اقتباس
فالمسجد الحرام هو أول المساجد، وأفضلها على الإطلاق، وفيه تضاعف الأجور؛ فعن جابر -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "صلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه...
طبيعي أن تشتاق القلوب إلى الحدائق الغناء والرياض النضرة، وإلى شواطئ البحار ومصابات الأنهار، وإلى كل ممتع مشوق جميل... لكن غير الطبيعي هو أن تشتاق القلوب وتهفو الأفئدة إلى صحراء جرداء لا زرع فيها ولا ماء!... لكن العجب يزول حين ندرك أنها استجابة لدعوة الخليل إبراهيم -عليه السلام-: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ)[إبراهيم: 37]، يقول ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير: "لو قال: "أفئدة الناس" لازدحم عليه فارس والروم واليهود والنصارى والناس كلهم، ولكن قال: "من الناس" فاختص به المسلمون"(تفسير ابن كثير).
وإنك إذا أتيت المسجد الحرام -بعد شوق دفعك إليه وحنين علقك به- فأحرمت ودخلت الحرم واجتزت باب المسجد الحرام فوقعت عينك على الكعبة المشرفة ارتجف قلبك واهتاجت مشاعرك وتتابعت عبراتك واهتز كيانك؛ فأي جلال وأي بهاء وأي هيبة! أي رفعة وأي عظمة وأي تفرد! إنه بيت الله المعظم وكفى.. إنه حيث تتنزل الرحمات، وتجاب الدعوات، وتُغفر الزلات، وتُفرَّج الكربات، وتعم النفحات..
***
ولقد بدأ تاريخ البيت الله الحرام مع بداية وجود البشرية على وجه الأرض، فقد بناها آدم -عليه السلام-، وقيل: بنتها الملائكة، وليس على أحدهما دليل قاطع، لكن المهم أن الكعبة المشرفة هي أول بيت لله بُني في هذه الدنيا لعبادته -عز وجل-، يقول -تعالى-: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ)[آل عمران: 96]، و"سبب نزول هذه الآية: أن اليهود قالوا للمسلمين: بيت المقدس قبلتنا وهو أفضل من الكعبة وأقدم وهو مهاجر الأنبياء وقبلتهم وأرض المحشر، وقال المسلمون: بل الكعبة أفضل، فأنزل الله هذه الآية"(تفسير الخازن).
ولقد سأل أبو ذر -رضي الله عنه- رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله: أي مسجد وضع في الأرض أول؟ قال: "المسجد الحرام" قلت: ثم أي؟ قال: "المسجد الأقصى" قلت: كم بينهما؟ قال: "أربعون سنة"(متفق عليه)
فالمسجد الحرام هو أول المساجد، وأفضلها على الإطلاق، وفيه تضاعف الأجور؛ فعن جابر -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "صلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه"(رواه ابن ماجه، وصححه الألباني).
ويقول المؤرخون أن الكعبة ظلت بلا أسوار حولها إلى عهد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، بل كانت البيوت تحيط بها من جميع الجهات مع ترك ممرات بين البيوت ليمر منها الناس إلى الكعبة المشرفة، فلما كان عهد الفاروق عمر جعل حول الكعبة سورًا، فهو أول من صنع ذلك.
***
وما زالت الكعبة من قديم رمزًا لأهل الإيمان، وغيظًا لأهل الزيغ والكفران، وكم من قاصد لها بسوء قد أهلكه الله -عز وجل- وأخزاه، ولعل أقدم محاولة لهدم الكعبة يمكننا توثيقها بما لا يدع مجالًا للشك فيها هي محاولة أبرهة الأشرم حين بني القليس ليحج إليه الناس بدلًا من الكعبة المشرفة فلم يقصد إليه أحد، فجُنَّ جنونه وجيَّش لها جيشًا قويًا مدعومًا بالأفيال لهدم الكعبة، ففر منه أهل مكة إلى الجبال، واشتهرت عندها مقولة عبد المطلب جد نبينا -صلى الله عليه وسلم-: "للبيت رب يحميه".
