عناصر الخطبة
1/ دعوةُ مقاصد الدين للحفاظ على الضرورات الخمس 2/ حديثٌ مبيّنٌ لحيازة الدنيا بالأمن والصحة والقوت 3/ محافظة الشريعة على الأمن 4/ حماية الأمن مسؤولية عامة 5/ شمولية مفهوم الأمن وتعدد مجالاته 6/ زعزعة الأعداء لأمن المسلمين باسم مكافحة الإرهاب 7/ بيان بقية عناصر حيازة الدنيااهداف الخطبة
اقتباس
وهذا الدين الأقوم، في الوقت الذي يدعو فيه إلى اتخاذ كافة التدابير لسلامة الناس، فإنه يكتفي بما يقيم الحياة على أسس متينة، دون الانحدار والترف أو الوقوع في الإسراف؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: "من أصبح منكم آمناً في سربه، معافىً في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها"، كلمات يسيرات؛ لكنها ترسم معنى الحياة الحقة والاستقرار، والراحة النفسية وهدوء البال.
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: أيها المسلمون، فإن حقيقة الإنسان المسلم ومكانته وقيمتَه واستقرارهَ وسلامته من المكدرات المزمنة وشوائب القلق لن يأتي عن طريق لذة عارضة، أو صبوة طائشة، أو انفلاتٍ من ثوابت الشرع وأحكامه التي يظنها بعض الأغرار -وإن شئت فقل الأشقياء- قيوداً أو تحجيراً وكبتاً للحريات، وإنما يتحقق ذلك للأفراد والمجتمعات والدول على حد سواء بالدخول في الإسلام كافة عقيدة وشريعة وأخلاقاً؛ ليظفروا بالمعاني السابقة، ويفوزوا برؤية ربهم ودخول جنته.
والشريعة مبناها وأساسها على الحِكَم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي كلها عدل ورحمة ومصالح وحكمة.
ومقاصد هذا الدين تدعو دائما للحفاظ على الضرورات الخمس: الدين أولاً؛ لأنه المشكاة التي تضيء للحياة، ويرسم الطريق الأقوم للناس فيدعو لحفظ النفس، وحفظ المال، وحفظ العقل، وحفظ العرض.
وهذا الدين الأقوم، في الوقت الذي يدعو فيه إلى اتخاذ كافة التدابير لسلامة الناس، فإنه يكتفي بما يقيم الحياة على أسس متينة، دون الانحدار والترف أو الوقوع في الإسراف؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: "مَن أصبح منكم آمناً في سربه، معافىً في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها"، كلمات يسيرات؛ لكنها ترسم معنى الحياة الحقة والاستقرار، والراحة النفسية وهدوء البال.
معشر المسلمين: إن حياة الإنسان على هذه الأرض بقضها وقضيضها، وحلوها ومرها، وسهلها وصعبها، لا يتجاوز تلكم المعايير الثلاثة، كما أن أي حياة هانئة لا بد لها من توفر تلك الأشياء الثلاثة: الأمن في السرب، أي: في البيت والمجتمع، والمعافاة في البدن، وتوفر قوت اليوم.
وما سوى ذلك، أو ما زاد عنه، فإنما يُسعى إليه لخدمة تلك الضرورات الثلاث، فإذا تجاوزتْ ذلك بأن تبدلت إلى نهم وشراهة انقلبت الحياة إلى نكد، وإنما تستقر حياة المسلم وتهدأ بقدر انضباطه بالمنهج الذي رسمه الحديث، وما فشو أمراض العصر المزمنة، والأمراض النفسية -رغم توفر المادة وتقدم الطب- إلا نتيجة لتخبط الكثيرين في تناولهم للحياة ومقوماتها، وقفزهم فوق المنهج الذي خطه الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الحديث السابق.
أيها المسلمون: أمن المرء مطلب الفرد والمجتمعات على حد سواء، واطرادُ الحياة الآمنة هدفٌ يسعى إليه الجميع، وإلا؛ فما قيمة لقمة يأكلها المرء وهو خائف، أو شربة يشربها الظمآن وهو متوجس قلق، أو نعسة نومٍ يتخللها يقظات وسنان هلِع؟ وما قيمة علم وتعليم وسط أجواء محفوفة بالمخاطر؟.
إن كل مجتمع يفقد الجانب الأمني إنما هو في الحقيقة فاقد لمعنى الحياة لا محالة؛ لأنه سيتمزق بين أشتات المطامع والأهواء.
