عناصر الخطبة
1/ فضل التأذين 2/ مكانة المؤذن 3/ بعض أحكام الأذاناهداف الخطبة
اقتباس
ولا يلتزم التأذين، ويحافظ عليه، ويخلص لله تعالى فيه، إلا من وفَّقه الله تعالى لأشرف الوظائف، وأعلى المنازل؛ إذ إن هذه العبادة العظيمة سبب لعبادات أخرى تدانيها في الفضل والأجر؛ فمن تولى ولاية الأذان، وحافظ عليها، كان حرياً أن يكون قلبه معلقاً بالمساجد؛ لأنه يتحرى أوقات الأذان كما يتحرى الناس أوقات الدوام؛ وثواب تعلق القلب بالمساجد الاستظلال بظل الرحمن، يوم لا ظل إلا ظله ..
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإن توحيد الله تعالى وعبادته هي الغاية التي من أجلها خلق الخلق، وأرسل الرسل، وأنزلت الكتب، وأقيمت الحجة، وبسبب الالتزام بذلك أو عدمه انقسمت الخليقة إلى فريقين: فريقٍ في الجنة، وفريقٍ في السعير.
والعبد المؤمن الصادق في إيمانه، المخلص في عبادته، يلازم التوحيد حتى الممات؛ إذ كل عبادة يؤديها فهي توحيد، ما دامت لله عز وجل.
وفي كل يوم وليلة يسمع المسلم نداء التوحيد المتمثل في الإعلام بدخول وقت الصلاة؛ هذا الأذان الذي فيه من تكبير الله تعالى وتعظيمه وتهليله ما جعله من أجَلِّ العبادات وأفضلها؛ قال القرطبي -رحمه الله تعالى-: "واعلم أن الأذان على قلة ألفاظه مشتمل على مسائل العقيدة؛ وذلك أنه عليه الصلاة والسلام بدأ بالأكبرية، وهي تتضمن وجود الله تعالى ووجوبه وكماله، ثم ثنَّى بالتوحيد، ثم ثلَّث برسالة رسوله، ثم ناداهم لما أراد من طاعته، ثم ضمن ذلك بالفلاح، وهو البقاء الدائم، فأشعر بأن ثم جزاء، ثم أعاد ما أعاد توكيداً" اهـ.
ولذا عظم ثواب المؤذنين عند الله تعالى، وجاءت الأحاديث والآثار الكثيرة في فضل وظيفتهم، وأنها من أعظم الوظائف، (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [فصلت:33]. قالت عائشة -رضي الله عنها-: "هو المؤذن إذا قال: حيَّ على الصلاة، فقد دعا إلى الله"؛ وقال ابن عمر وعكرمة: "إنها نزلت في المؤذنين".
وفي صحيح مسلم من حديث معاوية -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "المؤذنون أطول الناس أعناقاً يوم القيامة"، قال النضر بن شميل: "إذا ألجم الناسَ العرقُ طالت أعناقهم لئلا يغشاهم ذلك الكرب، وقيل: هم رؤساء الناس في الموقف؛ لأن العرب تصف السادة بطول الأعناق".
ويأتي المؤذن يوم القيامة ومعه شهاداتٌ من كل مَن سمع أذانه، قال أبو سعيد الخدري لعبد الرحمن بن أبي صعصعة: "إني أراك تحب الغنم والبادية، فإذا كنت في غنمك أو باديتك، فأذَّنْتَ للصلاة فارفع صوتك بالنداء، فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة". قال أبو سعيد: سمعته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" أخرجه البخاري، وفي رواية لابن خزيمة: "لا يسمع صوته شجر ولا مَدَرَ ولا حجر، ولا جن ولا إنس، إلا شهد له".
وهو مع هذا الفضل العظيم، وهذه الشهادات المتعددة، يُغفر له مع كل أذان يؤذنه، كما خرج الإمام أحمد بإسناد صحيح من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يَغفر للمؤذن أذانه، ويستغفر له كل رطب ويابس"، وفي حديث آخر قال -عليه الصلاة والسلام-: "المؤذن يغفر له مدى صوته، ويصدِّقه كل رطب ويابس".
