عناصر الخطبة
1/ضرب القرآن للأمثال 2/شجرة شبه النبي المسلم بها 3/أوجه الشبه بين النخلة والمسلماقتباس
النَّخْلَةُ لا يَتَعَطَّلُ نَفْعُها أبدًا، بل إِنْ تَعَطَّلَتْ منها مَنْفَعَةٌ ففيها مَنَافِعُ أُخَرَ في سَعْفِها وخُوصِها، ولِيفِها وكَرَبِها، وهكذا المُسْلِمُ لا يَخْلُو عن شيءٍ من خِصَالِ الخَيرِ قَطُّ، بل إنْ أَجْدَبَ منه جانِبٌ من الخير، أخْصَبَ منه جانِبٌ، فلا يزال خَيْرُه مَأْمُولًا، وشَرُّه مَأْمُونًا...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على رسوله الكريم، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمَّا بعد: قال الله -تعالى-: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ)[إبراهيم: 24-25]، شَبَّهَ اللهُ -تعالى- كَلِمَةَ الإيمانِ الثابتةَ في قلبِ المُسلِمِ بالشَّجرةِ الطَّيِّبةِ الثَّابِتَةِ الأصلِ، الباسِقَةِ الفَرْعِ في السَّماءِ عُلُوًّا، التي لا تَزالُ تُؤتِي ثمراتِها كُلَّ حينٍ.
وأخبرَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أنَّ الشَّجرةَ الطَّيبةَ هي النَّخْلَةُ، عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- قَالَ: قال رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةً لاَ يَسْقُطُ وَرَقُهَا، وَإِنَّهَا مَثَلُ الْمُسْلِمِ، فَحَدِّثُونِي مَا هِيَ؟"، فَوَقَعَ النَّاسُ فِي شَجَرِ الْبَوَادِي، أي: ذَهَبَتْ أفكارُهم في أَشْجَارِ الباديةِ، فجَعَلَ كُلٌّ منهم يُفَسِّرُها بِنَوعٍ مِنَ الأنواعِ، وذَهَلوا عن النَّخْلَة، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: وَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهَا النَّخْلَةُ، فَاسْتَحْيَيْتُ، ثُمَّ قَالُوا: حَدِّثْنَا مَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: "هِيَ النَّخْلَةُ"، قَالَ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعُمَرَ، قَالَ: "لأَنْ تَكُونَ قُلْتَ: هِيَ النَّخْلَةُ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كَذَا وَكَذَا"(رواه مسلم).
عباد الله: ومِنْ أَهَمِّ أَوْجُهِ الشَّبَهِ بَينَ المُسْلِمِ والنَّخْلَةِ:
أنَّ النَّخْلَةَ لها عُروقٌ، وساقٌ، وفُروعٌ، وورقٌ، وثمرٌ؛ كذلك المُسْلِمُ له أصلٌ، وفرعٌ، وثمرٌ، فالأصل: هو أصولُ الإيمانِ السِّتة، والفرع: الأعمالُ الصالحة والطاعاتُ المتنوعة، والثَّمَرُ: كلُّ خيرٍ يُحَصِّله المُسلمُ، وكلُّ سعادةٍ يجنيها في الدنيا والآخرة.
ومنها: النَّخْلَةُ لا تَحْيَا ولا تَنْمُو إلاَّ إذا سُقِيَتْ بالماء، فإذا حُبِسَ عنها الماءُ ذَبَلَتْ، وإذا قُطِعَ عنها تمامًا ماتَتْ، والمُسْلِمُ أيضًا لا يَحْيَا الحياةَ الحقيقة، إلاَّ بِسَقْيِ قلبِه بِالوحي من كتابِ اللهِ، وسُنَّةِ رسولِه -صلى الله عليه وسلم-.
ومِنْ أَهَمِّ أَوْجُهِ الشَّبَهِ: أنّ النَّخْلَةُ شديدةُ الثُّبوتِ، كما قال -تعالى-: (أَصْلُهَا ثَابِتٌ)، والمُسْلِمُ -إذا رَسَخَ الإيمانُ في قلبِه- يكون ثباتُه كثباتِ الجبالِ الرَّواسِي.
ومنها: النَّخْلَةُ لا تَثْبُتُ إلاَّ في أرضٍ طيِّبةِ التُّربةِ، ففي بعض الأماكن لا تَثْبُتُ مُطْلَقًا، وفي بعضِها لا تُثْمِرُ، وقد تُثمِرُ ويكون الثَّمَرُ ضعيفًا، فليست كلُّ أرضٍ تُناسِبُ النَّخْلَةَ، كذلك الإِيمانُ، لا يَثْبُتُ في كلِّ قلبٍ، وإنما يَثْبُتُ في قلبِ مَنْ كَتَبَ اللهُ له الهدايةَ، وشَرَحَ صدرَه للإيمان.