ومن أجل الأمن -عباد الله- جاءت الشريعة الغراء بالعقوبات الصارمة والحدود الرادعة تجاه كل مُخلٍ بالأمن، كائناً من كان، بل سدَّت أبواب التهاون في تطبيقها، أيّ تهاون، سواء كان في تنشيط الوسطاء في إلغائها، أو في الاستحياء من الوقوع في وصمة نقد المجتمعات التي تدعي الحضارة، ومعرة وصفهم للغير بالتخلف.
وما حالات الجنوح، ومظاهر وظواهر العنف لدى بعض الشباب، إلا نتيجة ردود أفعال، وعجزٍ عن فهم تكاليف الشرع، تدفع بصاحبها إلى التهور، أياً كانت دوافعه ومحامله.
وفي ندوة إعلامية عقدت هذا العام عن ظاهرة التفحيط، ذُكرت أرقامٌ تبعث على القلق؛ ففي عامٍ واحد ذُكر أنه نتيجة التفحيط -فقط- رصدت المصادرُ ثمانية آلاف حالة إعاقة مؤقتة، وألفاً ومائتي إعاقة دائمة، ومثلها حالة وفاة، هذا إضافة إلى الخسائر المادية من سيارات مدمرة، وأدوية، وعلاجات، وغيرها.
وحين يدبُّ في الأمة داء التسلل الأمني فإن المتسببين في ذلك من المجرمين أو من اللا مبالين أو ممن بيدهم سلطة، إنهم يقطعون شرايين الحياة الآمنة على الأجيال الحاضرة، والآمال المرتقبة.
وحماية الأمن -بكل أنواعه- هي مهمة كل فرد، كلٌّ حسب استطاعته، فلا يُقصر المفهوم الأمني على فردٍ أو أفرادٍ معينين، وعلى معنى واحد من معانيه، كأن يُقتصر -مثلاً- على ناحية حماية المجتمع من الجرائم لا غير، أو أن يُقصر معنى حماية الأمن على جانب الشُّرَط والدوريات الأمنية دون سواها.
بل إن شمولية مفهوم الأمن تبدأ من وجوب حفظ المجتمع في عقيدته وشريعته، والبعد به عن الشرك وسبله والذي هو الظلم بعينه، قال الله -تعالى-: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ) [الأنعام:82]، فشرْطُ الأمن عدم الظلم في الإيمان، أي: عدم الشرك.
مجالات الأمن التي يجب حفظها وحراستها إذاً -عباد الله- كثيرة: فحماية الناس في عقيدتهم وشريعتهم أمنٌ ضروري، والأمن الغذائي والأمن الصحي والأمن الوقائي والأمن الاقتصادي والأمن الفكري والأمن الإعلامي والأمن الأدبي، كلها منظومة واحدة لا يقل واجب المحافظة على واحد منها عن المحافظة على الأرواح والأموال.
وعلى الأمة حراسة كل أمنها، وأن لا تسمح لأحد أن يقترف خيانة أمنية في أي لون من ألوانه.
إن إصباح المرء آمناً في سربه لهو من أوائل بشائر يومه وغده، وما صحة البدن وقوت اليوم إلا مرحلة تالية لأمنه في نفسه ومجتمعه، إذ كيف يصح بدن الخائف؟! وكيف يكتسب من لا يأمن على نفسه وبيته؟!.
لأجل هذا -معشر المسلمين- كان لزاماً علينا أن نقدر حقيقة الأمن، وأن نستحضرها نصب أعيننا دائماً، حتى لا نكون من كثرة الإحساس لها فاقدي الإحساس بها، ولا سيما حينما نشخص بأبصارنا يمنة ويسرة لنرى بعض الأقطار والبلدان الملتهبة بالصراع، يطحن بعضها بعضاً من داخلها أو من غزو واجتياحٍ من خارجها.
المسلمون في مسرى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وثالث المسجدين مصابون بالذعر عند كل زفرة نفَس من أنفاسهم، إنهم يرجون الأمن والأمان، وينشدون العدالة والإنصاف، ينادون المتخصصين فيما زعموه بمكافحة الإرهاب، يطالبون بالعدل من حيث لا يوجد إلا الجور، ويحلمون بالسلم من عدوٍ لا يعرف إلا لغة الحرب، لقد ناشدوا وناشدوا، فكان الجواب عليهم بعد سنين من المعاناة والأنين، كان الجواب: تغدينا بكم وسنتعشى بإخوانكم!.
وقل مثل ذلك في عدد من المواقع الإسلامية للأسف! فأين المتحدثون عن الإرهاب وخطورة الإرهاب واجتثاث الإرهاب؟ أين المتعاطفون على الأبرياء؟ أين دعاة حقوق الإنسان؟ أين وأين؟ أوليس قتل المسلمين إرهاباً؟ أو ليسَ ترويعهم إرهاباً؟ واجتياح أراضيهم وهدمُ منازلهم، وجرفُ مزارعهم، وتدمير مشاريعهم وبُناهم التحتية، أليس هذا إرهاباً؟.