قال الخطابي -رحمه لله تعالى-: "مدى الشيء: غايته، والمعنى أنه يستكمل مغفرة الله إذا استوفى وسعه في رفع الصوت، فيبلغ الغاية من المغفرة إذا بلغ الغاية من الصوت". وقال: "وفيه وجه آخر: وهو أنه كلام تمثيل وتشبيه، يريد أن الكلام الذي ينتهي إليه الصوت لو يُقدر أن يكون ما بين أقصاه وبين مقامه هو فيه ذنوبٌ تملأ تلك المسافة غفرها الله" اهـ.
ولشرف وظيفة التأذين كان القائمون بها، المحافظون عليها، المحتسبون لأجلها، خيار الناس وأفاضلهم، كما قال -عليه الصلاة والسلام-: "إن خيار عباد الله الذين يُرَاعُون الشمس والقمر والنجوم لذكر الله تعالى" أخرجه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي.
لأجل ما تقدم، ولأجل غيره مما لم يذكر؛ كان حق الأذان أن يتزاحم الناس على وظيفته، ويتنافسوا على منزلته، ويتسابقوا لتأديته؛ رجاء ثوابه وفضله. ولكن حال دون ذلك جهل الناس بفضله، أو اشتغالهم عنه بما هو دونه.
ولا يلتزم التأذين، ويحافظ عليه، ويخلص لله تعالى فيه، إلا من وفقه الله تعالى لأشرف الوظائف، وأعلى المنازل؛ إذ إن هذه العبادة العظيمة سبب لعبادات أخرى تدانيها في الفضل والأجر؛ فمن تولى ولاية الأذان وحافظ عليها كان حرياً أن يكون قلبه معلقاً بالمساجد؛ لأنه يتحرى أوقات الأذان كما يتحرى الناس أوقات الدوام؛ وثواب تعلق القلب بالمساجد الاستظلال بظل الرحمن، يوم لا ظل إلا ظله.
والمؤذن أول المصلين قدوماً إلى المسجد، والتبكير إلى الصلوات فيه من الأجر ما لا يخفى، ويتأتى للمؤذن إحسان الوضوء، والمحافظة على أذكاره، وأذكار الخروج من المنزل، وأذكار دخول المسجد، وأذكار الأذان، والمشي إلى المسجد بسكينة، ما قد لا يتأتى لغيره، وكل هذه عبادات وقربات لها أجرها وثوابها.
وإذا انتهى من الأذان، وقال ما بعده من أذكار، وصلى ما كتب له، ودعا، وقرأ ما تيسر من القرآن، وتلك عبادات أخرى؛ فإذا حضرت الإقامة، وأقام الصلاة، كان ما قام به من عبادات سابقة مهيئاً لأداء الفريضة على أكمل وجه، ومعيناً له على الخشوع والتدبر؛ لأن ما تقدم من عبادات سببٌ لطرد الشيطان ووساوسه.
علاوة على أن الأذان والإقامة من أعظم أسباب الخشوع وطرد الوساوس والخطرات، وفي هذا يقول ابن الجوزي -رحمه الله تعالى-: "على الأذان هيبةٌ يشتدُّ انزعاج الشيطان بسببها؛ لأنه لا يكاد يقع في الأذان رياءٌ ولا غفلةٌ عند النطق به، بخلاف الصلاة، فإن النفس تحضر فيها فيفتح لها الشيطان أبواب الوسوسة"، وترجم على هذا المعنى أبو عوانة فقال: "الدليل على أن المؤذن في أذانه وإقامته إلى أن يفرغ منفيٌّ عنه الوسوسة والرياء لتباعد الشيطان منه".
وقد صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إذا نودي للصلاة أدبر الشيطان وله ضراطٌ حتى لا يسمع التأذين" متفق عليه؛ ولأجل هذا نهي المسلم عن الخروج من المسجد بعد الأذان. قال ابن بطال: "وهو يشبه أن يكون الزجر عن خروج المرء من المسجد بعد أن يؤذن المؤذن من هذا المعنى؛ لئلا يكون متشبهاً بالشيطان الذي يفر عند سماع الأذان".