ومن ذلك: النَّخْلَةُ قد يُخالِطُها دَغَلٌ ونَبْتٌ غريبٌ ليس من جِنْسِها، وهذا قد يُؤْذِيها ويُضْعِفُ نُمُوَّها، ويُزاحِمُها في سَقْيِها؛ ولذا تحتاجُ إلى رعايةٍ خاصَّةٍ، وتَعاهُدٍ من صاحبِها، وكذلك المُسْلِمُ تُصادِفُه في الحياةِ أمورٌ تُوهِي إيمانَه، وتُضْعِفُ يَقِينَه، وتُزاحِمُ أصلَ الإيمانِ الذي في قلبِه، ولذا يحتاجُ أنْ يُحاسِبَ نفسَه كلَّ وقتٍ وحينٍ، ويُجاهِدَها، ويُبعِدَ عنها كلَّ أمرٍ يُؤثِّرُ في الإيمان، كَوَساوِسِ الشَّيطانِ، أو النَّفْسِ الأمَّارةِ بالسُّوء، أو الدُّنيا بِفِتَنِها ومُغْرَياتِها.
ومِنْ أَهَمِّ أَوْجُهِ الشَّبَهِ بَينَ المُسْلِمِ والنَّخْلَةِ: النَّخْلَةُ (تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ)، والأُكُل: هو الثَّمَرُ، فتؤتي ثَمَرَها كُلَّ حينٍ، ليلًا ونهارًا، صَيفًا وشِتاءً، إمَّا تَمْرًا، أو بُسْرًا، أو رُطَبًا، والمُسْلِمُ يَصْعَدُ كَلِمُه الطَّيِّبُ، وعَمَلَه الصالحُ إلى ربِّه كلَّ حِينٍ، وكلَّ ساعةٍ من اللَّيلِ والنَّهار، في الصَّيفِ والشِّتاء.
ومن ذلك: النَّخْلَةُ مُباركَةٌ في كلِّ جُزءٍ من أجزائها، فليس فيها جُزءٌ لا يُستفاد منه، والمُسْلِمُ أيضًا مُباركٌ أينما كان؛ ولذا قال رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ لَمَا بَرَكَتُهُ كَبَرَكَةِ الْمُسْلِمِ"(رواه البخاري)، والنَّخْلَةُ مُباركةٌ في جميع أحوالِها، فمِنْ حين تطلع إلى أنْ تَيْبَسَ، تُؤكَلُ أنواعًا، ثم بعدَ ذلك يُنْتَفَعُ بجميعِ أجزائِها، حتى النَّوَى في عَلَفِ الدَّواب، واللِّيف في الحِبال. وكذلك بركةُ المُسلمِ عامَّة في جميع الأحوال، ونَفْعُه مُسْتَمِرٌّ له ولِغَيرِه حتى بعدَ موتِه.
ومن ذلك: النَّخْلَةُ وُصِفَتْ في الآية بأنها طيِّبةٌ؛ (كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ)، وهذا أعَمُّ مِنْ طِيبِ المَنْظَرِ والشَّكْلِ، ومِنْ طِيبِ الرِّيحِ، ومِنْ طِيبِ الثَّمَرِ، وطِيبِ المَنْفَعَةِ، والمُسْلِمُ أجَلُّ صِفاتِه الطِّيبُ في أقوالِه وأعمالِه، وشُؤونِه كلِّها، وأحوالِه جميعِها، في ظاهرِه وباطِنِه، وسِرِّه وعَلَنِه.
ومِنْ أَهَمِّ أَوْجُهِ الشَّبَهِ: قال رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَثَلُ الْمُؤْمِنِ مَثَلُ النَّخْلَةِ، مَا أَخَذْتَ مِنْهَا مِنْ شَيْءٍ نَفَعَكَ"(صحيح، رواه الطبراني)، فالنَّخْلَةُ كلُّها مَنْفَعَةٌ، لا يَسْقُطُ منها شيءٌ بغيرِ مَنْفَعَةٍ، فثَمَرُها مَنْفَعَةٌ، وجِذْعُها فيه من المنافِعِ ما لا يُجْهَلُ للأبنية والسُّقوف وغيرِ ذلك، وسَعَفُها يُسْقَفُ به البيوتُ مكانَ القَصَب، ويُسْتَرُ به الفُرَجُ والخَلَل، وخُوصُها يُتَّخَذُ منه المَكاتِلُ، والزَّنابيلُ، وأنواعُ الآنية، والحُصُرُ وغيرُها، ولِيفُها وكَرَبُها فيه من المنافِعِ ما هو مَعْلومٌ عند النَّاس، وهكذا شأنُ المُسْلِمِ مع إخوانِه وجُلَسائِه ورُفَقائِه، لا يُرَى فيه إلاَّ الأخلاقُ الكريمة، والآدابُ الرَّفيعة، والمعاملةُ الحَسَنَة، والنُّصْحُ لجلسائه.
الخطبة الثانية:
الحمد لله...
أيها المسلمون: ومِنْ أَوْجُهِ الشَّبَهِ بَينَ المُسْلِمِ والنَّخْلَةِ:
أنَّ النَّخْلَ بينه تفاوتٌ عَظِيمٌ في شَكْلِه، ونَوْعِه، وثَمَرِه، فليست النَّخِيلُ في مُستوىً واحدٍ في الحُسْنِ والجَودَةِ، بل بينه من التَّفاوُتِ والتَّمايُزِ الشَّيءُ الكثير، كما قال -تعالى-: (وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ)[الرعد: 4] ، فبعضُه أفضلُ من بعضٍ في الطَّعْمِ والنَّوْعِ والمَنْظَرِ.
