عناصر الخطبة
1/ وضوح الشريعة ويسرها 2/ الفرق بين فعل الخيرات والمسابقة إليها 3/ ثمرات المبادرة والمسارعة في عمل الخير 4/ الحث على أداء الحج والتحذير من تركهاهداف الخطبة
اقتباس
إن استطعت ألا يسبقك إلى الله أحد فافعل.. فالمسابقة إلى الخيرات خُلُق لا يتصف به إلا المؤمن الصادق, والمسارعة إلى أعمال البر طبعٌ لا يتخلق بها إلا من وهبه الله -تعالى- رجاحة في العقل وانشراحا في الصدر وسلامة في القلب.. والمسابقة إلى مغفرة الله ورضوانه وجنته، تكون بفعل أسباب المغفرة، من التوبة النصوح، والاستغفار النافع، والبعد عن الذنوب ومظانها...
الخطبة الأولى:
أيها الإخوة: لقد خلقنا الله -تعالى- وأسكننا في هذه الأرض، وأبان لنا طُرق الخير وأمرنا بفعلها، وأوضح لنا طرق الضلال ونهانا عن سلوكها، بل ارتقى بتوجيهنا إلى منزلةٍ أسمى وأعلا فحثنا على المسارعة بفعل الخيرات، والمسابقة إلى الصالحات فقال: (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [البقرة:148].
يقول الشيخ السعدي -رحمه الله-: "الأمر بالاستباق إلى الخيرات قَدْرٌ زائدٌ على الأمر بفعلِ الخيرات، فإن الاستباقَ إليها، يتضمنُ فعلها، وتكميلها، وإيقاعها على أكمل الأحوال، والمبادرة إليها.. ومن سبق في الدنيا إلى الخيرات، فهو السابق في الآخرة إلى الجنات، فالسابقون أعلى الخلقِ درجةً.. والخيرات تشمل جميع الفرائض والنوافل، من صلاة، وصيام، وزكوات وحج، عمرة، وجهاد، ونفع متعد وقاصر"..
ويقول سبحانه: (.. وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) [المائدة:48]، (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ) أي: بادروا إليها وأكملوها، فإن الخيرات الشاملة لكل فرض ومستحب، من حقوق الله وحقوق عباده، لا يصير فاعلها سابقًا لغيره مستوليًا على الأمر، إلا بأمرين:
المبادرةُ إليها، وانتهازُ الفرصةِ حين يجيءُ وقْتُها ويعرضُ عارضُها، والاجتهاد في أدائِها كاملةً على الوجهِ المأمور به.
ويُستدلُ بهذه الآية على أنه ينبغي أن لا يقتصر العبد على مجردِ ما يُجْزِئُ في الصلاةِ وغيرها من العبادات من الأمور الواجبة، بل ينبغي أن يأتي بالمستحبات، التي يقدر عليها لتتم وتكمل، ويحصل بها السبق.
أيها الإخوة: المسارعة إلى الخيرات والاستباق إلى فعلها هي من صفات فئة من المؤمنين بلغوا الذروة في الخيرية بما وُفقوا له من أعمال صالحة وبما اعتلج في نفوسهم من يقين وخشية لله قال تعالى في وصفهم: (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ) [المؤمنون: 57-61].
أي: في ميدان التسارع في أفعال الخير، همهم ما يقربهم إلى الله، وإرادتهم مصروفة فيما ينجّي من عذابه، فكل خير سمعوا به، أو سنحت لهم الفرصة إليه، انتهزوه وبادروه، قد نظروا إلى أولياء الله وأصفيائه، أمامهم، ويمنة، ويسرة، يسارعون في كل خير، وينافسون في الزلفى عند ربهم، فنافسوهم..
ولما كان السابق لغيره المسارع قد يسبق لجده وتشميره، وقد لا يسبق لتقصيره، أخبر تعالى أن هؤلاء من القسم السابقين فقال: (وَهُمْ لَهَا) أي: للخيرات (سَابِقُونَ) قد بلغوا ذروتها، وتباروا هم والرعيل الأول، ومع هذا، قد سبقت لهم من الله سابقة السعادة، أنهم سابقون.
أيها الإخوة: وحث النبي -صلى الله عليه وسلم- على المبادرة والمسارعة في عمل الخير, قبل أن تتغير النفوس وتتقلب القلوب, عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ؛ يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا، وَيُمْسِى كَافِرًا، وَيُمْسِى مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا؛ يَبِيعُ أَحَدُهُمْ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا". رواه مسلم وغيره.
ومعنى الحديث الحث على المبادرة إلى الأعمال الصالحة قبل تعذرها والاشتغال عنها بما يحدث من الفتن الشاغلة المتكاثرة المتراكمة كتراكم ظلام الليل المظلم لا المقمر. ولعظم الفتن بها ينقلب الإنسان من الإيمان للكفر وعكسه في اليوم الواحد يبيع أحدهم دينه بقليل من حطام الدنيا عُرِضَ له.
أيها الإخوة: أهل اليقظة وعمال الآخرة، قلوبهم معمورة بذكر الله، ومعرفته ومحبته، وقد أشغلوا أوقاتهم بالأعمال التي تقربهم إلى الله، من النفع القاصر والمتعدي...
أيها الأخ المبارك: إن استطعت ألا يسبقك إلى الله أحد فافعل.. فالمسابقة إلى الخيرات خُلُق لا يتصف به إلا المؤمن الصادق, والمسارعة إلى أعمال البر طبعٌ لا يتخلق بها إلا من وهبه الله -تعالى- رجاحة في العقل وانشراحا في الصدر وسلامة في القلب..