إن ما سبق يدل على عظيم أجر هذه الشعيرة العظيمة التي جهل فضلها وثوابها كثير من الناس، وفي هذا يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا" متفق عليه. وصح عن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: "لو أطيق الأذان مع الخلافة لأذنت"، وجاء عن سعد ابن أبي وقاص -رضي الله عنه- أنه قال: "سهام المؤذنيين عند الله تعالى يوم القيامة كسهام المجاهدين، وهو بين الأذان والإقامة كالمتشحط في سبيل الله تعالى في دمه"؛ وقال ابن مسعود رضي الله عنه: "لو كنت مؤذناً ما باليت أن لا أحج ولا أعتمر ولا أجاهد".
أيها الإخوة: بان بهذه النصوص والآثار عظيم منزلة هذه الشعيرة العظيمة التي يوفِّق الله تعالى لها من شاء من عباده، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمداً طيباً كثيراً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده و رسوله، صلَّى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن فضل الأذان، وفضل الأذكار عقبه، لم يكن مقصوراً على المؤذن وحده؛ بل لمن سمع المؤذن أن يقول مثل ما يقول، فمن فعل ذلك بإخلاص دخل الجنة كما صح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
ومتابعة المؤذن في وقت الأذان أولى من قراءة القرآن، ومن الدعاء، وسائر الذكر؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: "إذا كان خارج الصلاة في قراءة أو ذكر أو دعاء فإنه يقطع ذلك ويقول مثل ما يقول المؤذن؛ لأن موافقة المؤذن عبادة مؤقتة يفوت وقتها، وهذه الأذكار لا تفوت" اهـ.
والسنة أن يتابع المؤذن في كل ما يقول إلا في الحيعلتين فيقول: لا حول ولا قوة إلا بالله. قال الطيبي: "معنى الحيعلتين: هلمَّ بوجهك وسريرتك إلى الهدى عاجلاً، والفوز بالنعيم آجلاً، فيناسب أن يقول: هذا أمرٌ عظيم لا أستطيع مع ضعفي القيام به، إلا إذا وفقني الله بحوله وقوته".
وإذا قال المؤذن في أذان الفجر: (الصلاة خير من النوم)، قال مثل ما يقول، لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا سمعتهم المؤذن فقولوا مثل ما يقول".
وإذا ذكر المؤذن الشهادتين، قال: وأنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد -صلى الله عليه وسلم- رسولاً"، أو يقول ذلك عقب انتهاء المؤذن، فمن قال ذلك غفر له ما تقدم من ذنبه، كما صح ذلك عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
وبعد الفراغ من إجابة المؤذن يصلي على النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأفضل الصلاة عليه الصلاة الإبراهيمية؛ ثم يقول عقب ذلك: "اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته"
وفي رواية صححها بعض المحققين: "إنك لا تخلف الميعاد"، فمن قال هذا الدعاء حلت له شفاعة النبي -صلى الله عليه وسلم- كما صح ذلك عنه، ثم يدعو بعد ذلك بما شاء؛ لأن ذلك من مواطن إجابة الدعاء، فقد روى عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رجلاً قال: يا رسول الله، إن المؤذنين يفضلوننا! فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "قل كما يقولون، فإذا انتهيت فَسَلْ تُعْطَهْ" أخرجه أبو داود والنسائي بإسناد حسن.
فاتقوا الله أيها المؤمنون، وتفقهوا في دينكم، وعظموا شعائر الله؛ فإن تعظيمها من تقوى القلوب، وسابقوا إلى الخيرات، وتنافسوا فيما يقرب إلى الله تعالى؛ فإنه لا فوز إلا فوز الآخرة، ولا عيش إلا عيشها.
وصلوا وسلموا على محمد بن عبد الله كما أمركم بذلك ربكم.
التعليقات