والمُسْلِمون أيضًا متفاوتون في الإيمان، ولَيْسوا على درجةٍ واحدة، بل بينهم من التَّفَاوُتِ والتَّفَاضُلِ الشَّيءُ الكثير، قال -تعالى-: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ -بِفِعْلِ بَعْضِ المعاصي- وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ -وهو المُؤَدِّي للواجبات، المُجْتَنِبُ للمُحرَّمَات- وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ -أي: مُسَارِعٌ مُجْتَهِدٌ في الأعمالِ الصَّالحة، فَرْضِها ونَفْلِها- بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ)[فاطر: 32].
ومن ذلك: النَّخْلَةُ أصْبَرُ الشَّجَرِ على الرِّيَاحِ والجَهْد، وغيرُها من الدَّوحِ العِظامِ تُميلُها الرِّيَاحُ تارة، وتَقلعُها تارة، ولا صَبْرَ لِكَثيرٍ منها على العَطَشِ كَصَبْرِ النَّخْلَةِ، وكذا المُسْلِمُ صَبورٌ على البَلاءِ، لا تُزَعْزِعُه الرِّيَاحُ، وقد اجْتَمَعَ فيه أنواعُ الصَّبْرِ الثلاثة: الصَّبْرُ على الطَّاعَةِ، والصَّبْرُ عن المَعْصِيَةِ، والصَّبْرُ على الأَقْدارِ المُؤْلِمَةِ.
ومنها: النَّخْلَةُ كُلَّمَا طال عُمْرُها، ازدادَ خَيْرُها، وجادَ ثَمَرُها، وهكذا المُسْلِمُ إذا طال عُمْرُهُ، ازدادَ خيرُه، وحَسُنَ عَمَلُه، قال رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "خَيْرُ النَّاسِ مَنْ طَالَ عُمْرُهُ، وَحَسُنَ عَمَلُهُ"(صحيح، رواه أحمد والترمذي والحاكم).
ومنها: قَلْبُ النَّخْلَةِ -وهو الجُمَّارُ- حُلْوُ الطَّعْمِ، جَمِيلُ المَذاقِ، وهو مِنْ أطْيَبِ القلوبِ وأَحْسَنِها، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَأُتِيَ بِجُمَّارٍ فَقَالَ: "إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةً مَثَلُهَا كَمَثَلِ الْمُسْلِمِ"، فَأَرَدْتُ أَنْ أَقُولَ هِي النَّخْلَةُ، فَإِذَا أَنَا أَصْغَرُ الْقَوْمِ فَسَكَتُّ، قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "هِيَ النَّخْلَةُ"(رواه البخاري)، وكذا قَلْبُ المُسْلِمِ من أَطْيَبِ القُلوبِ وأحْسَنِها، لا يَحْمِلُ إلاَّ الخَيْرَ، ولا يُبْطِنُ سِوَى الاستقامَةِ، والصَّلاحِ، والسَّلامَةِ.
ومِنْ أَوْجُهِ الشَّبَهِ: النَّخْلَةُ لا يَتَعَطَّلُ نَفْعُها أبدًا، بل إِنْ تَعَطَّلَتْ منها مَنْفَعَةٌ ففيها مَنَافِعُ أُخَرَ في سَعْفِها وخُوصِها، ولِيفِها وكَرَبِها، وهكذا المُسْلِمُ لا يَخْلُو عن شيءٍ من خِصَالِ الخَيرِ قَطُّ، بل إنْ أَجْدَبَ منه جانِبٌ من الخير، أخْصَبَ منه جانِبٌ، فلا يزال خَيْرُه مَأْمُولًا، وشَرُّه مَأْمُونًا، قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "خَيْرُكُمْ مَنْ يُرْجَى خَيْرُهُ، وَيُؤْمَنُ شَرُّهُ، وَشَرُّكُمْ مَنْ لاَ يُرْجَى خَيْرُهُ، وَلاَ يُؤْمَنُ شَرُّهُ"(صحيح، رواه الترمذي).
ومنها: النَّخْلَةُ سَهْلٌ تَنَاوُلِ ثَمَرِها، ومُتَيَسِّرٌ، فهي إمَّا قَصِيرَةٌ فلا يَحْتَاجُ المُتَنَاوِلُ أنْ يَرْقَاها، وإمَّا باسِقَةٌ فصُعودُها سَهْلٌ بالنسبة إلى صُعودِ الشَّجَرِ الطِّوَالِ غيرِها، فتَراها كأنَّها قد هُيِّئَتْ منها المَراقِي والدَّرَجُ إلى أعلاها، وكذلك المُسْلِمُ خَيْرُه سَهْلٌ قَرِيبٌ، لِمَنْ رامَ تناوُلَه، لا بِالغِرِّ، ولا بِاللَّئِيمِ.
التعليقات