ولقد حمى الجليل -سبحانه وتعالى- بيته؛ فأرسل على أبرهة وجنده طيرًا أبابيل من السماء فأهلكتهم: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ)[سورة الفيل كلها]، وكانوا عبرة لمن بعدهم.
ولكن السؤال الملح هنا يقول: فلماذا لم يحم الجليل -سبحانه وتعالى- بيته مرة أخرى لما قصده القرامطة الخبثاء ليهدموه وسرقوا الحجر الأسود وظل في حوزتهم أكثر من عشرين سنة! فلماذا لم يرسل الله -تعالى- عليهم الطير الأبابيل كما أرسلها على الأولين؟!
يجيب العلماء فيقولون: إنما تكفل الله -عز وجل- بحماية الكعبة زمان أبرهة لأنه لم تكن للإسلام دولة قائمة تقوم على البيت وتمنعه من كارهيه، لكن في زمان القرامطة كانت للإسلام دولة، وكان على الأرض مسلمون موحدون، فأسند الله -تعالى- مهمة حماية البيت إليهم.
ويبدو أنه سيأتي زمان آخر ولا يكون للمسلمين فيه قوة ولا منعة، فيتكفل الله -عز وجل- مرة أخرى بحماية بيته؛ فعن عائشة -رضي الله عنها-، قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يغزو جيش الكعبة، فإذا كانوا ببيداء من الأرض، يخسف بأولهم وآخرهم"، قالت: قلت: يا رسول الله، كيف يخسف بأولهم وآخرهم، وفيهم أسواقهم، ومن ليس منهم؟ قال: "يخسف بأولهم وآخرهم، ثم يبعثون على نياتهم"(متفق عليه).
ومما يؤيد أنه لن تكون للمسلمين وقتها منعة ما جاء في رواية مسلم: "سيعوذ بهذا البيت -يعني الكعبة- قوم ليست لهم منعة ولا عدد ولا عدة، يبعث إليهم جيش، حتى إذا كانوا ببيداء من الأرض خسف بهم"، يقول ابن حجر العسقلاني: "ذلك محمول على أنه يقع في آخر الزمان قرب قيام الساعة حيث لا يبقى في الأرض أحد يقول: "الله الله"، كما ثبت في صحيح مسلم "(فتح الباري).
ولن تزال الأيام تمر وتكر حتى تتمخض لنا الحبشة عن أبرهة آخر يلقب بـ"ذي السويقتين" يريد هدم الكعبة كسابقه، لكنه سيخلى هذه المرة بينه وبين غايته فيخرِّبها؛ فيحكي لنا رسولنا -صلى الله عليه وسلم- فيقول: "يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة"(متفق عليه)، وليس فقط يخربها، بل ويسرق كنزها كذلك؛ فعند أبي داود بسند حسن: "اتركوا الحبشة ما تركوكم، فإنه لا يستخرج كنز الكعبة إلا ذو السويقتين من الحبشة".
يفعل هذا وهو الضعيف القبيح، ويجرد الكعبة من كسوتها ومن زينتها، وتلك من علامات الساعة؛ ففي رواية أحمد أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة، ويسلبها حليتها، ويجردها من كسوتها، ولكأني أنظر إليه أصيلع أفيدع، يضرب عليها بمسحاته ومعوله"، و"أفيدع" تصغير: "أفدع"، والفدع ضعف في القدمين والساقين والتواء فيهما، وفي البخاري: "كأني به أسود أفحج، يقلعها حجرًا حجرًا"، والفحج هو تباعد ما بين الساقين.
فلنتمتع -عباد الله- بالكعبة قبل أن تُزال، ولنحج ولنعتمر ولنطف بالبيت الحرام، ففيه الشرف والأجر والسؤدد... وهذا بعض ما أقمنا هذا الملف العلمي الشامل من أجله؛ نتعرف على تاريخ بيت الله الحرام، ثم نستقصي بعض فضائله وشمائله، ثم نعود ونتعرف عن ملحقاته وما يجاوره من مشاعر، ونتواصي بواجباتنا تجاهه، وأخيرًا ننظر كيف يكون مآل البيت المعظم ومصيره في آخر الزمان... منتظمين كل ذلك وغيره في المحاور الست التالية:
التعليقات