والمسابقة إلى مغفرة الله ورضوانه وجنته، تكون بفعل أسباب المغفرة، من التوبة النصوح، والاستغفار النافع، والبعد عن الذنوب ومظانها، والمسابقة إلى رضوان الله بالعمل الصالح، والحرص على ما يُرضي الله على الدوام، من الإحسان في عبادة الخالق، والإحسان إلى الخلق بجميع وجوه النفع.. اللهم وفقنا للمسارعة إلى الخيرات واجعلنا من السابقين إليها يا كريم
يقول الله -تبارك وتعالى-: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ، سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [الحديد:20-21].
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات...
الخطبة الثانية:
أما بعد: أيها الإخوة: اتقوا الله -تعالى-، وأدوا ما فرضه عليكم من الحج إلى بيته الحرام متى استطعتم إليه سبيلاً، فقد قال: (وَلِلهِ عَلَى الناسِ حِجُ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَ اللهَ غَنِيٌ عَنِ الْعَالَمِينَ) [آل عمران:97].
وأكد الرسول -صلى الله عليه وسلم- هذا الأمر الرباني في عدد من الأحاديث، منها حديث سؤال جبريل -عليه السلام- لرسول الله، وفيه: أَخْبِرْنِي عَنْ الإِسْلامِ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "الإِسْلامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ وَأَن مُحَمَدًا رَسُولُ اللهِ، وَتُقِيمَ الصلاةَ، وَتُؤْتِيَ الزكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَ الْبَيْتَ إِنْ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلاً". رواه مسلم.
وعنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: "أَيُهَا النَاسُ، قَدْ فَرَضَ اللَهُ عَلَيْكُمْ الْحَجَ فَحُجُوا"، فَقَالَ رَجُلٌ: أَكُل عَامٍ يَا رَسُولَ اللَهِ؟! فَسَكَتَ حَتَى قَالَهَا ثلاثًا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ، وَلَمَا استطعتم"، ثُمَ قَالَ: "ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ؛ فَإِنَمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَائتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ". رواه مسلم.
وَعَنْ الْحَسَنِ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَابِ: "لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَبْعَثَ رِجَالاً إلَى هَذِهِ الأَمْصَارِ فَيَنْظُرُوا كُلَ مَنْ كَانَ لَهُ جِدَةٌ ولم يحُج فيضربوا عَلَيْهِمْ الْجِزْيَةَ، مَا هُمْ بِمُسْلِمِينَ، مَا هُمْ بِمُسْلِمِينَ".
وعن ابْنِ عَبَاسٍ عَنْ النَبِيِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "تَعَجَلُوا إلَى الْحَجِ -يَعْنِي الْفَرِيضَةَ- فَإِنّ أَحَدَكُمْ لا يَدْرِي مَا يَعْرِضُ لَهُ". رَوَاهُ أَحْمَدُ.
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَاسٍ عَنْ الْفَضْلِ أَوْ أَحَدهُمَا عَنْ الآخَرِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ أَرَادَ الْحَجَ فَلْيَتَعَجَلْ؛ فَإِنَهُ قَدْ يَمْرَضُ الْمَرِيضُ، وَتَضِلُ الرَاحِلَة، وَتَعْرِضُ الْحَاجَة". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَه. وقال الألباني: حديث حسن.
وقال شيخ الإسلام -رحمه الله- بعدما ساق الأحاديث: "وَهَذَا التَّغْلِيظُ يَعُمُّ مَنْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ الْفَوَاتُ، وَهُمْ أَكْثَرُ النَّاسِ، وَمَنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ فَفِي تَأْخِيرِهِ –أي: الحج- تَعَرُّضٌ لِمِثْلِ هَذَا الْوَعِيدِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ، وَإِنَّمَا لَحِقَهُ هَذَا؛ لِأَنَّ سَائِرَ أَهْلِ الْمِلَلِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لَا يَحُجُّونَ، وَإِنْ كَانُوا قَدْ يُصَلُّونَ، وَإِنَّمَا يَحُجُّ الْمُسْلِمُونَ خَاصَّةً..
وَأَيْضًا فَإِنَّ الْحَجَّ تَمَامُ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ بُنِيَ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ، وَحَجِّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا؛ وَلِهَذَا لَمَّا حَجَّ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْزَلَ اللَّهُ قَوْلَهُ تَعَالَى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) [المائدة:3]، وَكَانَتْ شَرَائِعُ الْإِسْلَامِ تَنْزِلُ شَيْئًا فَشَيْئًا فَصَارَ الْحَجُّ كَمَالَ الدِّينِ وَتَمَامَ النِّعْمَةِ؛ فَإِذَا لَمْ يَحُجَّ الرَّجُلُ لَمْ يَكُنْ إِسْلَامُهُ وَدِينُهُ كَامِلاً بَلْ يَكُونُ نَاقِصًا، وَلَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَتْرُكَ دِينَهُ نَاقِصًا، كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُخِلَّ بِالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالزَّكَاةِ بَعْدَ وُجُوبِهَا.." اهـ.
وبعد: اعلموا –أحبتي- أن الخير كل الخير في المبادرة بأداء الحج عن النفس والإذن لمن تحت يدنا ممن ولانا الله أمرهم من النساء، ولمن تحت أيدينا من المكفولين وغيرهم، فبادروا بالحج -وفقني الله وإياكم- وإياكم التسويف؛ فإنه مطية من مطايا إبليس، نعوذ بالله منه.
التعليقات