وليلة البارحة يعلن رئيس وزراء بريطانيا أمام الكونجرس الأمريكي أن حرب أفغانستان والعراق ما هي إلا مرحلة من مراحل الحرب على الإرهاب، وتتلوها مراحل. ونحن نتساءل: أي أمنٍ وطمأنينة وقوت يومٍ جلبوه لأفغانستان والعراق؟! إن الكافرين هم الظالمون! (وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ) [آل عمران:119].
ولكن؛ صدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين يقول: "ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن"، قالوا: وما الوهن؟ قال: "حب الدنيا، وكراهية الموت".
أيها المسلمون: لقد أتبع النبي -صلى الله عليه وسلم- أمن المرء في سربه بكونه معافى في جسده، وجعل المعافاة في الجسد ثلث حيازة الدنيا بحذافيرها، وهذا أمرٌ واضح جلي؛ لأن الصحة تاج فوق رؤوس الأصحاء لا يراه ويعرف قيمته إلا المرضى.
والصحة والعافية محلٌّ لأِن يُغبن فيها المرء، قال -صلى الله عليه وسلم-: "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة، والفراغ".
والسلامةُ من العلل والأسقام عونٌ على الطاعة والقيام بالتكاليف الشرعية على أتم وجه، ولكن؛ أين مغتنمو الفرص؟.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، وبهدي وسنة سيد المرسلين، واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه؛ إن ربي رحيم ودود.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الحفيظ العليم، مَنْ لاذ به أَمِنْ، ومن اتقاه وقاه، ومن أعرض عنه فإن له معيشة ضنكاً. وأشهد أن لا إله إلا الله الرحيم الودود، بيده ملكوت كل شيء، وهو على كل شيء قدير.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أعظم من عرف ربه وقدره حق قدره فأمِنَ حين خاف الناس، صاحب الحوض المورود، والمقام المحمود، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: أيها المسلمون، المال في الإسلام وسيلةٌ لا غاية، وطلبه من طريق حِلِّه أمر مشروع لكل مكتسب، والنبي -صلى الله عليه وسلم- حينما قال: "من أصبح آمنا في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه"، أراد بقوت الحال الوسط بين الضدين، لا حال الأثرياء المترفين الذين ضعف عند بعضهم الخلق والدين، ولا حال المفلسين القعدة الذين استمرؤوا الكسل والبطالة.
إن الذين يكسلون ولا يربحون، ثم يتسولون، أو يحتالون باسم التكسب أو العيش، أو يظلون ينتظرون الزكوات والصدقات ولا يعملون، كل أولئك ليسوا على سواء، قال النبي: "تعوذوا بالله من الفقر، والقلة، والذلة"، وقال: "اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر".
كما أن الذين يحبون المال حباً يعميهم عن دينهم وأخلاقهم وخلواتهم القلبية وجلواتهم الروحية، ناهيك عمن يقوده حب المال إلى منع مستحقيه من حقهم من الزكاة، أولئك أيضاً هم الآخرون ليسوا على سواء الطريق، قال الله -تبارك وتعالى- في حق هؤلاء: (كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى* أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى) [العلق:6-7]. إذاً؛ فكلا طرفي قصد الأمور ذميم.
ولهذا؛ فإن مَنْ ملك قوت يومه، فإنه يكون في منأى عن بطر الغنى وهوان الفقر، فيكون كافّاً عافّاً، ومن هنا جاءت حيازة الدنيا.
فالفقر دونٌ، والغنى يُحمد في الخير ويذم في الشر، وأبلغ الكلام في هذا كلام الجليل -سبحانه-: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى) [الليل:5-10]، وصدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "نعم المال الصالح للرجل الصالح!".
أقول مثل هذا -عباد الله - لأجل أن أذكِّر كل ذي نعمة بنعمته، ولنعلم جميعاً أن هناك من المسلمين عن اليمين وعن الشمال عزين من يصبح لا يدري مصير أمته، ولا قوتَ يومه، ولا معافاة بدنه، يعيشون أجواء مقلقة، وحياةً متقلبة، سقوف بيوتهم واكفة، وجدرانُها نازَّة، وجبالهم تسيل حمماً وشظايا، حتى غدت أو ديتهم بمآسيهم أباطح، فلم تعد الدور دوراً ولا المنازل منازل، والله حكيم عليم، وهو أرحم الراحمين.
(إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) [ق:37].
وصلوا...
التعليقات