال تعالى: (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ)، وعلى المسلم التثبت من الأخبار، وعدم التسرع في الحكم على إخوانه إذا سمع ما يكرهه منهم، فالمؤمن وقّاف حتى يتبين؛ قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ)، فأمرك بالتثبت والتبيُّن، قال أم لم يقل؟! وإن قال فما قصده؟! فقد يكون قصده حسنًا، قد يكون أخطأ فيعتذر وينتهي الأمر، وتسلم القلوب، يقول الحسن بن علي -رضي الله عنهما-: "لو أن رجلاً شتمني في أذني هذه واعتذر في أذني الأخرى لقبلت اعتذاره".
قيل لي قد أسـا إليك فلانُ *** وقعودُ الفتى على الضيم عارُ
قلت قد جاءنا وأحدث عذرًا *** ديةُ الذَنْبِ عندنا الاعتذارُ
عمر بن عبد العزيز جاءه رجل فذكر له عن رجل شيئًا، فقال له عمر: "إن شئت نظرنا في أمرك، فإن كنت كاذبًا فأنت من أهل هذه الآية: (إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا)، وإن كنت صادقًا فأنت من أهل هذه الآية: (هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ)، وإن شئت عفونا عنك". فقال: العفو يا أمير المؤمنين، لا أعود إليها أبدًا.
الصاحب بن عباد كان وزيرًا وجاءه رجل يُغريه بأخذ مال يتيم مات أبوه، فقال له: "أما الميت فرحمه الله، وأما اليتيم فجبره الله، وأما الساعي بالكلام فلعنه الله".
وهب بن منبه جاءه رجل فقال: فلان يقول فيك كذا وكذا، فقال: "يا ابن أخي: أما وجد الشيطان غيرك أحدًا فيرسله!!".
فالنميمة قبيحة وإن كانت صحيحة، البعض يقول: أنا ما كذبت، نعم هو ليس بكذاب ولكنه نمام، وقديمًا قيل: "من نمّ لك نمّ عليك".
النمام إنما يخبرك عن السوء الذي فيك، فكيف تُكرم من ينقلُ لك عيوبك؟! ويوقع في قلبك بغض إخوانك المسلمين وعداوتهم؟!
يا من إليّ قد وشى *** بنقلِ سـوء ولغا
مـذمـتي سمعتها *** من الذي قد بلغا
عباد الله: المسلم يُصلح ولا يفسد، يقرّب ولا يبعد، يجمع بين القلوب إذا تنافرت، ويطفئ الفتن إذا استعرت، يمسك لسانه فلا يقول إلا خيرًا، ويَضن بحسناته فلا يُضيّع منها شيئًا، يحرص على إخوانه فلا يحمل في صدره عليهم حقدًا، ولا يُصدِّقُ ما يقول الوشاة عنهم فيمتلئ قلبه عليهم بغضًا، قدوته في ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- القائل: "لا يُبْلغْني أحدٌ عن أحدٍ من أصحابي شيئًا، فإني أحب أن أخرج إليهم وأنا سليم الصدر".
هذا؛ وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على نبي الرحمة والهدى...
التعليقات